مقدمة
البحث
في إطار هذه
النظرية يطرح أرماندو سلفاتوري في عمله الهام "إعادة موضعة عالم الإسلام" تصورا
تفصيليا لوضع الحضارة العربية الإسلامية القديمة في إطار النظرية الحضارية
المعاصرة واعتمادا على مساهمات عديدة لمفكرين آخرين في الموضوع.
في البداية يستعرض سلفاتوري موقف
الفكر الغربي الحديث، القائم على فكرة المركزية الأوروبية، من الحضارة
الإسلامية. يبين سلفاتوري أن العالم المسلم – والذي كان تكوينه السياسي الأساسي
– وهو الإمبراطورية العثمانية منظورا إليه من الغرب الأوروبي الحديث – ينظر
إليه لمدة طويلة على أنه يعاني من غياب ديانة تضع حدود لذاتها ودولة مركزية
قوية قابلة للاستمرار مدعمة بهوية مؤسسية واضحة. نتيجة لهذا التصور، طبقا
للمنظور الأوروبي، فإن قوة الدفع عبر الحضارية للإسلام تتبخر إذا قيست على
المعايير الموضوعة بواسطة الحداثة السياسية ذات المركزية الغربية. ويضيف، نسخة
أكثر تطورا من هذا التوصيف ترى أن السبب المشترك للخلل المزدوج المدعى هو ضعف
إرادة القوة لدى حاملي الحضارة الإسلامية، والذي أصبح ظاهرا في القدرة المحدودة
للنقد الذاتي والإصلاح الذاتي: مقدمة لخضوعها للهيمنة الغربية منذ نهايات القرن
الثامن عشر. (سلفاتوري: 100).
هذا التصوريرفضه سلفاتوري ويرى أن
هذا التوصيف لعوامل توقف الحضارة الإسلامية يجب أن يعاد النظر فيه. ويتابع
هودجسون في القول بأن مسار الحضارة الإسلامية كان أكثر "عالمية" من ذلك الذي
قام على بناء حضارة فردية مهيمنة، هي الحضارة الغربية الحديثة، ويعتبر، من
الزاوية عبر الحضارية، بناءا بدرجة أكبر. ويتبع هودجسون في القول بأن الطريق
الصحيح هو تحليل كل أشكال "العالمية" والذاتية في الحضارات المختلفة بدلا من
مجرد إجراء مقارنة جامدة بين كتل حضارية. ويرى سلفاتوري، طبقا لهذا التصور، أن
المقاومة المتكررة داخل الحضارة الإسلامية لعلمنة الهويات المؤسسية يجب أن تقيم
على أنها رد فعل لتوجه حضاري معين بدلا من التفسير الغربي بأنه خلل حضاري يعبر
عن فتور في إرادة القوة. (سلفاتوري: 101).
بنفس الرؤية تقريبا، يلخص جوهان
أرناسون موقف الفكر الغربي الحديث من الحضارة الإسلامية. فيقول بأن الاعتقاد
بأن التقاليد الإسلامية استبعدت أي تمييز بين الدين والسياسة لم يختف بعد من
الخطاب العام، ولكن النقاشات الأكاديمية قد قضت عليه تماما؛ ويضيف أنه من
المسلم به الآن بشكل واسع أن التاريخ الإسلامي اتسم بصور معينة من المسارات
التي تحقق هذا التمايز، ليست متطابقة مع تلك الخاصة بالحضارات الأخرى ولا يمكن
ردها إلى درجة أقل من نفس الديناميكية. في مسار الفتح الإسلامي الأول، التقاليد
والآليات الأكثر قدما للحكم الإمبراطوري تم دمجها في النظام الجديد، واكتسب
الفضاء السياسي بذلك أشكال ومعاني أجنبية بالنسبة للرؤية الدينية الأصلية
للفاتحين. في نفس الوقت، تطور الإطار الديني بطرق مؤدية إلى نوع معين من
الاستقلال للحياة الاجتماعية ولشروط على السيطرة السياسية عليها. (أرناسون،
2001: 399).
بعد هذا التوصيف المبدأي لاختلاف
الحضارة الإسلامية عن الحضارة الغربية الحديثة يضع سلفاتوري هذه الحضارة في قلب
علم التحليل الحضاري، ويرى أن دراسة دينامياته تثري النظرية الاجتماعية. ويبين
أنه
في إطار استخدام أدوات
علم الاجتماع التاريخي المقارن في التحليل الحضاري، إذا أخذنا في الاعتبار
خصوصية الإسلام بطرق تتعالى بشكل جزئي على المقاربات المقارنة الصارمة، يمكن أن
تظهر المفاهيم المفتاح في النظرية الاجتماعية في ضوء جديد: لا تبدو فيه خاضعة
فقط للتدقيق في نقد الحداثة الأكثر حضورا في ديناميات الحضارة الغربية، ولكنها
تكتسب مزيدا من الإشكاليات، التعقيد، وتزداد غنى من خلال الدراسة من خلال منظور
إسلامي للعلاقات المتبادلة للثقافة والسلطة، والتي تشكل المعادلات التحليلية
الأساسية للتحليل الحضاري. الاختلاف الإسلامي المزعوم يمكن أن يظهر بأنه متجذر
في "معيارية" دينامياته الكونية، مستثمرا الثقافة في صور متوسعة ذات مشروعية
وسطية للسلطة (سلفاتوري: 99 – 100).
في إطار النظرية الحضارية
التي ترتكز على فكرة إيزنشتادت عن العصر المحوري "Axial
age"،
يستعرض سلفاتوري العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارات السابقة عليه. فيبين
أن الإسلام كحضارة تخص المركب الحضاري "الأفرو-أورأسيوي" يقدم حالة مفتاحية
لفكر الفضاء الكوني عبر الحضاري. يسمى مارشال هودجسون، طبقا لسلفاتوري، هذا
الفضاء الكوني "عالم الإسلام" (Islamdom)
ويصفه بأنه حضارة فريدة من نوعها، والتي ورثت وركبت بشكل مبدع السمات الثقافية
والخصوصيات السياسية لوحدة ثقافية-جغرافية ضخمة وقديمة: عالم "الحضارة
الإيرانية-السامية "ما بعد المسمارية" بما يشمله من تقاليد ترتكز على النبوة في
غالبيتها قائمة على البلدات الصغيرة والتي تميل نحو التجارة (Hodgson,
1974, 1993).
ويضيف، نابعة من ومحافظة على مركز جاذبيتها الرئيسي في هذه المنطقة، أعاد
الإسلام تركيب وأعطى قوة دافعة غير مسبوقة لتراث عدد من المكونات الحضارية وعلى
وجه الخصوص الميل نحو الأممية وإلى درجة كبيرة المساواتية للتقاليد
الإيرانية-السامية. أعطاها إمكانيات جديدة عبر-حضارية بواسطة استثمار هذا الميل
نحو التوسع في اعماق نصف الكرة الأرضية "الأفرو-أورأسيوي" (العالم القديم).
(سلفاتوري: 100).
انطلاقا من هذا الوضع المميز للحضارة الإسلامية يقدم سلفاتوري تحليلا تفصيليا
للكيفية التي يجب أن يتموضع بها عالم الإسلام في فكر الحداثة. هذه التحليلات
ترتكز على أعمال مفكرين آخرين مؤسسين للتحليل الحضاري من أمثال أيزنشتادت،
جوهان ارناسون، مارشال هودجسون وريمي براغ، ولا تقدم سوى مبادئ وتصورات عامة
تحتاج إلى المزيد من العمل حتى تصل إلى تصور متكامل عن تموضع عالم الإسلام في
التطور الحضاري المعاصر.
يرى سلفاتوري أن هناك حاليا استرتيجيتان أساسييتان لتحقيق معايير اكثر عدلا
للتعامل مع الحضارة الإسلامية. الأولى هي مقاربة أيزنشتادت التي تعيد تأطير
الحداثة في إطار "تعدد الحداثات" (Eisenstadt,
2000).
والثانية هي مسار مواز يشدد على إمكانية التنظير حول البعد الدينامي للتقاليد
قبل تحليل أنماط الحداثة. ويرى أن كلا الاستراتيجيتان يمكن أن توفر أسس نظرية
لمنظور هودجسون للإسلام على أنه فضاء كوني عبر-حضاري متفرد يخلط بشكل أصيل
المكونات الاساسية "للشرق" و"الغرب" أكثر منه كحضارة متميزة ومدمجة مثل أوروبا
الغربية، الهند او الصين. ويضيف أن التقاليد، مع دينامياتها، خلافاتها الداخلية
والتفاعل المشترك، تراكباتها وأحيانا اندماجها، تمثل البعد الثقافي للحضارات.
ويبين أنه في سياق دراسته لعالم الإسلام، طور هودجسون نقده للتصور التافه
للتقاليد الذي كان شائعا خلال دوائر نظرية التحديث. ضد النظرات ذات البعد
الواحد للتحديث أكد على الفعل الخلاق والتفاعل التراكمي كسمات أساسية للتقاليد.
(سلفاتوري: 101 – 102).
وفي
مقارنة تحليلية طويلة يرى سلفاتوري متابعا ريمي براغ أن الفرق بين الحضارتين
الغربية والإسلامية يعود في النهاية إلى الانحراف في نوع من الأعراض التي تقوم
بترجمة الثقافة إلى سلطة وشرعنتها. ويبين أنه ليس أن عالم الإسلام هو الذي
انحرف عن القاعدة التي تجسدت في المعايير الحضارية التي حملتها أوروبا الغربية،
ولكن أوروبا هي التي انحرفت عن المسار الأكثر خطية بكثير للإسلام، والذي يعكس
تركيبا أكثر تناغما وأقل اضطرابا – وإن يكن أصلي – للموروث العبري مع التراث
اليوناني، الذي تم امتصاصه بحماس بواسطة الفلاسفة المسلمين والدارسين الآخرين
(سلفاتوري: 104).
في
استعراضه لتحليلات براغ عن مسار الحضارة الغربية الحديثة يكشف عن توتر أساسي
شديد يصعب تجاوزه بين تصورات "الروحي" و"الزمني" للسلطة، وأن التكوين المؤسسي
الشديد الازدواج الكامن تحت السطح القائم على العلاقة بين الكنسية والدولة كان
موروثا وخضع لتعميق وإعادة بناء أكبر داخل النظام السياسي الحديث الذي يرتبط
عادة بمعاهدة سلام ويستفاليا (1648).
في المقابل يربط براغ، طبقا لسلفاتوري بشكل واضح تفرد هذا النوع من عرض
السلطة-الثقافة مع نظيره داخل الحضارة الإسلامية، الذي تبدو فيه ماكينته
الثقافية، بالمقارنة بأوروبا، أكثر "طبيعية" ولا تكاد تحمل أي انحراف في
تموضعها مقابل مصادرها. وعلى العكس من العرض الأوروبي للسلطة-الثقافة الذي تيسر
من خلال الانحراف عن العصر المحوري، عمقت الحضارة الإسلامية فكرة التفويض
الإلهي للسلطة "للعامة" بتوسط من أنماط مساواتية، وهي عملية حفزها التخفيف
الرمزي الشديد لصفات السلطة الأرضية. هذه الفكرة الأساسية كانت مسبقا مركزية في
التبشير والتعليم عند الشخصيات المحورية الأساسية مثل إشعيا وسقراط ولكنها بقيت
أقل تقديرا في التطورات اللاحقة حتى ظهور الإسلام، والذي اعتبره روبرت بلاه
نموذجي في القدرة الكلية على تكثيف الروابط الاجتماعية نحو جوهره شبه العلماني
القائم بدون توسط وبذلك ينزع القداسة عن كل صور السلطة (Bellah,
1970: 146–70).
يضيف سلفاتوري نقلا عن براغ، أحدث الإسلام بعثا جديدا تركيبيا لكل تلك السمات الخاصة بمصادر العصر المحوري التي روجت لتوجه إنساني نحو "الخير المشترك" وأشاعها عبر فضاء عالمي واسع يقطع ما بين أوروبا، شمال أفريقيا، الشرق الأدنى والأوسط ومناطق شاسعة أخرى. الكلمة كما تظهر في القرآن تصبح لحظة تحرير بفضل قدرتها على الكشف وسلطتها المعيارية، أكثر منها بواسطة وضع دينامية أخروية في حالة حركة. في هذا الإيمان الجديد، الطريق من أجل التمثل الداخلي لإملاءات القانون الإلهي، "الشريعة"، يحتاج إلى القليل من التوسط يتيسر في الغالب من خلال الميل نحو تمثل حياة النبي محمد، والذي كان سلوكه النموذجي مشتركا مع مجال واسع من علامات الإمتياز في الفضاءات العديدة للفعل الإنساني. أغلب هذه القواعد الجديدة كانت مطبقة بواسطة "تقاليد" النبي وأصحابه (الحديث). (سلفاتوري: 105 – 106).
R
epositioning Islamdom: "the Culture-Power Syndrome within a Transcivilizational Ecumene, Armando Salvatore, European Journal of Social Theory, V. 13, no.1, p. 99- 115, 2010.