الدكتور حسن حنفي
الدكتور حسن حنفي (1935-2021) هو مفكر مصري، أحد منظري تيار اليسار الإسلامي، معروف بمشروع التراث والتجديد ، ويعتمد بشكل أساسي على مناهج التأويل والظاهرتية.
حياته
ولد الدكتور حسن حنفي بالقاهرة، وتخرج من كلية الآداب، قسم الفلسفة جامعة القاهرة عام 1956. سافر إلى فرنسا في نفس العام على نفقته الخاصة للدراسات العليا، حيث حصل على الماجستير ثم درجة دكتوراة الدولة من جامعة السوربون عام 1966. ابتداء من عام 1967 عمل مدرسا بكلية الآداب جامعة القاهرة. في الفترة من عام 1971 إلى عام 1975 عمل في جامعة تمبل بالولايات المتحدة، ثم عاد لجامعة القاهرة في الفترة من عام 1976 إلى عام 1981، وانضم خلالها إلى حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدي، وهو الحزب اليساري المعروف. في سبتمبر عام 1981 فصل من الجامعة مع من فصلوا من أساتذة الجامعات الذين عارضوا معاهدة السلام مع اسرائيل، ولكنه عاد إلى الجامعة في ابريل عام 1982. عمل حنفي بجامعة محمد بن عبد الله بفاس لمدة عامين (1982-1984)، ثم بعدها انتقل للعمل بجامعة طوكيو باليابان في الفترة بين (1984-1987)، كما عمل مستشارا لبرامج البحث العلمي لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو أيضا. عاد حنفي إلى القاهرة عام 1987، حيث أشرف مع آخرين على إعادة تأسيس الجمعية الفلسفية المصري عام 1989 وشغل منصب السكرتير العام للجمعية منذ هذا التاريخ.
مشروع التراث والتجديد
أولا: الجذور
ترجع جذور مشروع التراث والتجديد عند حنفي إلى مرحلة الدراسة لدرجة الدكتوراة في باريس.
يتكون مشروع "التراث والتجديد"، كما يبين حنفي، من جبهات ثلاثة: موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع (نظرية التفسير). ولكل جبهة بيان نظري. ويضيف، كنا قد حددنا هذا المشروع الثلاثي الجبهات من قبل ربع قرن من الزمان منذ 1965/1966 في رسائلنا الجامعية الثلاثة، "مناهج التفسير، محاولة في علم أصول الفقة"، "تفسير الظاهريات، الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين"، و "ظاهريات التفسير، محاولة لتفسير وجودي للعهد الجديد". (مقدمة في علم الاستغراب – ص 9-10 )
ثانيا: المسار الفكري
يبين الدكتور حنفي كيف تم اختيار "علم الأصول" موضوعا للدكتوراة في باريس عام 1956، ويوضح مساره الفكري في مرحلة التكوين ابتداء من التأثر بفكر الإخون المسلمين ثم الحوار والتلاقح مع أساتذته في السوربون ما أنتج التصورات النهائية للمشروع، كما يلي،
استمعت لنقاش بين المرحوم مصطفى حلمي وطالب هو رشدي راشد، وهو الآن العالم الكبير في تاريخ العلوم بباريس، عن نقد ابن تيمية للمنطق ومحاولته وضع منطق جديد، نقد الصورية الأرسطية ووضع منطق حسي مادي تجريبي. وقد كنا ننتسب للإخوان المسلمين في ذلك الوقت، ونقرأ أبا الأعلى المودودي "منهاج الانقلاب الإسلامي" وسيد قطب "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته". كان الهاجس التجديد والإبداع والأصالة. وكانت فكرة أن الإسلام منهج، منهج فكر وحياة من الأفكار التي ورثناها من الحركة الإصلاحية كما لاحظ ذلك لاوست وأنا أقدم له خطة رسالة الدكتوراة الأولى عن "المنهج الإسلامي العام" عام 1956.
وبعد مغادرتي إلى باريس نفس العام بعد التخرج بأربعة أشهر بين تأميم القناة في يوليو 1956 والعدوان الثلاثي في أكتوبر 1956 بدأت فكرة "المنهاج الإسلامي العام" وقدمتها كمشروع للدكتوراة تنهل من مصادرها الإصلاحية منذ الأفغاني إلى سيد قطب. أراد لاوست إرجاعه إلى مصادره التاريخية وتوجيه دراستي إلى الفكر الإصلاحي التاريخي بينما كنت أريد تجاوزه بمزيد من التنظير. وأراد فال J. Wahl أن أدرس كانط الذي يجمع بين القبلي والبعدي، أي بين الوحي والعقل. أما ماسينيون فقد أراد أن أبقي على فكرتي "المنهاج الإسلامي العام" وأؤصلها في علم أصول الفقه، وهو التفكير المنهجي في الإسلام، واتباعا لنصيحة الشيخ مصطفى عبد الرازق... وطلب من برنشفيج مدير معهد الدراسات الإسلامية بالسربون تسجيل الموضوع معه إداريا لأن ماسينيون كان بالكوليج دي فرانس التي لا تعطي درجات علمية، فالعلم فيها للعلم. وكان برنشفيج فقيها أكثر منه أصوليا، مؤرخا أكثر منه فيلسوفا. وقبل على مضض الرسالة التي تبدأ من علم أصول الفقه وتصب في الظاهريات. وهو ما قاله اتين جيلسون عندما قرأ الرسالة للمناقشة وكان من ممثلي التوماية "هذه أول مرة أرى فيها أحدا يدرس وحي إبراهيم بطريقة جان بول سارتر، يدرس القديم بلغة الجديد". وقد لاحظ المستشرقون على مدى عشرة أعوم أنه لا يشرف على إلا "رينان" المستشرق الفيلسوف لأنني "عربي بين ثقافتين"، وكلانا إسلامي هيجلي. (من النص إلى الواقع – الجزء الأول ص6)
ويوضح حنفي بعد ذلك نتيجة هذا التلاقح كما يلي،
ومن هنا بدأ مشروع إعادة كتابة تاريخ الوعي الأوروبي من منظور إسلامي، وإعادة كتابة تاريخ الوعي الإسلامي من منظور المثالية الترنسندنتالية التي هي حلقة الوصل بين الحضارتين، الغزالي وديكارت، الفارابي وكانط، ابن سينا وهيجل، التوحيدي وكيركجارد، ابن عربي أو صدر الدين الشيرازي وهيدجر. وقد ظهر في ثلاثية الشباب. كانت "مناهج التفسير" محاولة لقراءة علم أصول الفقه من منظور الفلسفة الترنسندنتالية في مرحلتها الأخيرة، فلسفة الوعي في الظاهرات. وكانت "ظاهريات التفسير" محاولة لإعادة قراءة علم النقد التاريخي للكتب القديمة مطبقا على "الإنجيل" من منظور علم أصول الفقه. أما "تفسير الظاهريات" فهي محاولة لتجاوز حوار الحضارات، والمرآة المزدوجة، والقراءة المتبادلة إلى "علم التفسير الشامل" أو "الهرمنيوطيقا العامة" كما حاول ابن سينا في نهاية كتاب "الشعر" بعد أن قرأ الشعر العربي من منظور أرسطي وقرأ كتاب الشعر لأرسطو من منظور الشعر العربي والتطلع إلى تأسيس "علم الشعر المطلق" في جيل لاحق، وكما حاول ابن خلدون في آخر "المقدمة" التنبؤ بجيل جديد يعيد كتابتها ويؤسس فلسفة التاريخ أو علم التاريخ. (فشتة فيلسوف المقاومة – ص 7)
ثالثا: الإطار العام لمشروع التراث والتجديد
في هذا الإطار من التلاقح بين فكرتين متباعدتين، أحدهما إسلامية، تعبر عن وجود منهاج عام إسلامي، والأخرى غربية تعبر عن أدوات منهجية حداثية، يثور السؤال تلقائيا، ما الدافع وراء ذلك وما هو الهدف أو الغرض من ورائه.
1-القضية
عند حنفي وكما ظهر فيما بعد من تطبيق للمشروع، الدافع هو وجود قضية جوهرية في فكر النهضة العربية هي التحول إلى الحداثة "الفكرية"، مع الحفاظ في نفس الوقت على جوهر فكرنا العربي الإسلامي. وهذه الفكرة طرحت في فكر النهضة بصور متعددة أبرزها قضية الأصالة والمعاصرة. وكانت الاستجابة في المرحلة الأولى لفكر النهضة العربية (أي منذ الثلث الأول للقرن التاسع عشر الميلادي إلى عام 1976 تقريبا) في الأغلب سطحية فيما سمي في الكتابات المتأخرة بالتوفيقية. يرى حنفي أنه من الممكن إيجاد حل أكثر عمقا من خلال مشروعه، ويبين ذلك كما يلي،
ليست القضية هي "تجديد التراث" أو "التراث والتجديد" لأن البداية "التراث" وليس "التجديد" من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي. التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد. والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحل مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته، وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره. (التراث والتجديد –الطبعة الثالثة، ص 13)
ويضيف، قضية "التراث والتجديد" هي أيضا قضية إعادة الاحتمالات في المسائل المطروحة، وإعادة الاختيار طبقا لحاجات العصر، فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيدا ولا مطلوبا، فكلنا موحدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد بأتي عن طريق ربطه بالأرض، وهي أزمتنا المعاصرة. (التراث والتجديد –ص 21)
يدلل حنفي على وجهة نظره بضرورة أن يكون التحول إلى الحداثة في الفكر (أي نحو المناهج الحديثة) معتمدا على أسس نظرية من داخل الذات (أي التراث) من أجل تجنب التوفيقية السطحية، في السطور التالية،
ساد الاختيار الأشعري أكثر من عشرة قرون، وقد تكون هذه السيادة إحدى معوقات العصر لأنها تعطي الأولوية لله في الفعل وفي العلم وفي الحكم وفي التقييم في حين أن وجداننا المعاصر يعاني من ضياع أخذ زمام المبادرة منه بسم الله مرة، وباسم السلطان مرة أخرى. ومن ثم الاختيار البديل، الاختيار الاعتزالي، الذي لم يسد لسوء الحظ إلا قرنا أو قرنين من الزمان، بلغت الحضارة الاسلامية فيها الذروة، هذا الاختيارقد يكون أكثر تعبيرا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه. ما رفضناه قديما قد نقبله حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا، فكل الاحتمالات أمامنا متساوية كما كان الحال عند القدماء – فقبلوا منها ما عبر عن حاجات عصرهم، وخطأنا نحن أننا نأخذ نفس الاختيار بالرغم من تغير حاجات العصر، فقد رفض المذهب الطبيعي قديما لأنه كان خطرا على التوحيد وفاعليته، ولكنه قد يقبل حاليا لأن فيه عود الإنسان إلى الطبيعة منظرا إياها، وفاعلا فيها، ومكتشفا لقوانينها بدلا من فصم نفسه عنها، وإسقاطها من حسابه بالتركيز على التوحيد القديم. (التراث والتجديد –ص 22)
2-المهمة
وإذا كان الدافع نحو المشروع هو تجاوز الفكر التوفيقي والأداة هي المناهج الحديثة فإن الهدف هو التوصل إلى بدائل "نظرية" جديدة تكون مؤسسة في التراث ولكنها في نفس الوقت تعطينا مساحة أوسع أو إمكانيات أكبر للتحول نحو الحداثة، يبين ذلك كما يلي،
مهمة "التراث والتجديد" إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة بل ووضع احتمالات جديدة، واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد مقياس صوب وخطأ نظري للحكم عليها بل لا يوجد إلا مقياس عملي. فالاختيار المنتج الفعال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب. ولا يعني ذلك أن باقي الاختيارات خاطئة بل يعني أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى، وعصور أخرى ولت أو ما زالت قادمة. وهذا لا يعني أن أصول الدين واحدة في كل زمان ومكان لا تتغير وإلا خلطنا بين الأصول والفروع، بين الدين والفقه، فالتوحيد ثابت ولكن تختلف أوجه فهمه لحاجات العصر، وحرية الإنسان وعقله ومسؤوليته ثابتة أيضا ولكن تختلف طرق ممارستها من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ومن وضع اجتماعي إلى وضع اجتماعي آخر. والتصور الدينامي للأصول هو أيضا احتمال مع التصور الثابت لها، والتصور العملي للعقائد هو أيضا احتمال أمام التصور النظري لها. ومن ثم يكون اتهام حضارتنا بأنها حضارة وحدة لا تعدد، وبأنها حضارة اتفاق لا اختلاف اتهاما باطلا لأن أهم ما يميز تراثنا القديم هو أنه أعطى مجموعة من الاحتمالات المتعددة تطايرت من أجلها الرقاب حين الاختيار بينها. فالاجتهاد ليس فقط منهجا في أصول الفقه بل هو أيضا منهج في أصول الدين، وليست وظيفته فقط هي القياس في الأحكام، وهي أفعال السلوك، بل أيضا في اختيار النظريات وأنسبها طبقا لحاجات العصر، فالاجتهاد يقوم بالتأسيس العلمي في علم أصول الفقه طبقا لقدرات الفرد ويقوم بالتأسيس النظري في علم أصول الدين طبقا لمتطلبات العصر. (التراث والتجديد – ص -22)
ويضيف كذلك، مهمة "التراث والتجديد" حل طلاسم الماضي مرة واحدة وإلى الأبد، وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور أحيانا على السطح وكثيرا من القاع. مهمته هي القضاء على معوقات التحرر واستئصالها من جذورها. وما لم تتغير جذور التخلف النفسية كالخرافة والأسطورة والانفعال والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخنوع فإن الواقع لن يتغير. وما أسهل أن يتبدل الشبح بالآلة والعفريت بالمحرك فكلاهما يؤدي نفس الغرض، فاستعمال الساذج للآلة لن يقضي على إيمانه بالجن والأشباح إلا إذا أعيد بناؤه النفسي، ومن ثم القضاء على طلاسم الماضي وأسراره إلى الأبد. مهمة "التراث والتجديد" التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا العقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة سواء كانت الموروث أو سلطة المنقول، سواء كانت سلطة التقاليد أم السلطة السياسية. مهمة "التراث والتجديد" هي تفجير طاقات الإنسان المختزنة المحاصرة بين القديم والجديد كحصار الإنسان في اللاهوت المسيحي بين آدم والمسيح، بين الخطيئة والفداء. (التراث والتجديد – ص 52)
وبشكل أكثر تحديدا تظهر الغاية التي اختارها حنفي والتي يرى أنها تحقق الهدف المنشود (تجاوز التوفيقية من خلال التجديد "النظري" من الداخل)، وهي تحويل العلوم القائمة على الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية) إلى علم (أو منظومة مترابطة من العلوم) بالمعنى الحديث المرتكز على العقل والتجربة. يطرح حنفي هذا التصور بالصورة التالية،
لا يعني "التراث والتجديد" أية نزعة توفيقية بين القديم والجديد لأن التوفيق بهذا المعنى عمل غير علمي يخضع لمزاج شخصي للباحث أو لاختيار مسبق للفيلسوف أو يقوم على هوى يقضي على موضوعية القديم والجديد على السواء، وهو الطرف الثالث الذي يتم التوفيق بناء عليه. ولكن يعني "التراث والتجديد" إعادة بناء علوم الغايات بكل الوسائل التي يتيحها العصر، وهي وسائل بيئية خالصة ناتجة عن ثقافتنا المعاصرة، وحاجات العصر. فإذا كان التوفيق يتعامل مع شيئين هما موضوعا التوفيق، كان "التراث والتجديد" يتعامل مع شيء واحد وهو التراث القديم. وإن عرض هذا التراث على حاجات العصر لا يعني توفيقا بين الإثنين وأخذ جزء من هذا مرة وجزء من ذاك مرة أخرى، بل يعني أن مطالب العصر هي أساس التفسير. فلا توجد علاقة أفقية يوضع فيها الطرفان على نفس المستوى بل علاقة رأسية توضع فيها حاجات العصر كأساس تحتي ثم التراث كمؤسس فوقي. (التراث والتجديد – ص 58)
ويضيف، بالرغم من أن التراث أعطانا علوما عقلية أربعة متمايزة هي الكلام والفلسفة والتصوف وأصول الفقه إلا أن الغاية النهائية من "التراث والتجديد" هي توحيد العلوم كلها في علم واحد يكون مرادفا للحضارة نفسها. فالعلوم كلها تحاول فهم الوحي وتحويله إلى نظرية كما هو الحال في الكلام والفلسفة أو إلى منهج كما هو الحال في الأصول والتصوف، ولكن الغاية النهائية هي تحويل الوحي ذاته إلى نظرية أو إلى علم أو إلى منهج أو إن شئنا إلى "منهاج". (التراث والتجديد – ص 172).
تحقيق هذا الهدف الطموح يتطلب ما يلي: أولا، تحديد الإطار النظري المختار من التراث للعمل عليه. ثانيا، تحديد المناهج المختارة من فكر الحداثة التي سيتم الاعتماد عليها. ثالثا، استخدام كليهما لمعالجة قضايا التراث "المهمة"، أي التي لها أثر كبير على فكرنا وسلوكنا المعاصر. وكما تبين أعلاه، كان الفكر الاعتزالي هو الإطار النظري المختار، كما كانت مناهج الظاهراتية والتأويل هي المناهج المختارة، بقي تحديد موضوعات التجديد، وأسلوب تحقيقه.
رابعا: المخطط العام لمشروع "التراث والتجديد"
موضوعات التجديد، طبقا للهدف المبين أعلاه، هي بالطبيعة موضوعات علوم التراث. ولكي تتحدد طبيعة وحدود عملية التجديد (أي التحول نحو الحداثة) يلزم وجود تصور "ذاتي" (أي عربي/إسلامي) لمفهوم الحداثة، وهذا يتطلب طرح فكر الحداثة "الغربية" كموضوع. وأخيرا يلزم تطبيق هذه التصورات التراثية/الحداثية في نفس الوقت على قضايا الواقع. في ظل هذه المتطلبات يظهر المخطط العام لمشروع "التراث والتجديد" بشكل طبيعي. يشرح حنفي عناصر هذا المخطط كما يلي،
"التراث والتجديد" هو العنوان العام للمشروع كله لأنه لا يعالج فقط مناهج البحث في التراث القديم بل يعالج التراث ذاته كمشكلة وطنية هي مشكلة الموروث وأثره النفسي على الجماهير وموقفنا بالنسبة له، ووسائل تطويره وتجديده. فالمعركة الحقيقية الآن معركة فكرية وحضارية ولا تقل أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة إن لم تكون أساسها. وإن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنها هزيمة عسكرية. وإن الخطر المداهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد، وانجرارنا إلى نقد الأصالة في تراثنا القديم ونقدنا المعاصرة التي حاولها تراثنا القديم مع الثقافات المعاصرة له. "التراث والتجديد" هو مشروع الأصالة والمعاصرة التي لم نستطع أن نحققها حتى الآن، وبعد توالي الهزائم، ولم نكن نلمسها إلا دعاية أو إدعاء.
ويضيف، يشمل "التراث والتجديد" ثلاثة أقسام، تعبر عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يحدد اتجاهات الدراسة والبحث.
يشمل القسم الأول من "التراث والتجديد" وهو "موقفنا من التراث القديم" سبعة أجزاء، كل جزء خاص بعلم قديم، ثم قسم ثامن على النحو الآتي:
الجزء الأول: علم الإنسان (من العقيدة إلى الثورة)
وهو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي. وقد بدأنا بهذا العلم لأنه أول العلوم الإسلامية من حيث الظهور، ومرتبط بالبيئة الإسلامية أشد ارتباط، ولم يخضع لأي أثر خارجي في نشأته، بل كان الدافع عليه الأحداث السياسية التي زخر بها العالم الإسلامي منذ الفتنة مما حدى بالبعض إلى اعتبار هذا العلم هو الفكر الإسلامي الأصيل، كما أنه أخطر العلوم التقليدية على الإطلاق على الإنسان والحياة.
الجزء الثاني: فلسفة الحضارة (من النقل إلى الإبداع)
وهو محاولة لإعادة بناء الفلسفة التقليدية، وتوضيح طبيعة العمليات الحضارية التي حدثت في الفلسفة الإسلامية القديمة نتيجة لتقابل الحضارة الإسلامية الناشئة مع الحضارة اليونانية الوافدة مع تناول ما حدث في عصرنا الحاضر منذ القرن الماضي من موقف مشابه من التقاء الحضارة الإسلامية الناهضة مع الحضارة الأوروبية الغازية.
الجزء الثالث: المنهج الأصولي (من النص إلى الواقع)
وهو محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه التقليدي. وهو سابق على التصوف لاحتياج المجتمع إلى التشريع قبل حاجته إلى الزهد. وهو العلم المنهجي الذي استطاع تحويل الوحي إلى منهج استنباطي استقرائي من حيث هو "علم التنزيل". وهو أفضل ما أخرجته الحضارة الإسلامية من حيث هو علم مستقل، بلغة علمية عقلية.
الجزء الرابع: المنهج الصوفي (من الفناء إلى البقاء)
وهو محاولة لإعادة بناء علوم التصوف باعتباره الممثل للمنهج الوجداني، وظهور الإنسان أخيرا فيه كبعد مستقل، واكتشاف الشعور كنقطة بداية لتأسيس العلم. ويجيء التصوف أخيرا لأنه كان رد فعل على أصول الفقه والفقه والمناهج العقلية بوجه عام في الكلام والفلسفة. كما أنه لم يتأسس كعلم قبل القرن الرابع، ولو أنه من حيث النشأة ظهر مبكرا كحركة زهد وعبادة وتحسر أيام الحكم الأموي كحركة مقاومة سلبية للداخل ومتجهة إلى أعلى وليس إلى الخارج ومنطلق إلى الأمام. والأصول والتصوف كلاهما يمثلان الفكر المنهجي في مقابل الكلام والفلسفة الذين يمثلان الفكر النظري.
الجزء الخامس: العلوم النقلية (من النقل إلى العقل)
وفيه تتم إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة: علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه. من أجل إسقاط المادة القديمة التي أصبحت بغير ذي دلالة مثل الآيات التي نسخت قراءاتها وحكمها أو تاريخ المصاحف وجمعها وإبراز الموضوعات ذات الدلالة مثل أسباب النزول (أولوية الواقع على الفكر)، الناسخ والمنسوخ (الزمن والتطور)...الخ. أما علم التفسير فإنه أيضا يعاد بناءؤه بحيث يتم تجاوز التفسير الطولي (سورة سورة وآية آية) وتجاوز التفسيرات اللغوية والأدبية والفقهية..الخ، وبداية التفسير الموضوع بوصف بناء الشعور ووضعه في العالم مع الآخرين ووسط الأشياء. أما علوم الحديث فإنه يتم فيها تحليل الشعور، شعور الراوي من خلال مناهج الرواية ثم تجاوزها إلى النقد العقلي والحسي للمتن. وفي علوم السيرة يتم الانتقال من الشخص إلى الكلام حتى يتم القضاء على التشخيص وعبادة الشخص في حياتنا العامة. أما علم ألفقه فإنه يتم إعادة بناءه بحيث تعطى الأولوية للمعاملات على العبادات ولنظم الدولة على قانون الأحوال الشخصية.
الجزء السادس: العلوم الرياضية والطبيعية (الوحي والعقل والطبيعة)
وفيه يتم إعادة بناء العلوم الرياضية من جبر وحساب وهندسة وفلك وموسيقى بحيث يتم اكتشاف موجهات الوحي للشعور، التي أدت إلى الاكتشافات النظرية في هذه العلوم. وبالتالي تتم معرفة وظيفة التوحيد في الشعور في البحث عن المفارق والمتعالي وما يعنيه من تقدم مستمر في البحث العلمي. كما تتم إعادة بناء العلوم الطبيعية من كيمياء وطبيعة وطب وتشريح ونبات وحيوان وصيدلة من أجل معرفة وظيفة الوحي في توجيه الشعور نحو الطبيعة وتحليل قوانينها، وهي ما سمي في دراساتنا الحديثة تاريخ العلوم عند العرب، وهي العلوم الإسلامية التي نشأت أيضا بتوجيه الوحي نحو العقلي ونحو الطبيعي. وتكون مهمة هذا الجزء تجاوز الصوري والمادي والعودة إلى الشعوري.
الجزء السابع: العلوم الإنسانية (الإنسان والتاريخ)
وفيه يتم إعادة بناء علوم النفس والاجتماع والسياسة والتاريخ والجغرافيا واللغة والأدب بحيث يتم التعرف من خلالها على وظيفة التوحيد في الشعور وتوجيه إياه نحو الإنساني، الفردي والاجتماعي، وبالرغم من أن هذه العلوم قد ظهرت من قبل في العلوم الدينية الأربعة إلا أنها حاولت أن تكون علوما مستقلة تعتمد على البحث والاستقصاء دون الاعتماد على الحجج النقلية، مهمة هذا الجزء هي معرفة كيفية توجيه الوحي للشعور نحو الإنساني وكيفية تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني.
الجزء الثامن: (الإنسان والتاريخ)
وهو محاولة لوصف بناء الحضارة الإسلامية وتطورها مع تأسيس وحدة العلوم في التراث القديم، ونقل الحضارة الإسلامية إلى طور جديد وتحويل صورتها في التاريخ من حضارة الكهف إلى حضارة السهم، ومن الدائرة إلى الخط، ومن الأعلى إلى الأمام. والإنسان والتاريخ هما البعدان المستتران في تراثنا القديم والواضحان في العصر الحاضر. غاية "التراث والتجديد" هي الكشف عن الإنسان في التراث القديم وتثبيته في وجدان العصر ووضعه في التاريخ. وسنظر إلى الحضارة كلها في طورها الأول الذي نشأت وتطورت فيه، ثم في طورها الثاني الذي بدأت تعيش فيه على ذاتها في عصر الشروح والملخصات ثم في دورها الثالث منذ عصر الإصلاح الديني في القرن الماضي، وإحياء التراث في هذا القرن، وإقامة نهضة شاملة تتمثل في إرهاصات الإصلاح والإحياء.
القسم الثاني: موقفنا من التراث الغربي
ويهدف هذا القسم إلى إعادة الكرة مرة أخرى، وإقامة حضارة إسلامية جديدة بالإضافة إلى الحضارة الإسلامية التي ورثناها. وذلك لأننا في عصر مشابه للعصر القديم عندما واجه تراثنا الناشئ التراث اليوناني الوافد.
القسم الثالث: نظرية التفسير
ويهدف هذا القسم إلى إعادة بناء الحضارتين معا في القسمين السابقين، والبداية من جديد ابتداء من أصولها الأولى في الوحي أي في كتبها المقدسة. "فالتراث والتجديد" هو في الحقيقة محاولة لإعادة بناء الحضارة بالرجوع إلى مصدرها في الوحي أو إعادة تفسير الوحي كما هو بالرجوع إلى الحضارة الإنسانية الحالية وتخليها من الركود التاريخي القديم، وهو ما يعادل "علوم القرآن" في تراثنا القديم. فالغاية النهائية هي الوحي ذاته وإمكانية تحويله إلى علم إنساني شامل، وهذا لا يتم إلا عن طريق "نظرية في التفسير" تكون منطقا للوحي. (التراث والتجديد – ص 176-183)
خامسا: الاشتباه في تصنيف المشروع
في إطار هذه الخطة كيف يمكن تصنيف المشروع، إسلامي باعتبار موضوعه، أم حداثي "غربي" باعتبار منهجه. في حوار مع مجلة العربي الكويتية يوضح حنفي، ردا على السؤال بتصنيف مشروعه ضمن تيار السلفية الجديدة، فيقول،
التصنيفات بالنسبة لي عديدة، فأنا عند السلفيين ماركسي، وأنا عند الماركسيين سلفي، وأنا عند الحكومة إخوان شيوعي. التصنيف بذاته له ميزات طبعا، وإحدى هذه الميزات العلمية، فالمسلمون بدأوا العلوم بتصنيفها، ولكن عيبه هو أن عليك أن تضع الجديد في إطار من الأدراج القديمة، ومن ثم لا يكون جديداً إلا من حيث المادة، أي لا يكون جديداً من حيث الصنف. إن البضاعة الجديدة هي التي تتجاوز التصنيفات والأدراج القديمة، فلابد للبضاعة الجديدة أن تخلق درجها، وتصنيفي سلفيا جديدا هو للتمييز من أحمد بن حنبل وابن تيمية ورشيد رضا.. الخ. سلفي، لأن التراث القديم مخزون نفسي عندي، وجديد لأن عندي قضايا العصر، وبالمحصلة ( سلفي جديد). وأنا عند السلفيين ماركسي لأنني لا أستعمل إلا مناهج التحليل الاجتماعي، وهي مناهج أصولية قديمة ولكنهم لا يعرفون. وأنا عند الماركسيين سلفي لأنني أستعمل التراث القديم ولا أقطع معه. وهذه الرؤية هي أكثر واقعية من الماركسية لأن الماركسية رؤية طوباوية لا تبدأ بتحليل الواقع، ولو حللوا الواقع الاجتماعي لاكتشفوا حضور التراث القديم. لكن التصنيف، على أية حال، لا يزعجني فما أكثر ما قيل من تصنفيات متماثلة.
منهجه
يعتمد المشروع بشكل أساسي على المنهج الظاهراتي وتأويل النصوص. والاثنان معا يستخدمان في تحليل الأبنية الفكرية في التراث (تأويل النصوص) من أجل استخدامها في تحليل أبنية الشعور عند الجماهير (تحليل اجتماعي/نفسي). يوضح ذلك حنفي كما يلي،
والتراث والتجديد يعبران عن موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر، اسقاطا من الماضي أو رؤية الحاضر. فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكونا رئيسيا في عقليتنا المعاصرة ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي، ورؤية الماضي في الحاضر. فالتراث والتجديد يؤسسان معا علما جديدا وهو وصف للحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر معاش. (التراث والتجديد – ص 19)
ويضيف، فإن قيل: هل "التراث والتجديد" يقدم منهجا أم يؤسس علما، أم يكشف ميدانا؟ قيل: إن كل تجديد يصعب تصنيفه إلى منهج أو علم أو ميدان، فالمنهج هو ذاته علم لأنه تأسيس للعلم، والعلم إذا كان تأسيسا للعلم فهو ميدان، ميدان التأسيس، فتحليل الواقع المباشر ورؤية التراث فيه أو تحليل التراث على أنه مخزون نفسي عند الجماهيرهو في نفس الوقت منهج اجتماعي نفسي، نفسي لأنه يقوم على تحليل شعور الناس وسلوكهم، واجتماعي لأنه يهدف إلى تحليل الواقع وإلى أي حد ترتكز هذه الأبنية على أبنية نفسية أخرى عند الجماهير. ولما كانت هذه الأسس النفسية ذاتها ناشئة من موروث حضاري فإنه يتعين تحليل هذا الموروث ومعرفة ظروف نشأته. "التراث والتجديد" إذن يغطي ميادين ثلاثة:
1- تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري.
2- تحليل الأبنية النفسية للجماهير وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية.
3- تحليل أبنية الواقع وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره أم أنها ناشئة من الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم. وإن شئنا، فالتراث والتجديد يود الانتقال من علم اجتماع المعرفة إلى تحليل سلوك الجماهير، أي من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية ومن الثقافة الوطنية إلى الثورة الاجتماعية والسياسية. (التراث والتجديد – ص 26).
أولا: الظاهراتية والتجربة الشعورية
العنصر الظاهراتي في مشروع "التراث والتجديد" واضح تماما بما يتضمنه من عناصر منهجية معروفة تتمثل في العمل على الكشف عن حضور الظواهر في الوعي من خلال القصدية، واعتماد خطوات تعليق الحكم، والبناء ثم الكشف. يعرف حنفي الظاهرة كما يلي،
والحقيقة أن الظاهرة لا هي صورية ولا هي مادية بل هي ظاهرة شعورية، أي أن الأبنية التحتية -اجتماعية وسياسية واقتصادية - والأبنية الفوقية من نظريات وآراء وموروثات تم توحيدها في الأبنية الشعورية، وهي الأبنية الفعلية التي تحدد سلوك الجماهير. فالواقع خارج الشعور خواء، والنظرية خارج القصد لا فعل لها. بل تتحدد الأفعال والوقائع بكونها أبنية للشعور. فالتراث القديم جزء من أبنية وجداننا المعاصر وأحد مكوناته كما أن الواقع جزء آخر وأحد مكوناته الأخرى. والفكرة التي تؤمن بها الجماهير تتحول إلى سلوك، والواقع الذي يعيشه الناس يتحول إلى مشاركة. (التراث والتجديد – ص 53).
يظهر واضحا أن الاعتماد على هذا المنهج يؤدي إلى "الكشف" عن مضامين لأبنية الشعور (اللاواعي) قد تتعارض مع الإدراك السائد (المطلوب تغييره) لذات الموضوعات والقضايا. يدرك حنفي أن هذا يمكن أن يؤدي إلى ردود أفعال معارضة ويستبق ردود الأفعال المتوقعة بالرد عليها اعتمادا على ذات المنهج، اي الظاهراتية/التأويل، كما يلي،
فإن قيل: إن "التراث والتجديد" سيؤدي لا محالة إلى إلحاد لأنه يعني إعطاء الأولوية للواقع على الفكر، وإعطاء التاريخ الصدارة على الوحي، والقضاء على استقلال العقائد كموضوعات لها صدقها الداخلي النظري بصرف النظر عن صلتها بالواقع العملي. قلنا إن مقولتي الإلحاد والإيمان مقولتان نظريتان لا تعبران عن شيء واقعي لأن ما يظنه البعض على أنه إلحاد قد يكون جوهر الإيمان، وما يظنه البعض الأخر على أنه إيمان قد يكون هو الإلحاد بعينه. بالإضافة إلى أن مقولات الإلحاد والعلمانية التي نشأت في حضارات أخرى ورفضها تراثنا القديم وبعض الحركات الإصلاحية الحديثة هي في صميمها التجديد الذي هو مضمون تراثنا القديم. فمعنى الإلحاد في الحضارة الغربية يعني إيمان في تراثنا القديم. (التراث والتجديد – ص 61)
اكتشاف مستويات حديثة للتحليل – (الشعور)
وبتطبيق هذا المنهج على التراث يصبح ممكنا تجديد التراث، من خلال العملية النهائية في المنهج وهي عملية الكشف. يشرح حنفي ذلك كما يلي،
ويمكن تجديد الموروث القديم عن طريق كشف مستويات حديثة للتحليل ما زالت مطوية فيه. هناك مستويات عامة مشتركة بين العلوم الموروثة يمكن الكشف عنها وهي في نفس الوقت إحدى مقتضيات العصر. فإذا كان منطق التجديد اللغوي قد أعطى لنا قدرة هائلة على التعبير عن المعاني والأبنية المثالية الموروثة المغلقة باللغة التقليدية فإن المستويات الحديثة للتحليل تعطينا ميدانا خصبا تظهر فيه خصوبة التراث. وأعني بمستوى التحليل المنظور الذي ينظر منه إلى التراث. وهذا لا يتم إلا برؤيا معاصرة له. فالتراث يمكن قراءته بمنظورات عدة كلها ممكنة، والتجديد هو إعادة قراءة التراث بمنظور العصر. ليس معنى ذلك أن القراءات القديمة له خاطئة أو أن القراءات المستقبلية له غير واردة، بل كلها صحيحة، ولكن الخطأ هو قراءة التراث من المعاصرين بمنظور غير عصري. هنا يكمن الخطأ، خطأ عدم المعاصرة. وأهم هذه المستويات هو الشعور. والشعور مستوى أخص من الإنسان، وأهم من العقل، وأدق من القلب، وأكثر حيادا من الوعي، يكشف عن مستوى حديث للتحليل موجود ضمنا داخل العلوم التقليدية نفسها،ولكن نظرا لظروف نشأتها لم يوضع في مكان الصدراة، ولم تعط له الأولوية الواجبة، ولكن يفهم ضمنا ويقرأ فيما بين السطور.
(التراث والتجديد – ص 132)
ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقا لما طلب. (التراث والتجديد – ص 135)
ثانيا: الاعتماد على التأويل اللغوي
الجانب الثاني للمنهج الذي يعتمد عليه حنفي هو عملية التأويل، وتغيير اللغة التي تعبر عن التراث. والدافع الأساسي لذلك هو قصور اللغة التقليدية عن التعبير عن المضامين الجديدة التي ينتجها التحليل الظاهراتي. يشرح ذلك حنفي بشكل تفصيلي كما يلي،
وتغير اللغة التقليدية لا يحدث حبا في التجديد أو تعالما من محدث بل هو ضرورة لغوية وفكرية معا، وذلك لأن اللغة التقليدية تصل إلى مرحلة من تطور الحضارة لا تستطيع معها أن تؤدي وظيفتها في التعبير عن المراد وفي إيصاله إلى الآخرين، وذلك للفرق الزماني الشاسع بين اللغة التقليدية وبين البحث الحديث والقارئ المعاصر. تبدو اللغة التقليدية وكأنها تسودها بعض العيوب التي تعوقها عن أداء وظيفتها في التعبير والإيصال. وهذه العيوب تظهر حاليا على أنها عيوب مع أنها كانت قديما خصائص مميزة أدت دورها في التعبير والإيصال، وأهمها:
1-أنها لغة إلهية تدور الألفاظ فيها حول "الله" ولو أنه يأخذ دلالات متعددة حسب كل علم. فهو "الشارع" في علم أصول الفقه، وهو الحكيم في علم أصول الدين، وهو الموجود الأول في الفلسفة، وهو "الواحد" في التصوف. لفظ "الله" يستعمله الجميع دون تحديد سابق لمعنى اللفظ إن كان له معنى مستقل أو لما يقصده المتكلم من استعماله له. بل إن لفظ "الله" يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، وباعتباره معنى مطلقا يراد التعبير عنه بلفظ محدود، وذلك لأنه:
أ- يعبر عن اقتضاء أو مطلب، ولا يعبر عن معنى معين أي أنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة أو بتصور من العقل. هو رد فعل على حالة نفسية أو عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن قصد أو إيصال لمعنى معين... فالله لفظ نعبر به عن صرخات الألم وصيحات الفرح أي أنه تعبير أدبي أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا. وما زالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ "الله"، وكلما أمعنت في البحث ازدادت الآراء تشعبا وتضاربا، فكل عصر يضع من روحه في اللفظ، ويعطي من بنائه للمعنى وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات. فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيا هو الحب، وعند المكبوت هو الإشباع، أي أنه في معظم الحالات "صرخة المضطهدين". والله في مجتمع يخرج من الخرافة هو العلم، وفي مجتمع آخر يخرج من التخلف هو التقدم. فإذا كان الله هو أعز ما لدينا وأغلى ما لدينا فهو الأرض، والتحرر، والتنمية، والعدل. وإذا كان الله هو ما يقيم أودنا وأساس وجودنا ويحفظنا فهو الخبز، والرزق، والقوت، والإرادة، والحرية. وإذا كان الله ما نلجأ إليه حين الضرر، وما نستعيذ به من الشر، فهو القوة والعتاد، والاستعداد. كل إنسان وكل جماعة تسقط من احتياجاتها عليه، ويمكن التعرف على تاريخ احتياجات البشر بتتبع معاني لفظ "الله" على مختلف العصور.
ب- من المستحيل تعلق لفظ محدود بحروفه وتركيبه وتكوينه في الجملة ووضعه في الصياغة ودلالته على معنى معين من مؤلف معين لقارئ في عصر محدد ليدل على معنى مطلق غير محدود ولا يماثله أي تصور محسوس يند عن حدود اللغة والتركيب والصياغات ويشمل كل العصور والأوطان، وجود أزلي أبدي إلى آخر ما يقال دائما في تصور الله بعد سماع لفظ "الله". من المستحيل منطقيا التعبير بالأكثر تحديدا عن الأقل تحديدا أوبالأقل وجودا على الأكثر وجودا. إنه ادعاء بشري ونقص في الأمانة أن يقول كاتب واحد أنه يعني بلفظ "الله" ما يريد إلا عن طريق التقريب. ولماذا استعملت الصور الذهنية إذن؟ ولماذا اختلفت من عصر إلى عصر؟ إذا كانت اللغة هي مجرد حامل للمعنى، والمعنى مستقل، فإنه يمكن التعبير عنه بأي لفظ آخر من أي عصر آخر ومن أي بيئة ثقافية أخرى. فلفظ "الله" لا يساوي معناه بأي حال. صحيح أن اللفظ ورد في الوحي ولكن الإشكال هو في فهم اللفظ في عصر معين لجماعة معينة من أجل الحصول على معنى حضاري للفظ. وما زال علماء أصول الدين يحاولون فهم مدلول اللفظ حتى الآن دون الوصول إلى مدلول واحد يتفق عليه الجميع. بل إن الوحي نفسه موجود في زمان ومكان معينين، وبالتالي فهو أيضا قد تحول في لحظة الإعلان إلى حضارة أي إلى مفهوم بشري يختلف باختلاف البشر.
ت- هناك استحالة في تحديد جامع مانع للفظ، إذ ان التعريف بطبيعته قائم على التحديد، والمعنى المراد التعبير عنه والموجود المراد الإشارة إليه قائم على الإطلاق وليس على التحديد. والتحديد قائم على اساس قطع جزء من الواقع ثم تصويره والإشارة إليه عن طريق التصور، اما الإطلاق فلا يمكن تحديده على هذا النحو. ولما كان "الله" لا يمكن تصوره فكيف يمكن التعبير عنه بلغة قائمة على التصور؟
ث- لما كان الوجود وجودا جزئيا خاصا يمكن الإشارة إليه والتحقق منه فإنه لا يمكن أن يكون مطابقا لوجود الله في التصور المقصود له كوجود عام. وإذا كان الله ليس وجودا ذهنيا فحسب بل وجود واقعي أيضا فكيف يشار إليه وكيف يعبر عنه في اللغة؟ من الصعب إذن وجود ما صدق للفظ "الله" كما وضح أنه من الصعب وجود مفهوم له. ولا ينفع هنا أي دليل انطولوجي لإثبات وجود الله لأن الانتقال من الذهن إلى الواقع هو خروج من القوة إلى الفعل يحتاج إلى تحقيق ونشاط وحركة وفاعلية لا يعطيها الدليل العقلي الذي لا يتجاوز مجرد الافتراض والتسليم جدلا. وكيف يوجد في الواقع من مجرد وجوده في الذهن، وهو في كلتا الحالتين وجود جزئي متعين؟ فالتصور محدود بالذهن لأن التصور ينال بالحد، والوجود متعين جزئي وهو على خلاف الافتراض.
ج- ولا يمكن إيصال أي معنى بلفظ "الله" لأن اللفظ يحوي كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معاني متعارضة. فهو الأزلي، المطلق، الشامل، الكلي. وهو عند البعض الآخر الزمني، النسبي، الجزئي، المتحرك، المتغير. وهو عند فريق ثالث الدافع الحيوي، والاندفاع، والعاطفة. وعند فريق رابع التاريخ والصيرورة. فإذا استعمل البعض لفظ "الله" وهو يقصد معنى معينا فلربما فهم المستمع معنى آخر، والمعنيان كلاهما واردان في اللفظ. وكل من يجادل في الله فإنه لا يزيد على إقامة حوار بين صم.
لقد ظهرت اللغة إلهية في أول انتشار الحضارة لتعبر عن الدين الجديد، فقد كان لفظ "الله" له مدلوله الشعوري المثالي في الشعور العربي القديم، ولكن ما أن بدأت الحضارة في التطور حتى بدأت اللغة الإلهية في التراجع وحلت محلها لغة عقلية خالصة كما اتضح ذلك في أصول الدين المتأخر، وكما وضح بصورة أوضح في علوم الحكمة.
2-واللغة القديمة لغة دينية تسودها ألفاظ تشير إلى موضوعات دينية خالصة مثل: دين، رسول، معجزة، نبوة، وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها للعصر الحاضر. فاللفظ التقليدي "دين" لا يؤدي وظيفته في الإيصال. فإذا كان لفظ "لله" يحتوي على تناقض داخلي في الإيصال بالإضافة إلى تضارب معانيه، وكلها قد تعارض المقصود منه، فإن لفظ "دين" وإن كان يمكن التعبير به عن المقصود منه إلا أنه لا يمكن أداء وظيفته في الإيصال نظرا للمعاني العديدة التي التصقت به طول تاريخ استعماله، بل والتي تتعارض أحيانا مع المعنى الأصلي له الموجود في المعنى الاشتقاقي أو في المعنى الاصطلاحي الشرعي وهو المعنى الأصلي القبلي الذي أتى به الوحي. فنظرا لهذه الشحنة من المعاني الغريبة عن اللفظ والملصقة به فإن اللفظ يفقد معناه الأصلي بل ويفقد كل قدرته على إيصال اي معنى حتى ولو كان المعنى الأولي له لما يلتصق به من معاني مضادة. بل ويستحيل إعطاء أي معنى جديد له لأن هذا المعنى الجديد بمفرده لا يمكنه مقاومة تاريخ طويل من المعاني الوافدة عليه. لفظ "دين" أصبح لفظا "منعرجا" ذا طرف واحد لا يوصل إلا معنى واحدا وهو الغالب أي أنه لا يوصل إلا أحد الجوانب في صورته المتطرفة، وهو الجانب الإلهي أو الخارق للعادة أو الأخرويات أو ما وراء الطبيعة. فكل دين بالضرورة يفيد هذا المعنى، وكل "مادة" للدين تكون من هذه العينة، كلها تشير إلى هذا الجانب الواحد، بل وأصبحت هذه المادة عينة مختارة ونموذجا لكل الأديان الممكنة دون أي تصنيف لنوعيات الأديان إلى دين تاريخ ودين وحي، دين ما وراء طبيعة ودين طبيعة، دين سر ودين علن، دين لا عقل ودين عقل، دين سلطة ودين فرد، دين خطيئة ودين براءة، دين طقس ودين تقوى، دين كهنوت ودين عالم، دين إله ودين إنسان...الخ ودون أي مراعاة لتطور الدين في مراحله المختلفة. فنظرا لأن لفظ "دين" له استعمالات كثيرة، ويفيد معاني متناقضة فإنه أصبح يشير إلى ما لا يقصد به. فهو يشير إلى التاريخ أكثر مما يشير إلى الوحي، ويشير إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للدول المعتنقة هذا الدين أو إلى العلوم الدينية التي نشأت منه وإلى المذاهب والتيارات الفكرية التي أسسها بعض المعتقدين به أو إلى مجموعة من العقائد التي نشأت من تصورات معينة في مرحلة محدودة منه في الوحي أو في عصرنا الحاضر طبقا لمتطلباتنا الحالية.
يضيف حنفي، لقد كانت اللغة الدينية ضرورة أولى في نشأة الحضارة ولكن ما أن تقدمت الحضارة حتى بدأت اللغة الدينية تتراجع وتأتي محلها لغة عقلية خالصة كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر. ولما كان لفظ "دين" قاصرا عن أداء المعنى فإن لفظ "أيديولوجية" أقدر منه على التعبير عن الدين المعني وهو الإسلام، وإيصال معناه لأن الوحي مجموعة من الأفكار والتصورات تصدر منها أنظمة وشرائع خرجت من الواقع "بأسباب النزول" وتكيفت حسب الواقع "بالناسخ والمنسوخ"، وهدفها تغيير الواقع إلى واقع أفضل منه. فالحاكمية لله تعني تحقيق الوحي كنظام اجتماعي وإنشاء الدولة التي تعبر عن الكيان السياسي للأمة. وذلك عن طريق المؤمنين وهو الحزب الطليعي أو بمعنى معاصر هم الحزب "البروليتاري" الذي يقوم بتحقيق الأيديولوجية في التاريخ.
وكذلك لفظ "الإسلام" مشحون بعديد من المعاني كلفظ "دين". فإن أمكن، من الناحية النظرية على الأقل، التعبير به عن معنى فإنه لا يمكن ذلك من الناحية العملية وذلك لأنه أصبح هو أيضا محملا بما لا حصر له من المعاني التي قد تتفق أحيانا مع المعنى الأصلي للفظ. وليس من الضروري أن تقوم هذه المعاني في ذهن المتعلم أو السامع ولكن يكفي أن تكون شائعة في الجو الثقافي كي يستحيل بعدها استعمال اللفظ للتعبير به عن المعنى الأصلي وإيصاله. فهو أساسا مصطلح يشير إلى دين معين وإلى ميدان معين وليس لفظا عاما يدل على معنى مستقل عن كل ميدان مثل: حرية، تحرر، مساواة، إنسانية. وحتى لو استعمل اللفظ ابتداء من معناه الاشتقاقي فإن معناه التاريخي يكون أقوى وأمثل للأذهان. ومن الصعب تجريد الذهن وتخليصه من المعنى الشائع وإلزامه بالمعنى الاشتقاقي الأول. فلفظ "التحرر" هو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون "الإسلام" أكثر من اللفظ القديم. فالذي يسلم لله يتخلص أولا من كل ما يكبل الإنسان من القيود وهو فعل التحرر الذي يبدأ بالنصف الأول من الشهادة "لا إله". فإذا تحرر الإنسان من القيود فإنه يقوم بالفعل الثاني وهو الإثبات "إلا الله". فالإسلام هو تحرر الشعور الإنساني من كل قيود القهر والطغيان، مادية أو سياسية. ولفظ "السلام" يعبر اكثر عن مضمون "الإسلام" من اللفظ ذاته لأن الإسلام هو الذي يحقق السلام الداخلي للإنسان بعد تحرره من كل قيود القهر والاستعباد. ثم هو الذي يحقق المجتمع الواحد الذي لا طبقات فيه ولا استغلال ولا احتكار ومن ثم ينشأ السلام في المجتمع. وهو أيضا الذي ينظم علاقات الأمم، بعضها مع البعض الآخر على اساس من السيادة المتبادلة وأحلاف السلام. (التراث والتجديد – ص 112-116)
ثالثا: علاقة المنهج بالغرب
في حوار مع مجلة العربي وردا على الاتهام بالاعتماد على المناهج الغربية على الرغم من مهاجمة الغرب في علم الاستغراب، يرد الدكتور حسن حنفي،
سؤالك مهم طبعا وكثيرا ما يسألني الناس بعد أن أبدع أحد الأعمال، ما منهجك في ذلك؟ ومهما أجبت فإنني الخاسر. لو قلت إن منهجي تحليلي أو وصفي أو بنيوي أو جدلي، قالوا: فلم تنقد الغرب إذن ؟ أنت ابن الغرب. فأرد: ( وداوني بالتي كانت هي الداء). ومع ذلك يظل موقفي ضعيفاً. لو قلت إن منهجي هو منهج تحليل التجارب، ردوني إلى أحد المناهج الغربية، ( المنهج الظاهري) وأنا قمت برسالتي الأولى عن المنهج الظاهري في عام 1965. ولي كتابان بالفرنسية في تفسير الظاهريات وظاهريات التفسير. على أية حال يبدو أن المنهجية ـ وهي السمة الغالبة في الفكر الأوربي ـ أصبحت الإطار المرجعي الوحيد لأي بحث عربي يبدع شيئاً.
إن المنهجية مهمة بطبيعة الحال، وأنا أردت المنهجية التي أشرت إليها في ( التراث والتجديد)، لأن التراث هو حي بوصفه مخزوناً نفسياً. وأنا أحيل النص إلى التجربة الشعورية التي أحياها، وفي الوقت نفسه أنقل التجربة الشعورية إلى تجربة العصر وتجربة المجتمع.
إن منهجي هو منهج تحليل التجارب، تحليل النص باعتباره تجارب حية، لأن التراث مازال حياً فينا، وهو من ثم إعادة اختيار بين البدائل، فإن لم يسعفني ذلك أبدعت بدائل جديدة لم يبدعها القدماء. صحيح أن لي منهجاً ولكن مهما تكلفت في المنهج فإن الغرب قد فاز وأصبح الإطار المرجعي الغربي هو مقياس الحكم باستمرار، وأصبح البحث العربي في موقف لا يحسد عليه لأن إبداعه يحال دائما إلى مذهبية غربية. قد نكون بحاجة إلى مزيد من الوقت والعمر حتى تتعدد مراكز الإحالة فيما يتعلق بقضية البحث.
رابعا: الموضوعية والذاتية في المنهج
وفي نفس الحوار مع مجلة العربي، وردا على السؤال:
التركيز على القضايا المنهجية في عملك يتأتى من نقطة إشكالية، وهي أن المعرفة الموضوعية قد تبدو باعتبارها معطى خالصاً للذات. فهل يلغى المنهج الظاهراتى الواقع الموضوعي ويحيله إلى واقع شعوري؟
يجيب الدكتور حسن حنفي بأن هناك تصوران للموضوع، التصور التقليدي الذي ورثناه من القرن التاسع عشر، أي مطابقة الأحكام للوقائع. فعندما أقول: الشمس ساطعة، وتكون الشمس ساطعة، يكون الحكم موضوعياً، وهذا ما يسمى بتطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان. وهناك نوع آخر من الموضوعية هو اتفاق مجموعة من البشر على إصدار الأحكام، وهو الإجماع عند القدماء. وهناك معنى ثالث هو اتفاق الأحكام مع التجارب الفردية الشعورية، أو اتفاق الأحكام مع حكم البشرية العام. لكن إذا أردنا أن نتجاوز تصور القرن الماضي لموضوعية العلوم الطبيعية، التي تجاوزتها هي أيضاً، لأنه في العلوم الطبيعية الحديثة لم يعد هناك وقائع بمعنى القرن التاسع عشر، فالواقع والطبيعة عبارة عن تموجات، ومن ثم لا توجد موضوعية، لكن هناك نسبية. أما موضوعيتي التي أبغيها فهي: إلى أي حد يتفق ما أقوله مع تحليلات الآخرين لو قاموا بتحليل نفس التجارب ونفس النصوص ? وإلى أي حد هو مؤثر وفعال في عصري، أي في حل إشكالاته الرئيسية ? فالموضوعية موضوعية في تحليل تجارب مشتركة وفي فعاليتها في إحداث التغير الاجتماعي. ومن ثم عندي مقياسان للموضوعية: اتفاق مجموعة من الباحثين على شيء، ومدى تأثير ذلك في الواقع الاجتماعي. وهما شرطان جديدان أخرج من خلالهما عن شبهة العزلة والذاتية، فتصورنا التقليدي للذاتية هو أيضا تصور من القرن التاسع عشر، على أنه ذات بلا مضمون، ولا موضوع. أما إذا عدنا إلى التصورات الذاتية عند هيغل وعند فيشته، فالذاتية في أعلى قممها إنما هي الموضوعية، وإذا تصور الموضوع فإنه يصبح ذاتاً.
أهم أعماله
· التراث والتجديد - 1980
إعادة بناء التراث القديم:
· من العقيدة إلى الثورة (خمسة أجزاء) – 1988
· من النقل إلى الإبداع (9 أجزاء) – 2000-2002
· من النص إلى الواقع (جزأين) – 2003-2004
· من الفناء إلى البقاء – 2008
· من النقل إلى العقل (ثلاثة أجزاء) – 2009-2010
الموقف من التراث الغربي:
· ظاهريات التأويل، محاولة لتفسير وجودي للعهد الجديد (مترجم) – 1965/2006
· تأويل الظاهريات، الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية(مترجم) – 1966/2006
· مقدمة في علم الاستغراب – 1991
· فيشتة فيلسوف المقاومة – 2003
· برجسون فيلسوف الحياة – 2008
فكر النهضة:
· قضايا معاصرة – 1977
· دراسات إسلامية – 1981
· دراسات فلسفية – 1987
· الدين والثورة في مصر(8 أجزاء) – 1989
· حوار المشرق والمغرب - 1990
· هموم الفكر والوطن (جزآن) – 1997
· حوار الأجيال – 1998
· جمال الدين الأفغاني – 1998
· الدين والثقافة والسياسة في العالم العربي - 1998
· حصار الزمن (ثلاثة أجزاء)– 2004
· محمد إقبال فيلسوف الذاتية - 2009
في الفكر السياسي:
· من مانهاتن إلى بغداد - 2004
· جذور التسلط وآفاق الحرية – 2005
· وطن بلا صاحب – 2008
· نظرية الدوائر الثلاث، مصر والعرب والعالم – 2008
· الواقع العربي الراهن – 2011
· الثورة المصرية في عامها الأول - 2011
تحقيق ونقد:
· المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (جزآن) – دمشق 1964
· الحكومة الإسلامية للخميني – 1979
· جهاد النفس للخميني - 1979
ترجمات:
· نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط – الإسكندرية 1968
· رسالة في اللاهوت والسياسة، اسبينوزا - 1973
· لسنج: تربية الجنس البشري – 1977
· سارتر: تعالى الأنا الموجود - 1977
بالإنجليزية:
· الحوار الديني والثورة (Religious dialogue and revolution)، القاهرة – 1977
· الإسلام في العصر الحديث (Islam in the modern world) (جزآن) ، القاهرة – 1995
· الثقافات والحضارات – حوار أم صراع (Cultures and Civilizations, conflict or Dialogue?.)، القاهرة - 2005
بالفرنسية:
· مناهج التأويل (Les méthodes d’exégèse) ، باريس – 1965
· تأويل الظاهريات (L’exégèse de la phénoménologie)، باريس – 1966
· ظاهريات التأويل (la Phénoménologie de L’exégèse)، باريس – 1966
دراسات عنه:
· التراث، الغرب، الثورة، بحث حول الأصالة والمعاصرة في فكر حسن حنفي – ناهض حتر، 1985
· جدل الأنا والآخر، قراءات نقدية في فكر حسن حنفي – إعداد احمد عبد الحليم - 1997
· فلسفة حسن حنفي ، دراسة تحليلية نقدية – تحرير د. مصطفي النشار وآخرون، 2017 نيو بوك للنشر والتوزيع
· إحياء الناصرية – قراءة نقدية لمشروعات حسن حنفي "اليسار الإسلامي"، "علم الاستغراب" (وقراءاتهم غير النقدية)، مارتن ريكسنجر (بالإنجليزية) - 2007
Nasserism Revitalized – A Critical Reading in Hassan Hanafi’s Projects “the Islamic Left” and “Occidentalism” (and their uncritical readings), Martin Riexinger, Gottingen.
· منهج حسن حنفي، دراسة تحليلية نقدية – د. فهد القرشي - 2012
من مقالاته
· الكيان الصهيوني والمسألة اليهودية – مجلة العربي – 1999
· مستقبل الفكر الفلسفي العربي في عالم متغير، الإشكال والحل – شؤون عربية، 2000
· الوعي الأوروبي و"عقلية" الاستعمار – جريدة الاتحاد – 2007
· "اليسار الإسلامي"... والثلج المقلي – جريدة الاتحاد – 2008
· فلسفة الحرية – مجلة المستقبل العربي، 2009
· الأنا والآخر... أسرى الأحكام التبسيطية والصور النمطية – موقع قنطرة - 2009
حوارات
· الدكتور حسن حنفي والدكتور وفيق سليطين – مجلة العربي الكويتية
· حوار مع المفكّر المصري الدكتور حسن حنفي حول تجديد الفكر الإسلامي – دار الفكر
· برنامج منارات – قناة العربية
مقالات عنه
· ظاهريات التأويل، قراءة في تحليل الخطاب الفلسفي عند حسن حنفي – محمد هاشم عبد الله، مجلة أوراق فلسفية
· اشكالية التجديد في فكر حسن حنفي – كريمة كربية، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية جامعة السلطان قابوس
· إشكالية التراث والآخر في الفكر العربي المعاصر، قراءة في فكر حسن حنفي – عبد الهادي بوحسي، مجلة مينرفا
· حسن حنفي وإيتيقا الفلسفة، أو: كيف يمكن لنا أن نكون فلاسفة – مونيس بخضرة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود
· التراث والتجديد، بنية المشروع وابرز عناصره – محمد حلمي عبد الوهاب، جريدة الشرق الأوسط
·
نصوص
· أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية (التراث والتجديد- القسم الثالث)
· الوعي المتعين "الصفات" (من العقيدة إلى الثورة – الجزء الثاني "الإنسان الكامل – التوحيد" - الفصل السادس)
· تثبيت البنية (من النص إلى الواقع – الجزء الأول، الفصل الخامس)
· التفسير (من النقل إلى العقل، الجزء الأول علوم القرآن – الفصل الثالث)
· الوعي العلمي (من الفناء إلى البقاء، الجزء الأول الوعي الموضوعي – الباب الرابع)
تحرير سمير أبو زيد