مقدمة البحث
يرى العديد من الكتاب أن ما يميز العلوم الإنسانية
عن العلوم الطبيعية هو أن عملية المعرفة في العلوم الإنسانية تغير بشكل انعكاسي
الذات القائمة بهذه العملية. أكثر من ذلك، هم يعتبرون أن هذه الانعكاسية شرطا
للوجود الأخلاقي. يفحص هذا المقال بشكل متعاطف هذا التأكيد على العمليات
الانعكاسية، ولكنه يرفض الخلاصة المحددة القائلة بأن ظاهرة الانعكاسية تمكننا
من تمييز العلوم الإنسانية. الأقسام الأولى تفحص المعاني المتعددة التي يحملها
مفهوم الانعكاسية في العلوم النفسية والاجتماعية، في الفلسفة، وفي الحياة
المادية، وتربط هذه المعاني بالفلسفة ما بعد الوضعية للعلوم الاجتماعية. تعالج
المناقشة المشكلة التي تم طرحها (بأكثر أشكالها قوة في العلوم الإنسانية بواسطة
فوكو) عن كون الانعكاس عن الانعكاسية نفسها. وتضع علامة استفهام كبيرة أمام
الآمال لعودة الانثروبولوجيا (علم الإناسة) الفلسفية. أيا كانت الحجج الفلسفية،
على كل حال، هناك بشكل واضح انعكاسية عملية
في الإنسانيات والعلوم الإنسانية في حين أنها لا توجد في العلوم الطبيعية. وهذا
يقود إلى الحجة القائلة بأنه توجد أنواع مختلفة من المعرفة للأغراض المختلفة
وأنه لذلك يمكن أن يكون الاختلاف في الأغراض، وليس الانعكاسية ذاتها، هو الذي
يخلق الاختلافات بين العلوم. أن الحقيقة والغرض الخاصين بالتفكير الذاتي هو
الذي يميز العلوم الإنسانية. إذا كان ذلك صحيحا، فإنه يفسر لماذا يتحول سؤالا
محدد المعالم بشكل واضح عن تصنيف المعرفة إلى أن يكون غير قابل للانفصال عن
الأسئلة الوجودية والأخلاقية عن الهوية الإنسانية.
الحجة الانعكاسية في العلوم
السيكولوجية والاجتماعية
لحقت
"الانعكاسية" بدون شك بمعجم الكلمات الفلسفية العظيمة متعددة المعاني. يحق لنا
أن نكون متأكدين من أن هذه الكلمة تشير إلى مجموعات من المناقشات الجدلية،
وترتبط بمناطق للتساؤلات الفلسفية، أكثر منها تعبيرا عن موقف واضح مؤسس فلسفيا.
في هذه المقالة، أنظر مرة أخرى إلى أحد مناطق التساؤلات هذه – الفرق بين العلوم
الطبيعية والعلوم الإنسانية – وأتساءل هل، كما أكد عدد من الكتاب المؤثرين،
الانعكاسية هي التي تصنع الفرق. سوف أنقد هذا التأكيد، وكنتيجة لذلك، سوف أعيد
صياغة السؤال الأصلي ليكون أكثر دقة.
ما يحدد السؤال "هل تفرق الانعكاسية بين العلوم
الإنسانية والعلوم الطبيعية؟"، هو الحجة التالية، هنا بكلمات روبن. ج.
كولنجوود:
إذا كان ذلك الذي نفهمه بشكل أفضل هو شيء آخر غير
أنفسنا، على سبيل المثال، الصفات الكيميائية للمادة، فإن فهمنا المحسن لها لا
يحسن، بأي طريقة، الشيء نفسه. ولكن، على الجانب الآخر، إذا كان هذا الذي نفهمه
بشكل أفضل هو فهمنا ذاته، فإن التقدم في
هذا العلم هو ليس فقط تقدم في المعرفة
الذاتية لهذا العلم ولكنه تقدم في موضوعه أيضا. ... لذلك، التطور التاريخي
للعلم الخاص بالطبيعة الإنسانية يترتب عليه تطور تاريخي في الطبيعة الإنسانية
ذاتها. (كولنجوود، 1961 [1946ٍ]: 83-4)
هذا
سوف يجعل من الممكن تعريف العلوم الإنسانية باعتبارها المجال العلمي الذي يؤسس
لمعرفة العملية الانعكاسية والتي بالتالي تغير، أو حتى تنشئ، الطبيعة
الإنسانية.
ما هو
محل النظر هنا ليس ممارسة منطقية محايدة. هانز جورج جادامر ليس سوى واحدا من
عدد من الفلاسفة الذي فحصوا كيف يكون الأسلوب الذي يتم من خلاله تمييز الإنسان
من المجال الطبيعي، وبالتالي العلوم الإنسانية من العلوم الطبيعية، مرتبطا
بإمكانيات الحياة الأخلاقية. بكلماته:
الحضارة الإنسانية تختلف بشكل أساسي عن
الطبيعة في أنها ليست مجرد مكان حيث تفعل القدرات والإمكانيات نفسها؛ الإنسان
يكون ما هو من خلال ما يفعله وكيف يتصرف – بمعنى أنه يتصرف بطريقة معينة بسبب
ما أصبح عليه. وهكذا يرى أرسطو "ethos"
(روح الشعور الإنساني) على أنها مختلفة عن "physis"
(الطبيعة) في كونها كمجال لا تعمل فيه قوانين الطبيعة، ولكنها مع ذلك ليست
مجالا خاليا من القوانين، ولكن المؤسسات الإنسانية وأنماط السلوك المتوافقة...
(جادامر، 1998 [1960]: 312)
ما نعرفه كإنسان، تقول هذه الحجج، أصبح كذلك من خلال الفعل الانعكاسي الذي يصنع
الشعور الجماعي "ethos"؛
الطبيعة، على العكس من ذلك، هي مجال الـ"physis".
بأخذ هذه الحجة في الاعتبار، ليس ممكنا عزل السؤال الخاص بالعلاقات بين العلوم
كموضوع محدد منطقيا، معرفيا، أو منهجيا. التساؤل عما تتضمنه الانعكاسية بالنسبة
للعلوم الإنسانية هو بشكل لا يمكن تجنبه تساؤل عن "ما هو الإنسان" (إذا أعدنا
صياغة الكلمات المشهورة لكانت)[i].
"الانعكاسية" هي مصطلح يشير إلى عدد من الموضوعات
التي ترتبط بواسطة تشابه عائلي أكثر منه تعريفي. هناك الانعكاسية الأكاديمية في
مجالات علمية معينة، لنقل النظرية الاجتماعية، تهتم بإقناع الزملاء باختبار
التصورات التي تم التسليم بها، القيم والممارسات الخاصة بهذا المجال. في هذا
السياق، يمكننا أن نسأل تجريبيا عن الكيفية والمدى وبأي طريقة يكون المجال
انعكاسيا. هناك الانعكاسية الإبيستيمولوجية، وهذه تشير إلى الحجة التي تبرر
الطريقة التي تحتوي بها أي مجموعة مترابطة من المعارف فرضيات أساسية، والتي،
حتى ولو كانت في الواقع ليست محل تساؤل، يمكن من حيث المبدأ أن تصبح مركزا
للانتباه النقدي. هذا المعنى قريب الارتباط بفكرة النقد. في حال دفعها إلى حدها
الفلسفي الأقصى، الانعكاسية الإبيستيمولوجية تقودنا إلى التساؤل عن كل الفرضيات
الأساسية، ونتيجة لذلك، ترتبط الكتابة الانعكاسية المتطرفة بشكل دائم بالتهكم
الذاتي. هناك الانعكاسية العقلية، الثقافية، والمادية للعمليات التي تغير طبيعة
الموضوع الذي ينشئ الانعكاس؛ ومن ثم، على سبيل المثال، الفعل اللغوي يغير
التفكير الذي كان هو التعبير. ربما يكون هناك اختلافات مهمة في طبيعة هذه
الأنواع من العمليات الانعكاسية بالنسبة لمناطق معينة في ثقافة معينة أو ما بين
الثقافات المختلفة. أخيرا، هناك نوع من الانعكاسية الذي يظهر (على الأقل
بالنسبة لديكارت) أنه يميز الوعي: التفكير أو الإحساس هو أيضا إدراك وجود تفكير
أو إحساس. تبعا لفشتة أو هيجل، الانتباه إلى هذا النوع من الانعكاسية أصبح
واحدا من الموضوعات الأساسية في الأنثروبولوجيا الفلسفية، محاولة الجمع بين
المقاربات الفلسفية والإمبيريقية لوجود الوجود الإنساني. الاستعمالات الحالية
تتحرك بين هذه السياقات العامة الأربعة للاستخدام. وهذا في بعض الأحيان يؤدي
إلى الالتباس؛ وهكذا، على سبيل المثال، الاعتقاد بأن الوعي يمتلك
طبيعة
انعكاسية محايثة يتضمن نوع الدعوى الفلسفية، الأنثروبولوجية الذي تتساءل عنه
الإبيستيمولوجيا الانعكاسية. آمل أن تصبح العلاقات المتداخلة بين الاستعمالات
الأربعة أكثر وضوحا من خلال الحجج التي سوف تلي.
الكثير من الأدبيات المنشورة باللغة الإنجليزية عن الانعكاسية تتضخم كنتيجة للنقد الموجه إلى الوضعية في العلوم السيكولوجية والاجتماعية في أواخر الستينات وفي السبعينات من القرن العشرين. وكما أن مناصرو البرنامج الوضعي جادلوا بأنه سوف يقود إلى توحيد العلوم، فإن ناقديه أكدوا على ما يفصل تفسير الفعل الإنساني من تفسير التغير الطبيعي. وقد جادلوا بشكل مقنع بأن المعرفة في المجال الإنساني تتطلب تفسيرات على أساس الأسباب "reasons" [بمعنى التفسير العقلي] أو النوايا، وليس فقط أو حتى على أساس الأسباب "causes" [بمعنى الأسباب الطبيعية]، وأن هذا يميز العلوم الاجتماعية من الطبيعية[ii]. الأدبيات المتعلقة بهذا التصور تضمنت عددا من التقريرات التي ذهبت إلى أن موضوعات المعرفة في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية تختلف لأن الأخيرة، وليست الأولى، تتغير كنتيجة للمعرفة التي يكتسبها العلماء عنها. وهذا التقرير هو الذي أريد أن أفحصه[iii].
[i]
طرح كانت السؤال (‘Was
ist der Mensch?)،
في بداية محاضراته عن المنطق والتي أعطاها للطلبة على مدار سنوات عديدة
(كانت، 1992: 538).
[ii]
برنشتاين (1979) قدم مراجعة مثيرة للأدبيات الأكثر
تأثيرا. ليس هناك حاجة هنا للعودة إلى المناقشات، التي بدأت بواسطة
بيتر وينش (1963)، الذي جادل بأن التفسير بواسطة التعقل (الأسباب
العقلية) تتميز عن التفسير بواسطة الأسباب: أكثر الناس أصبحوا يقبلون
أن الأسباب العقلية يمكن فهما كأسباب. بالنسبة لتقيم لأطروحة وينش:
لاسسمان (2000).
[iii]
هذا إلى جانب الحجم الكبير من الأدبيات المتعلقة
بتأثير الانعكاسية على مفاهيم "الذات". وأن لست مهتما هنا بالتشكيل
الحداثي (أو ما بعد الحداثي) للهوية الشخصية أو الجمعية، ولكن على
العكس الاهتمام هو بالسؤال عما إذا كان النوع من العلاقة الانعكاسية
بين الاعتقاد والممارسة، الذي علق عليه العديد من المراقبين (انظر على
سبيل المثال، روز، 1998، 1999)، محدود بموضوع العلوم الإنسانية.
Roger Smith, 2005, "Does reflexivity separate the natural sciences form the human sciences?", History of the Human Sciences Vol. 18 No. 4, SAGE Publications pp. 1–25