مقدمة البحث
5-1 مقدمة
يتوافق
الوعي بصورة غير مريحة مع تصورنا عن العالم الطبيعي. بالنسبة لأكثر
التصورات شيوعا عن الطبيعة، العالم الطبيعي هو عالم فيزيائي. ولكن
بالنسبة لأكثر التصورات شيوعا عن الوعي، ليس من السهل أن نرى كيف
يمكن أن يكون جزءا من العالم الفيزيائي. لذلك يبدو أنه لكي نجد
مكانا للوعي خلال النظام الطبيعي، يجب علينا إما أن نراجع تصورنا
عن الوعي، أو أن نراجع تصورنا عن الطبيعة.
في
فلسفة القرن العشرين، هذه المعضلة طرحت بأكثر أشكالها حدة في عمل
"سي دي برود" (C. D.
Broad) ’العقل ومكانه
في الطبيعة (1925)’. ظواهر العقل، بالنسبة لـ برود، هي ظواهر
الوعي. المشكلة المركزية هي تلك الخاصة بتموضع العقل بالنسبة
للعالم الفيزيائي. مناقشة برود التفصيلية، التي استنفذت كافة
الجوانب، توجت بتصنيف مكون من سبعة عشر نظرة مختلفة للعلاقة بين ما
هو عقلي وما هو فيزيائي2.
في تصنيف برود، يمكن لوجهة النظر أن ترى ’العقلي’ على أنه غير
موجود ("delusive")،
كشيء يمكن رده إلى ما هو أبسط منه (reducible)،
كشيء منبثق من شيء أبسط منه (emergent)،
أو كسمة مميزة لجوهر (a
"differentiating" attribute).
يمكن لما هو "فيزيائي" أن يرى بواحدة من نفس هذه الطرق الأربعة.
لذلك تنتج مصفوفة من أربعة في أربعة. (المدخل السابع عشر ينتج من
تقسيم برود للنظرة إلى العلاقة جوهر/ جوهر طبقا لدخول جوهر واحد أو
اثنين في التصنيف). في النهاية، تبقى ثلاثة وجهات نظر قائمة: تلك
التي تكون فيها ’العقلانية’ سمة منبثقة إما من جوهر فيزيائي أو من
جوهر محايد، في حين أن الحالة الأخيرة، ’الفيزيائي’ يمكن أن يكون
إما منبثق أو غير موجود ’delusive’.
في هذا
الفصل سوف آخذ نقطة البدء من برود، مقاربا مشكلة الوعي بواسطة
إستراتيجية التقسيم والاستبعاد. لن أتبنى مقولات برود: فقد تقدم
فهمنا للعلاقة بين المادة والعقل منذ العشرينيات، ولسوف يكون لطيفا
أن نفكر بأننا نملك فهما أفضل للقضايا الأكثر أهمية وخطورة. من
وجهة نظري، وجهات النظر الأكثر أهمية فيما يخص ميتافيزيقا الوعي
يمكن تقسيمها إلى ستة أقسام مستقلة تماما. سوف أسمى الأنواع من
"نوع "أ" حتى "نوع و" ("type
A" through "type F" )
ثلاثة منهم (أ حتى ج) تتضمن عموما نظرات ردية (reductive)،
تنظر إلى الوعي كعملية فيزيائية لا تتضمن الامتداد إلى الأنطولوجيا
الفيزيائية. والثلاثة الأخر (د حتى و) تتضمن عموما نظرات غير ردية،
والتي يتضمن الوعي فيها شيئا لا يمكن رده إلى الطبيعة، ويتطلب
امتداد أو مراجعة تصورنا عن الأنطولوجيا الفيزيائية.
سوف
تصاغ المناقشة على المستوى المجرد، معطيا نظرة عامة على المشهد
الميتافيزيقي. بدلا من إشراك علم الوعي الإمبيريقي، أو تفصيلات
النظريات الفلسفية للوعي، سوف أقوم بفحص بعض الفئات العامة التي
يمكن أن تقع فيها نظريات الوعي. لن أتظاهر بالمحايدة في هذه
المناقشة. أعتقد أن كل من وجهات النظر الردية غير صحيحة، في حين أن
كل من وجهات النظر غير الردية تحمل قدرا من الوعد. لذلك فالجزء
الأول من هذا الفصل يمكن أن ينظر إليه كامتداد للحجة ضد وجهات
النظر الردية للوعي، في حين أن الجزء الثاني يمكن النظر إليه على
أنه فحص إلى أين نذهب بعد ذلك.
5-2 المشكلة
كلمة
"الوعي" تستخدم بطرق متعددة بشكل كبير. تستعمل أحيانا للتعبير عن
القدرة على التمييز بين المؤثرات الحسية، أو لتقرير المعلومات، أو
لمراقبة الحالات الداخلية، أو للسيطرة على السلوك. يمكن لنا أن
نفكر في هذه الظواهر على أنها تضع "المشكلات السهلة" للوعي. هذه
ظواهر مهمة، وهناك الكثير مما قد فهم عنها، ولكن المشكلات المرتبطة
بتفسيرها لها طبيعة الألغاز وليس الأسرار. لا يبدوا من حيث المبدأ
أن هناك مشكلة عميقة بالنسبة لفكرة أن منظومة فيزيائية يمكن أن
تكون "واعية" بهذا المعنى، كما أنه ليس هناك عائق واضح لتفسير
نهائي لهذه الظواهر تأسيسا على مصطلحات بيولوجية-عصبية أو حاسوبية.
المشكلة الصعبة في الوعي هي مشكلة الخبرة. الإنسان يمتلك خبرة
ذاتية: هناك شيء ما يشبه المرور بها. يمكننا القول بأن موجود ما هو
واع بهذا المعنى – أو كما يقال أحيانا أنه واع ظاهريا (Phenomenally
consciousness) –
عندما يكون هناك شيئا ما مماثل لأن تكون هذا الموجود. تكون الحالة
العقلية واعية عندما يكون هناك شيئا ما مماثل للمرور بهذه الحالة.
الحالات الواعية تتضمن حالات الخبرة الإدراكية، الإحساسات البدنية،
الخيالات العقلية، الخبرة العاطفية، الفكرة الطارئة، وأكثر من ذلك.
هناك شيئا ما يشبه لأن نرى لونا أخضر لامع، للإحساس بالألم الحاد،
لرؤية برج إيفل، للشعور بالإحباط العميق، أو للتفكير في أن المرء
قد تأخر. كل من هذه الحالات له سمة ظاهرية (Phenomenal
character)، مع صفات
ظاهرية (Phenomenal
properties)، أو
كيفيات (qualia)
تميز ما يشبهه أن تكون في مثل هذه الحالة3.
ليس
هناك خلاف على أن الخبرة مرتبطة بشكل كبير بالعمليات الفيزيائية في
منظومات كمثل العقل. يبدو أن العمليات الفيزيائية تعطي الفرصة
للخبرة في الظهور، على الأقل بمعنى أن إنتاج منظومة فيزيائية (مثل
العقل) مع الخواص الفيزيائية الصحيحة ينتج بالضرورة حالات الخبرة.
ولكن كيف ولماذا تؤدي العمليات الفيزيائية إلى ظهور الخبرة؟ لماذا
لا تحدث هذه العمليات "في الظلام"، بدون أن تصاحبها عمليات الخبرة؟
هذا هو السر المركزي في الوعي.
ما
الذي يجعل المشكلات السهلة سهلة؟ بالنسبة لهذه المشكلات، المهمة هي
تفسير بعض الوظائف السلوكية أو المعرفية: أي، تفسير كيف تلعب بعض
الأدوار السببية في المنظومة المعرفية، لتؤدي في النهاية إلى إنتاج
السلوك. لكي نفسر طبيعة عمل هذه الوظيفة، لا نحتاج سوى إلى تحديد
الآلية (mechanism)
التي تلعب الدور المطلوب. وهناك سبب وجيه للاعتقاد أن الآليات
العصبونية (neural)
أو الحاسوبية (computational)
يمكنها أن تلعب هذه الأدوار.
ما
الذي يجعل المشكلة الصعبة صعبة؟ هنا، المهمة ليست تفسير الوظائف
المعرفية والسلوكية: حتى ولو كان عند المرء تفسير لكل الوظائف
المطلوبة بالقرب من الوعي – التمييز، التكامل، الوصول للمعلومات،
التقرير، التحكم – سيظل هناك سؤال إضافي: لماذا يكون إجراء هذه
الوظائف مصحوبا بالخبرة؟ بسبب ذلك، تبدو المشكلة الصعبة نوع مختلف
من المشكلة، تتطلب نوع مختلفا من الحل.
الحل
المطلوب للمشكلة الصعبة سوف يتضمن افتراض بخصوص العلاقة بين
العمليات الفيزيائية والوعي، يفسر على أساس المبادئ الطبيعية كيف
ولماذا تكون العمليات الفيزيائية مرتبطة بحالات الخبرة. التفسير
الردي (reductive
explanation) للوعي
سوف يفسر ذلك كله على أساس مبادئ فيزيائية ليست لها، في ذاتها، أي
علاقة بالوعي.4 الحل
المادي (materialist)،
أو الفيزيائي، سوف يكون حلا ينظر فيه إلى الوعي ذاته على أنه عملية
فيزيائية. الحل غير المادي (non-materialist)،
أو غير الفيزيائي، سوف يكون حلا ينظر فيه إلى الوعي على أنه غير
فيزيائي (حتى ولو كان مرتبطا بشكل وثيق بالعمليات الفيزيائية).
الحل غير الردي (non-reductive
solution) هو ذلك الذي
سوف يكون فيه الوعي (أو مبادئ تتضمن الوعي) مقدما كجزء أساسي من
عملية التفسير.
من
الطبيعي أن يكون هناك أمل في أن يوجد حل مادي للمشكلة الصعبة
وتفسير ردي للوعي، بمثل ما كان هناك تفسيرات ردية للعديد من
الظواهر الأخرى في مجالات عديدة أخرى. ولكن الوعي يبدو أنه يقاوم
التفسير المادي بطريقة لا تماثل الظواهر الأخرى. هذه المقاومة يمكن
تركيزها في ثلاثة حجج ضد المادية، يمكن تلخيصها كما يلي.
5-3 ثلاثة حجج ضد المادية
5-3-1
الحجة التفسيرية (The
explanatory argument)5،
الحجة
الأولى تتأسس على التفرقة بين المشكلات السهلة والمشكلة الصعبة،
كما تم توصيفها أعلاه: المشكلات السهلة تخص تفسير الوظائف السلوكية
والمعرفية، ولكن المشكلة الصعبة ليست كذلك. يمكن للمرء أن يجادل
بأنه بطبيعة التفسير الفيزيائي، التقريرات الفيزيائية تفسر "فقط"
الوظيفة والبنية، حيث تكون البنيات المطلوب تفسيرها "مكانية –
زمانية" (spatio-temporal)،
وتقوم تلك الوظائف بأدوار سببية في إنتاج سلوك النظام. ويمكن للمرء
أن يجادل كما هو أعلاه بأن تفسير البنيات والوظائف ليس كافيا
لتفسير الوعي. إذا كان كذلك، ليس هناك تصور فيزيائي يمكنه أن يفسر
الوعي.
يمكن
أن نسمى ذلك الحجة التفسيرية (the
explanatory argument):
(1)
التصورات الفيزيائية تفسر على الأكثر
البنية والوظيفة.
(2)
تفسير
البنية والوظيفة ليس كافيا لتفسير الوعي.
(3)
ليس هناك تصورا فيزيائيا يمكنه تفسير
الوعي.
إذا
كان ذلك صحيحا، فإنه في حين أن التصورات الفيزيائية يمكنها أن تحل
المشكلات السهلة (والتي لا تتضمن سوى تفسيرات للوظائف)، فهناك شيء
إضافي نحتاجه لكي نحل المشكلة الصعبة. سوف يبدو أنه ليس هناك
تفسيرا رديا للوعي يمكنه أن ينجح. وإذا أضفنا إلى ذلك المقدمة
المنطقية القائلة بأن ما لا يمكننا فيزيائيا تفسيره ليس في ذاته
فيزيائي (وهذا يمكن اعتباره خطوة نهائية إضافية للحجة التفسيرية)،
فتكون المادية خاطئة كتفسير للوعي، ويكون العالم الطبيعي متضمنا ما
هو أكثر من العالم الفيزيائي.
بطبيعة
الحال الحجة من هذا النوع قابلة للنقاش. ولكن قبل فحص الطرق
المختلفة للرد عليها، من المفيد فحص حجتان قريبتان أخريان تهدفان
أيضا لإثبات أن المادية بخصوص الوعي خاطئة.
5-3-2
حجة إمكانية التصور (The
conceivability argument)6،
طبقا
لهذه الحجة، من المتصور أن يكون هناك منظومة متطابقة فيزيائيا مع
موجود واع، ولكنها تفتقر على الأقل لبعض الحالات الواعية لهذا
الموجود. مثل هذه المنظومة يمكن أن تكون "زومبي" (Zombie):
منظومة متطابقة مع موجود واع ولكنها تفتقر كليا إلى الوعي. ويمكن
أيضا أن تكون "مقلوبة" (invert)،
بها بعض الخبرات الخاصة بالموجود الأصلي مستبدلة بخبرات مختلفة، أو
"زومبي جزئي" (partial
zombei) مع بعض
الخبرات الغائبة، أو تجميعا من هذه الحالات المختلفة. هذه الأنظمة
سوف تبدو متطابقة مع الموجود الواعي من منظور الشخص الثالث: على
وجه الخصوص عملياتها المخية سوف تبدو جزيء-جزيء متطابقة مع الأصل،
وسوف يكون سلوكها غير قابل للتمييز عنه. ولكن هناك أشياء سوف تكون
مختلفة من وجهة نظر الشخص الأول. ما يشبه أن تكون "مقلوبا"، أو
"زومبي جزئي" سوف يختلف عما يشبه أن تكون الموجود الأصلي. وليس
هناك ما يشبه أن تكون "زومبي".
هناك
سبب محدود للاعتقاد بأن "الزومبيات" [جمع زومبي] يمكن أن توجد في
العالم الطبيعي. ولكن الكثيرين يرون أنها على الأقل قابلة للتصور:
يمكن بشكل متسق مع ذاته تصور "الزومبيات"، وليس هناك تناقض في
الفكرة التي تكشف عن نفسها حتى ولو في التفكير. وكامتداد للفكرة،
الكثير يعتقدون أن نفس الشيء ينطبق على عالم الزومبي (zombie
world): عالم فيزيائي
متطابق مع عالمنا، ولكن ليس فيه وعي. شيء مشابه ينطبق على
"المقلوبين" والنسخ الأخرى.
من
إمكانية تصور "الزومبيات"، يستند المدافعون عن هذه الحجة إمكانيتها
الميتافيزيقية. "الزومبيات" ربما لا تكون ممكنة فيزيائيا: هي ربما
لا تكون ممكنة الوجود في عالمنا، بقوانينه الطبيعية. لكن الحجة
تقول بأن "الزومبيات" كان من الممكن أن تكون موجودة، ربما في كون
من نوع مختلف جدا. على سبيل المثال، في بعض الأحيان يتم الاقتراح
بأن الله كان يمكنه أن يخلق "عالم زومبي"، إذا اختار ذلك. من هنا،
تم الاستنتاج بأن الوعي لا بد وأن لا يكون فيزيائيا. إذا كان ممكنا
ميتافيزيقيا أن يكون هناك كون مطابق لنا فيزيائيا ولكن ينقصه
الوعي، فإن الوعي لا بد وأن يكون مكونا إضافيا غير فيزيائيا
لكوننا. إذا كان الله يمكنه أن يخلق "عالما زومبيا"، فإنه (كما
يقول كريبك"Kripke")
بعد خلق العمليات الفيزيائية في عالمنا، يجب أن يفعل شيئا إضافيا
ليضمن أنه يحتوي على الوعي.
يمكننا
أن نضع هذه الحجة في أبسط اشكالها كما يلي:
(1)
يمكن تصور وجود "زومبيات".
(2)
إذا كان من الممكن تصور وجود
"الزومبيات"، فإنه يكون ممكنا ميتافيزيقيا وجود "الزومبيات".
(3)
إذا
ممكنا ميتافيزيقيا وجود "زومبيات"، فيكون الوعي غير فيزيائي.
(4)
الوعي غير فيزيائي
نسخة
أكثر عمومية ودقة لهذه الحجة تعود إلى "ف"، الفئة التي تمثل
المشترك ما بين كل الحقائق الميكروفيزيائية عن الكون، و "ق"، حقيقة
ظاهرية عشوائية عن الكون. (هنا "^" تمثل "و"، و"¬" تمثل "ليس".)
(1)
ليس من الممكن تصور أن ف^ ¬ق.
(2)
إذا كان من الممكن تصور أن ف^¬ق، يكون
من الممكن ميتافيزيقيا أن ف^¬ق.
(3)
إذا
كان من الممكن ميتافيزيقا تصور أن ف^¬ق، تكون المادية خاطئة.
(4)
المادية خاطئة.
5-3-3
حجة المعرفة (The
knowledge argument)7،
طبقا لحجة المعرفة، هناك حقائق عن الوعي
لا يمكن استنتاجها من الحقائق الفيزيائية. يمكن لشخص ما أن يعرف كل
الحقائق الفيزيائية، وأن يمتلك قدرة استنتاجية كاملة، ويبقى مع ذلك
غير قادر على معرفة كل الحقائق عن الوعي على أساسها.
نسخة
فرانك جاكسون القياسية لهذه الحجة تقدم بيانا واضحا. في هذه
النسخة، ماري هي عالمة في علم الخلايا (neuroscientist)
تعرف كل شيء هناك يمكن معرفته عن العمليات الفيزيائية المتعلقة
بالرؤية اللونية. ولكن ماري قد شبت في حجرة من الأسود والأبيض (في
نسخة بديلة هي مصابة بعمى الألوان8)
ولم يتح لها أن تحصل على خبرة اللون الأحمر. بالرغم من كل معرفتها،
يبدو أن هناك شيء مهم جدا عن الرؤية اللونية لا تعرفه ماري: هي لا
تعرف ماذا يشبه أن ترى اللون الأحمر. حتى المعرفة الفيزيائية
الكاملة والقدرة غير المحدودة على الاستنباط لا يمكننانها من معرفة
ذلك. مؤخرا، إذا مرت بخبرة اللون الأحمر لأول مرة، سوف تتعلم حقيقة
جديدة كانت تجهلها سابقا: سوف تتعلم ماذا يشبه أن ترى الأحمر.
نسخة
جاكسون لهذه الحجة يمكن أن توضع كما يلي (هنا المقدمات تختص بمعرفة
ماري عندما لم تكن تمتلك خبرة الأحمر):
(1)
ماري تعرف كل الحقائق الفيزيائية.
(2)
ماري لا تعرف كل الحقائق.
(3)
الحقائق
الفيزيائية لا تستنفد كل الحقائق.
يمكن
للمرء أن يضع حجة المعرفة بشكل أكثر عمومية:
(1)
هناك حقائق عن الوعي لا يمكن استخلاصها
من الحقائق الفيزيائية.
(2)
إذا كان هناك حقائق عن الوعي لا يمكن
استخلاصها الحقائق الفيزيائية، فإن المادية تكون خاطئة.
(3)
المادية
خاطئة
5-3-4
صورة الحجة
هذه
الأنواع الثلاث من الحجة مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا. هي جميعها
تؤسس فجوة معرفية (epistemic
gap) بين المجالين
الفيزيائي والظاهري. كل منها ينكر نوع معين من علاقة التقارب
المعرفي بين المجالين: علاقة تتضمن ما يمكن معرفته، أو تصوره، أو
تفسيره. على وجه الخصوص، كل منها ينكر نوع من معين من الاستتباع
المعرفي (epistemic
entailment) من
الحقائق الفيزيائية (ف) إلى الحقائق الظاهرية (ق): استنباط (ق) من
(ف)، أو القدرة على تفسير (ق) على أساس (ف)، أو القدرة على تصور
(ق) بناء على التصور التأملي لـ (ف).
ربما
يكون النوع الأكثر أساسية للاستتباع المعرفي هو الاستتباع القبلي (a
priori)، أو التضمن (implication).
في هذه الفكرة، (ف) تتضمن (ق) عندما تكون العلاقة المادية الشرطية
(ق
ف)
ثابتة قبليا؛ أي أنه، عندما يمكن للشخص أن يعرف أنه إذا كانت ف هي
الحالة فإنه ق تكون هي الحالة، على أن يكون التبرير مستقل عن
الخبرة. كل هذه الحجج الثلاثة أعلاه يمكن أن ترى على أنها تثبت
وجهة النظر ضد الاستتباع القبلي لـ ق بواسطة ف . إذا كان من غير
الممكن للشخص الذي يعرف فقط ف أن يستنبط ق (كما تقترح حجة
المعرفة)، أو أنه يمكن للمرء أن يتصور عقلانيا ف بدون ق (كما تقترح
حجة التصور)، فإنه يبدو أن ف لا تتضمن ق. الحجة التفسيرية يمكن
النظر إليها على أنها دعوى بأن التضمن من ف إلى ق سوف يتطلب تحليلا
وظيفيا للوعي، وأن تصور الوعي ليس تصورا وظيفيا.
بعد
تأسيس هوة معرفية، تستمر هذه الحجج في الاستدلال على هوة أنطولوجية
(ontological gap)،
حيث تهتم الأنطولوجيا بطبيعة الأشياء في العالم. حجة التصور تستخلص
من إمكانية التصور الإمكانية الميتافيزيقية؛ حجة المعرفة تستخلص من
فشل الاستنباط الاختلاف في الحقائق؛ والحجة التفسيرية تستخلص من
فشل التفسير الفيزيائي اللافيزيائية. يمكن للمرء القول بأن هذه
الحجج تستخلص من فشل الاستتباع المعرفي الفشل في الاستتباع
الأنطولوجي. النوع النموذجي (paradigmatic)
للاستتباع الأنطولوجي هو اللزوم (necessitation):
ف تستلزم ق عندما يكون الشرط المادي (ق
ف)
لازم ميتافيزيقا، أو عندما يكون من المستحيل ميتافيزيقيا لـ ف أن
تحصل بدون حصول ق. من المتفق عليه بشكل واسع أن المادية تتطلب أن
تكون كل الحقائق لازمة من ف. لهذا إذا كانت هناك حقائق ظاهرية ق لا
تتطلبها ف، فإن المادية تكون خاطئة.
يمكن
لنا أن نسمي هذه الحجج الحجج المعرفية ضد
المادية (epistemic
arguments against materialism).
ربما تعود الحجج المعرفية إلى حجج ديكارت ضد المادية (على الرغم
أنها لها شكل مختلف قليلا)، وأنها قد أعطيت أول انتشار بحثي واسع
في كتاب برود، والذي يحتوى على عناصر كل الحجج الثلاث أعلاه.9
الصورة
العامة لحجة معرفية ضد المادية هي كما يلي:
(1)
هناك هوة معرفية بين الحقائق
الفيزيائية والظاهرية.
(2)
إذا كانت هناك هوة معرفية بين الحقائق
الفيزيائية والظاهرية، فإن هناك هوة أنطولوجية، والمادية تكون على
خطأ.
(3)
المادية
على خطأ
بطبيعة
الحال هذه الطريقة للنظر إلى الأشياء تبسط بشكل كبير الموضوع،
وتجرد بعيدا الاختلافات بين الحجج.10
نفس الشيء يصدق على التحليل الدقيق الخاص بالتضمن واللزوم. ومع
ذلك، هذا التحليل يقدم عدسة نافعة يمكن من خلالها رؤية ما تشترك
فيه هذه الحجج، ويمكن من خلالها تحليل الردود المختلفة لها.
هناك
على وجه التقريب ثلاثة طرق يمكن من خلالها لأصحاب الاتجاه المادي
مقاومة الحجج المعرفية. المادي من نوع أ (type-A
materialist) ينكر
وجود هذا النوع المشار إليه من الهوة المعرفية. المادي من نوع ب (type-B
materialist) يقبل
وجود هوة معرفية غير مغلقة، ولكنه ينكر وجود هوة أنطولوجية.
والمادي من النوع ج (type-C
materialist) يقبل
وجود هوة معرفية عميقة، ولكنه يعتقد بأنها سوف تغلق في نهاية
المطاف. فيما يلي، سوف أناقش كل هذه الاستراتيجيات الثلاث.
5-4
المادية من النوع أ (Type
A Materialism)
طبقا
للمادية من نوع أ، ليس هناك فجوة معرفية بين الحقائق الفيزيائية
والحقائق الظاهرية، أو على الأقل، أي فجوة معرفية ظاهرة يمكن
بسهولة إغلاقها. طبقا لوجهة النظر هذه، ليس من المتصور (أو على
الأقل مع التفكير) أن يوجد نسخ من الموجودات الواعية التي ليس لها
حالات، أو تمتلك حالات مقلوبة، واعية. عند وجهة النظر هذه، ليس
هناك حقائق ظاهرية تجهلها ماري من حيث المبدأ من داخل حجرتها ذات
الأبيض والأسود (عندما تترك الغرفة، سوف تكتسب فورا هذه
الإمكانية). وطبقا لوجهة النظر هذه، مع إعمال التفكير ليس هناك
"مشكلة صعبة" في تفسير الوعي تبقى بعد أن يحل المرء المشكلات
السهلة لتفسير الوظائف المعرفية والسلوكية والبيئية المتعددة.11
David Chalmers, 2003,
"Consciousness and its Place in Nature", in
Stephen P. Stich, Ted A. Warfield (eds.)
The Blackwell Guide to Philosophy of Mind,
Blackwell, Pp. 102 – 142