فرحان صالح
مجلة السياسة الدولية
25 أغسطس 2016
يعتقد أمين، بدءا، بوجود تلاق بين أهداف الولايات المتحدة، وصعود جماعات الإسلام السياسي في المنطقة. ترافق ذلك مع هروب هذه الجماعات من التحديات الاجتماعية والسياسية الحقيقية، في الوقت الذي تعلن فيه أنها تعارض كلا من (الرأسمالية والاشتراكية)، حتى تصير خطابات استراتيجية لها. وبالتالي، هناك نوعان من النقد لهذه الخطابات، أحدهما ينطلق من موقف يميني ينحاز إلى قبول مبادئ الرأسمالية في رفضه للأطروحات القومية والدين السياسي، والآخر ينطلق من موقف يساري لم يتنازل عن عدّ (الاشتراكية) بديلا مطلوبا عن الرأسمالية، خاصة أن المعارضة القومية والدينية تقبل عمليا بالمبادئ الرأسمالية.
يلاحظ أمين أن "الخطاب الأيديولوجي للرأسمالية يعزو التقدم والرقي للاختراعات التكنولوجية التي تصير المحرك الأول في التاريخ، لقدرة المنافسة في الأسواق على إنجاز التحولات السياسية والاجتماعية المطلوبة للتكيف مع التقدم التكنولوجي. ويزعم هذا الخطاب أن "تعميم ونشر الرأسمالية يعود بالفائدة على الجميع، فالرأسمالية تمثل الرشاد، وبالتالي إنجاحها يمثل نهاية التاريخ". إن الصراع الحالي المستمر "يتمركز بين منطق التراكم الرأسمالي، ومنطق المصالح الاجتماعية والوطنية المتناقضة معه، وهو صراع ينطلق من نظرة استراتيجية قائمة على إعادة النظر في النظام القائم، مع وجود تصور بديل قائم على التخلص من الأبعاد المدمرة التي يعززها تواصل عملية التراكم كما هي في النظام القائم". ويدور السؤال المركزي هنا عن التوازنات الاجتماعية السائدة في اللحظة الراهنة، وبالتالي في كيفية اندراج الجديد في تكريس هذه التوازنات. فالمنظومة العالمية للنمط الرأسمالي، التي تكونت في القرن السادس عشر، هي ما دفعت أوروبا إلى المبادرة بوضع نظام جديد عوّض القديم - الإقطاعي. وقد صاحب هذا التغيير نظام جديد مؤسس على غزو القارة الأمريكية، وإعادة صنع كيانها، كي يخدم التراكم الناشئ في أوروبا.
هكذا، نشأت ظاهرة جديدة أخذت بالتوسع والاستقطاب المتصاعد، والتوسع انطلاقا من الثورة الصناعية التي حرمت على الأطراف إقامة صناعة مماثلة.
لقد شهد القرن التاسع عشر الموجة الأولي من الثورات ضد الأنظمة الرأسمالية التي ناهضتها الثورات الاشتراكية، وأيدتها الحركات التحررية في آسيا وإفريقيا.
فبين عامي 1880 و1945، بلغت الرأسمالية أوجها، تلك التي أعطت معني للسياسات الوطنية، وللممارسات الديمقراطية البورجوازية. هذه وتلك ساعدتا في نشوء المسألة القومية، وقد قامتا بدور مهم في تعديل النموذج الليبرالي، وإضفاء الشرعية على سياسات الدولة التي تساند المنظومة الإنتاجية. لكن مع انفجار الحرب العالمية الأولي، بدأت تظهر أزمات النظام الرأسمالي المبرهنة على فشل هذا النظام في خلق ظروف دولية سلمية.
لقد استطاعت الحرب العالمية الثانية، وبفعل هزيمة الفاشية، أن تغير موازين القوي لمصلحة الطبقات الاجتماعية في الغرب. في المقابل، برز النظام الاشتراكي (السوفيتي)، حيث أقام علاقات اجتماعية جديدة، تمثلت في التضامن الاجتماعي، وفي الاستقرار في توزيع الدخل، وفي زيادة النفقات الاجتماعية بواسطة تدخل فاعل للدولة. فالنظام الاقتصادي الذي نشأ كان هدفه اللحاق بالتطور الغربي، وإلغاء التخلف، كذلك إنشاء البديل من خلال التخطيط المركزي المنفصل عن النظام الرأسمالي العالمي. لكن انحرافه عن المطلب الديمقراطي في بناء الاشتراكية أدي إلى انهياره، وإلى انزلاق الصين معه نحو الرأسمالية، وبالتالي إلي عودة سيادة تحكم الاحتكارات الرأسمالية في بناء نظام جديد سمي بالليبرالية المعولمة. لكن هذه العولمة لم تؤد إلى تسارع في التراكم، بل أدت إلى ثورة صناعية (الكهرباء، والبترول، والسيارة، والطيارة). وبموازاة هذا التطور، تشكلت الأوليجاركية الأولي الصناعية والمالية (ما يعادل اليوم الشركات المتعددة الجنسية).
ويقول سمير أمين: "لكن التناقضات تظل تعمل باطنيا، ولا بد لها في النهاية من الانفجار، حيث ستنهار البني التحتية التي كانت تبدو مستقرة. ويدخل التاريخ في مرحلة توصف بالانتقالية، وخلالها يتبلور فاعلون تاريخيون. لكن هذا الجديد، الذي تبلور في فترة السبعينيات من القرن العشرين، كان قد طور معه المشاريع التنموية، فانخفضت معدلات الاستثمار والنمو إلى نصف ما كانت عليه، وارتفعت البطالة، وانتشر الفقر، والأمية، واللامساواة على جميع الأصعدة. ترافق ذلك مع الانفتاح الاقتصادي الذي أدي إلى أوضاع كارثية على المستوي الاجتماعي، ومدمرة بالنسبة للطبقة العاملة، ولشعوب التخوم بصفة خاصة".
لقد تضمنت الطبقة، التي سادت في ظل الفقر والبطالة، أصحاب المليارات الذين يتباهون من دون حياء بالعولمة السعيدة. كما أسهمت هذه الأزمة بثورة تكنولوجية أثرت بقوة في الأنماط التنظيمية للعمل، إذ تشرذمت الحركات الاجتماعية. لكن في المقابل، توسعت مشاركة المرأة في ساحة العمل، وانتشر الوعي بمدي الدمار الذي مس البنية الاجتماعية إلى مستوي لا سابق له، وهذا ما أسهم في انفجار الأزمة الكبري عام .2008
شكلت هذه الحالة مبادرات سعت للإنقاذ، وبالتالي لضمان استمرار رأس مال الشركات المتعددة الجنسية في التحكم بزمام الأمور. كما بدأ البنك الدولي يوظف المنظمات غير الحكومية في خدمة خطابه المعروف بمكافحة الفقر. وفي هذا الظرف الفوضوي، كانت الولايات المتحدة تحاول استرجاع هيمنتها الشمولية في ترتيب النظام العالمي في أبعاده المختلفة.
رافق تلك المرحلة بروز أهمية قصوي للثورة العلمية والتكنولوجية، وانعكاساتها على تنظيم العمل، وعلى العلاقات الاجتماعية، وعلى ثقافة المجتمعات التي تسهم في الثورة العلمية المعاصرة، خاصة المعلوماتية، مما ساعد على إعادة هيكلة النسق الإنتاجي، وأدي إلى تغيرات عميقة قد تسهم في تلاشي قانون القيمة، وبالتالي إلى تجاوز الرأسمالية بأساليب مختلفة. لقد تغيرت العديد من الأنساق المرتكزة على تنظيم شبكي، عوضا عن التنظيم الهرمي العلمي، وعلى تفاعل المشاريع، عوضا عن الوحدة التي كانت تمثلها المؤسسة، كما أنها تزعم أن مجتمع الشبكات الجديدة سيفتح آفاقا أمام الاستقلالية الخلاقة والإبداعية للأفراد.
أما نتائج هذه التحولات، فتكمن في الصعود السريع والاستثنائي في نصيب عوائد رأس المال والملكية على حساب عوائد العمل، (التهميش والفقر)، إضافة إلى إقصاء أقسام ملحوظة من الشعوب. كان ذلك بسبب التطورات النوعية التي عرفها الغرب. إن ترسانة الأسلحة النووية من شأنها أن تضع حدا لكل حي على الأرض، مما يدعو إلى العدول عن استعمالها وتفكيكها بأكملها. لكن الحلف الأطلسي كان قد احتفظ بحقه في المبادرة بالضربة النووية الأولي، إذا لزم الأمر. وهذا ما يجعلنا نطرح ليس مسألة مستقبل البشرية فقط، وإنما مسألة البيئة، حيث إن الإنسانية تعيش خطرا حقيقيا يهدد الحياة على وجه الأرض. فهل من الممكن ألا تؤخذ في الحسبان هذه الخصائص؟
إن قراءة العديد من الظواهر تبين لنا عنف هذه العولمة التي يقابلها ضعف الدول، وانحسار القوميات، مقابل بروز الشركات المتعددة الجنسية (العملاقة) التي حصلت على استقلاليتها تجاه الدولة، على الرغم من أنها تظل في العمق وطنية بتملكها وإدارتها، وحدود انتظامها عالميا. لكن تلك الشركات اكتسبت من القوة ما يمكنها من تطوير استراتيجيتها خارج دولها. إن تلك الشركات العملاقة تسعي في المجال الاجتماعي إلى تفكيك الخصخصة، وفتح الأسواق العالمية لسيطرتها. لقد أدت أزمة عام 1997 إلى خسائر مالية بآلاف المليارات.
إن الاقتصاد الدولي هو اقتصاد قائم على اقتصادات وطنية متمركزة على الذات، لكنها تتفاعل وتتشارك عبر التجارة الدولية في السعي لتفكيك المنظومات الاقتصادية الوطنية. والخلاصة، ستبدو العولمة وكأنها أرخبيل داخل محيط، كما تبدو كثافة توزيع جزر هذا الأرخبيل متفاوتة، فهي عالية في المناطق المركزية، ومتوسطة في المناطق ذات التصنيع المتوسط، وضعيفة في تخوم العالم الرابع المهمش.
إن العالم يعاني أزمة حضارية، وإن الرأسمالية أصبحت نظاما باليا غير قادر على الاستجابة للتحديات والمشاكل الاستثنائية المتراكمة، لهذا يجب تجاوزه، وعلى كل الحركات الاجتماعية أن تقوم بهذه المهمة.
خطاب القومية:
اتخذت التيارات القومية السياسية مواقف متنوعة تجاه قضايا الإصلاحات السياسية والاجتماعية، وتجاه الدعوات التي تدعو إلى الديمقراطية. فالتيارات القومية كانت في خطاباتها قد أضفت أهمية رئيسية على إنجاز وحدة الوطن العربي، بعدّ ذلك ضرورة تاريخية.
لكن هناك مجالات، كما يري سمير أمين، قد أُغفلت في أيديولوجيات هذا التيار، وهي ربط النضال من أجل الوحدة بالصراع الطبقي، خاصة أن إنجاز الوحدة أمر مستحيل دون الخروج من الرأسمالية، بمعناها الشامل، مما يحتم ذلك التخطيط لعلاقات اجتماعية ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع، من الجانب الآخر.
إن الوحدة العربية لا تزال مطلبا ملحا، لكن هناك نظرة خاطئة تري أن الأمة العربية تتحقق عبر تطور وتكملة مسار الرأسمالية، وهي نظرة خاطئة، لأن البورجوازية العربية، ذات الطابع الكمبرادوري، لن تفلح في تطوير رأسمالية كاملة، وبالتالي لن تنجز مهام المرحلة القومية. لذا، فعلى الطبقات الشعبية إنجاز هذه الأهداف، وهي الخروج من الرأسمالية، وتحقيق الوحدة العربية، عبر نضال الحركة الشعبية المعادية للرأسمالية.
لكن ما هو الوعي الذي تكتسبه هذه الحركة؟ يجيب سمير أمين في رده على شمس الدين الكيلاني: إن "القوميين يفترضون وجود القومية العربية دون التساؤل حولها، وحول المكونات التي تعطي معني ملموسا لهذا الوجود. إن ما حدث من تغيرات، خلال تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية، من شأنه أن يؤثر، إيجابا أو سلبا، في كيان المجتمع، وبالتالي حول سمات الجماعة المعيشية، وحول ما قد يحدث من تنوع أنتجته هذه المتغيرات من منطقة عربية إلى أخري. إن الخطاب القومي يعتمد على سرد وقائع وسمات يفترض أن تثبت وجود هذه القومية، سواء حول ما صدر من كتب تناولت عروبة مصر، أو عروبة الجزائر، أو المغرب، كلها متشابهة، وتقوم بعرض نفس الوقائع والسمات. وينحصر الجمع الذي يراه القوميون على عدد محدود من السمات الأساسية التاريخية، دون بذل المجهود المطلوب لفهم تنوع تفاعل فعلها في أوجه أخري للحياة الاجتماعية الخاصة بهذه المجتمعات. معني ذلك عند القوميين أن هذه السمات تساوي العروبة في حد ذاتها".
ويعيب سمير أمين هنا على "استخفاف الفكر القومي في نظرته للمنظومة الاقتصادية الملموسة، وخصوصياتها، وتنوع تطوراتها من منطقة إلى أخري، ومن عصر إلى آخر، وطابع علاقات الإنتاج المتغير، وشروط إنتاج الفائض، وتمليكه، واستخدامه. كذلك بالنسبة إلى نظم الحكم. إن اعتبار هذه السمات معزولة عن النظام الاقتصادي ونظام الحكم لا يعدو كونه عرضا سطحيا يكاد يقوم على بديهيات، ولا غير".
ويحدد أمين السمات التي تستخدمها التيارات القومية بما يلي: اللغة العربية الواحدة، ووحدة العقيدة الدينية السائدة، وأهمية حركات الهجرة التي شملت مناطق عديدة من الوطن العربي. وقد فعلت فعلها الإيجابي في خلق وسط متجانس للشعوب العربية، كون النخب العربية قد عدّت الوطن العربي فضاء واحدا في مزاولة نشاطها، دون شعور بالغربة والتمايز بين منطقة وأخري.
لكن هذه السمات الحقيقية لا تكفي للقول بتكون قومية واحدة. إن هناك مجموعة أخري من الوقائع تبين التنوع في السمات القومية، أي وجود قوميات قطرية ومحلية. من تلك المميزات: "التمييز الموجود بين مفردات اللغة الفصحي، أي لغة النخب المثقفة، واللهجات الدارجة المتنوعة، في حين بقيت ممارسة اللغة الواحدة محدودة التأثير. كما أن سيادة اللغة الدارجة تظل العنصر المتحكم في التفاهم المتبادل".
كما أن المراجع، ذات الطابع الثقافي الرفيع، قد أصبحت في الواقع قديمة، بمعني أنها غدت غير قادرة على تغيير الماضي والحاضر تغييرا مقبولا من وجهة نظر البحث العلمي الحديث. ويعتقد سمير أمين في أن الذين يرفضون الأخذ بالنظريات والمفاهيم المستوردة هؤلاء هم الذين يفهمون العروبة على أنها قائمة بحد ذاتها دون الحاجة إلى استيعاب ناتج تقدم المجتمع العالمي الخارجي.
لهذه الأسباب، تظل العاميات الدارجة العنصر المتحكم في التفاهم المتبادل، وتبقي المراجع الثقافية الشعبية، وهي في صدد سرد تعبيراتها المحلية القطرية، تغذي كيانات تكاثرت مع رواج أبحاث الأنثروبولوجيا الحديثة. إن المراجع ذات الطابع الثقافي الرفيع قد أصبحت في الواقع قديمة، خاصة أن المفاهيم والنظريات المستوردة، التي هي ضرورية للأخذ بها، تكاد تكون مرفوضة، وبالتالي فإن تلك المفاهيم محدودة التداول، إذا لم تكن منعدمة.
من المعروف أن الأسلمة والتعريب في المجتمعات، التي أصبحت عربية، هما عمليتان متلازمتان، بمعني أن الفتح الإسلامي، والغزو العربي يمثلان الوجهة للعملية نفسها. فإيران، مثلا، تميز بين التعبيرين، حيث الترحيب (بالفتح الإسلامي)، ورفض فكرة (الغزو العربي) مع تكريس مكانة اللغة الأصلية.
أما في البلدان، التي أصبحت الوطن العربي، فإن عملية التعريب (بل الأسلمة) ظلت بطيئة. مثلا الأغلبية الكبري من سكان المغرب استمرت طويلا، وحتى عقود غير بعيدة، في استخدام الأمازيغية، وتبدو اليوم حركة جدية في إنعاش الأمازيغية. وإن دل ما ذكر على أمر ما، فإنه يدل على أن المجتمع العربي لم يصبح وسطا عربيا إسلاميا متجانسا، كما يزعم البعض، بل اتسم بأخلاط من تفاعل عناصر ثقافية لغوية، بل ودينية من أصول متباينة. لقد مثل هذا النوع حالة إيجابية في الحضارة والفكر، لكن المنطقة التي استند إليها الإسلام كانت قد دخلت في مرحلة انحطاط، بدءا من القرن الثاني عشر الميلادي. توج هذا الانحطاط بالغزو العثماني، فتراجعت اللغة والثقافة العربية التي كانت تنحصر في العلوم الدينية لمصلحة تغليب اللغة التركية في مجالي الإدارة والسلطة. كما أن "مفهوم العقيدة الدينية نفسه قد تراجع، وأصبح مفهوما شكليا طقوسيا، وفارغا من أي فكرة". ويضيف أمين: "إن تلازم الغزو العربي مع موجات الهجرة كان قد لعب دورا في التعريب، وهذا من الضروري التركيز عليه، والإتيان إليه".
لكن هذه الهجرة لم تحقق مزيدا من التجانس المجتمعي، بل على العكس أنتجت مزيدا من التنوع، مع استيطان قبائل، وبذر روح القبائلية في مناطق، كانت قد تركتها هذه القبائل منذ قرون.
لقد عاشت النخب المثقفة الإسلامية في جو كوزموبوليني في حدود العالم العربي الأول. لكن هذه الظاهرة لم تكن عربية فحسب، بل كانت ظاهرة عالمية أيضا، كما أنها لم تكن دليلا على أن الشعوب التي عاشت تلك النخب في أوساطها كانت تكون "قوميات موحدة".
إن إشكالية تحديد المكونات القومية، وبالتالي إشكالية وجود هذه الظاهرة، هي إشكالية معقدة كثيرا. فالوقائع لا تثبت وجود قومية بمعني أمة عربية واحدة عبر التاريخ. إن هناك (قوميات قطرية) هي الأخري كرست وجودها عبر التاريخ. فمقولة (القومية العربية) هي مقولة أيديويولجية بحت. إنها نظرة أيديولوجية ثقافوية للمجتمع والتاريخ، نظرة تبحث عن (ثوابت)، بحيث تسم كل شعب بسمة خاصة له، مختلفة عما هي عليه عند الشعوب الأخري.
إن هذه المقاربة الثقافوية الثابتة أدت إلى الاندماج بين الإسلام والتيار القومي. لقد اتجهت هذه الشعوب بعد هزيمتها إلى عقيدة دينية حلت محل، العقيدة القومية. فالنظرية، التي يزعم القوميون أنها مصطنعة، لها جذور عميقة في التاريخ. إن اختلاف التطور المجتمعي قد أدي إلى تباين في الظروف الاجتماعية الملموسة التي تعيش الشعوب في إطارها. والسؤال: هل يمكن تجاهل الانقسامات القبائلية في المغرب، والطائفية في المشرق العربي، بل وحتى في الجزيرة العربية؟ وهل يمكن تجاهل التعارض بين سكان اليمن وأهل البادية في شمال الجزيرة؟ وهل يمكن تجاهل مطالبة الأمازيغ بالاعتراف بذاتيتهم غير العربية؟ والجواب أن للفرد العربي ذاتيات متنوعة، تدخل بين بعضها في تناقض أحيانا، وتتعايش دون صعوبة في أحيان أخري، كما لا بد من الاعتراف بالانتماءات الطبقية، وهي انتماءات متعددة شأن وجودها في المجتمعات الأخري. إن الانتماء إلى ما يمكن تسميته بالأمة الإسلامية، في ظل الخلافة العثمانية، هو ما يمكن ترجيحه، خاصة في ظل وجود ذاتية معايشة تنسجم أحيانا مع ذاتية مشتركة لدي النخب. فللفرد العربي (ذاتيات) عديدة متنوعة لعلها تدخل في تناقض في بعض الظروف، وأن تتعايش دون صعوبة في ظروف أخري. إن هدف تحقيق الوحدة العربية مستحيل دون الاعتراف بالتنوع في الانتماء. فالقومية، بما أنها ظاهرة حديثة مرتبطة بالرأسمالية، فهي أيضا النظرية التي كانت تسود في الماركسية التاريخية. فالماركسية تشير إلى أن الاستعمار هو سمة دائمة للتنوع الرأسمالي. لذا، لا يمكن اختزال التاريخ العربي بمجرد إشهار هذه الدولة أو تلك عروبتها.
أمام هذا الوضع، يطالب سمير أمين ببلورة مشروع تحالف قوي اجتماعية قادرة على إنجاز التحرر السياسي والاقتصادي، مشروع يفترض تشكيل تكتلات شعبية وطنية ديمقراطية، تكون بديلا عن التكتلات غير الديمقراطية. إن الاكتفاء بخطاب أيديولوجي (قومي)، وخال من نقد هذه الذات، قد فتح الأبواب أمام إنعاش السلفية التي تجلت مع صعود الإسلام السياسي.
خطاب الدين السياسي:
يعيد سمير أمين التذكير بما نشره سابقا، معتبرا أن "الإسلام السياسي يخدم موضوعيا أهداف استراتيجية واشنطن". ويري أن "تطور مفهوم الحداثة، وبزوغ الرأسمالية من الجانب الآخر قد ساعد على بروز ظاهرتين لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضا، فالحداثة لا يمكن فصلها عن نمط التوسع الرأسمالي العالمي، لذا فهي حداثة مشوهة". إن تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية، وتفاقم الفقر في صفوف شعوبها، "هو السبب الذي يقف وراء انتشار دعوي الإسلام السياسي". والسؤال: "هل الإسلام السياسي قادر على تجاوز إنجاز هدف الخروج من الرأسمالية أم لا؟ وإذا كان الجواب سلبيا، لأصبح بزوغ الإسلام السياسي كبديل قائما على أوهام" (ص95). ويري أمين أن "الإسلام السياسي هو ظاهرة حديثة، وليس استمرارا لظاهرة قديمة. فالحداثة (بمعناها التداولي اليوم) لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية. لذا، فكل الظواهر السياسية، والاجتماعية، والثقافية، بل الطوائف والبدع الظاهرة، جميعها حركات مرضية" (ص98). لذا، فالإسلام السياسي (مثله مثل غيره من حركات دينية) لا يقدم إجابات تقوم على تحديد علمي الطابع، وبالتالي فإن الأيديولوجية الإسلامية تروي أوهاما خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم. إن الصين قد بادرت لاختراع الحداثة الرأسمالية قبل أوروبا بقرون، كذلك، يلاحظ في نمط التحديث في الرأسمالية، أن هناك بزوغا رأسماليا سابقا واضحا في مرحلة الازدهار الحضاري العربي الإسلامي.
تأكيدا على ما سبق، يطالب أمين بإعادة قراءة تاريخ عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، منتقدا حركة التيار العربي، التي تري أن النهضة العربية للقرن التاسع عشر قد فتحت السبيل للخروج من الانحطاط، والدخول في التحديث، بما فيه تبلور القومية العربية بصفتها ظاهرة حديثة. ويضيف: "إنه وضع الأصبع على التباس فهم النهضة العربية لأختها النهضة الأوروبية، وغياب إدراكها معني ومدي نقد الدين في الأخيرة، ودعوتها للعلمانية". لقد أدت الممارسات التي تجاوزت هذا الشرط إلى إجهاض مشروع النهضة، كما فتحت الباب لسلسلة ردّات قادت إلى نمو وتعثر ظاهرة الإسلام السياسي المعاصر.
ملاحظات على هامش القراءة:
يقترب سمير أمين في كتابه من رفضه لمسارين رئيسيين في الفكر السياسي العربي. ويعتمد هذا الرفض على التأصيل النقدي والموضوعية، ويدفع في الوقت نفسه للحوار مع الكاتب. سمير أمين يحاول أن يصوّب البوصلة نحو هدف مهم، هو كيفية بناء الذات العربية التي يتحتم عليها الانفصال عن النظام الرأسمالي، وهو بهذا الهدف يحاول أن يؤسس لمسار ثقافي سياسي خارج إطار المسار المتداول.
1- لابد من الاعتراف بأهمية وجدية ما يقدمه أمين من نقد للتيار القومي، لكن الكاتب يتجاهل ما قامت به بعض التيارات من محاولات تصويبية، وإن كانت قد وصلت إلى طريق مسدود. فسمير أمين، وهو يناقش أحد الكتاب الذين نقدوا رؤيته للمسألة القومية -شمس الدين الكيلاني، في كتابه "مصير الجماعة العربية .. نقد فكر سمير أمين"- نراه ينتقد التجربة الناصرية التي هي التجربة الأهم في هذا المضمار.
2- يعتقد سمير أمين في أن شمس الدين الكيلاني هو من يمثل التيار القومي العربي، خاصة أنه يري أن هذا التيار هو وحدة في ذاته، وأنه ليس فيه تعددية اتجاهات، في حين يرصد المتابعون لاتجاهات هذا التيار الفكرية والسياسية تعددية من التلاوين، خصوصا بين شرائحه الاجتماعية، ولاسيما بين النخب المعبرة عن توجهات هذا التيار.
وفي إطار هذه التعددية، من يقترب من أطروحات أمين الفكرية والسياسية، ومن يتناقض بالكامل، ليس مع فكر سمير أمين فحسب، بل مع الكيلاني ذاته أيضا.
3- لقد رأي أمين أن السادات وريث لعبد الناصر، وأن تجربته استمرار للتجربة ذاتها، لكنه لم يثبت ذلك. فعبد الناصر الذي خسر معركة عام 1967 هو من أسهم في التأسيس لحرب الاستنزاف التي خاضها الشعب المصري بقواه الحية، وقد أدت هذه الحرب إلى إعادة ثقة الشعب المصري بنفسه، وإلى خلق توازن قوة بين مصر و"إسرائيل". ومن الأمثلة خسائر "الجيش الإسرائيلي" الباهظة، وعلى الجبهات كافة، ولاسيما منها الخسائر في قطاع الدفاع الجوي، حيث يرصد المؤرخون إسقاط الدفاعات الجوية المصرية لما يزيد على سبعين طائرة حربية. هذه الخسائر هي التي دفعت إسرائيل -بمبادرة أمريكية- إلى إبرام اتفاقية روجرز المشهورة. كما أن عبدالناصر حوّل الانقلاب على الملكية عام 1952 إلى ثورة، إذ عمل من أجل تحرير الشعب المصري من الإقطاع، والعبودية، والرق أيضا. ويعرف أمين أن المسيطرين على القطاع الزراعي لم يتجاوز عددهم الألفي إقطاعي، ويعرف كيف كانوا يتعاملون مع الفلاحين، ويتباهون في إذلالهم، لذا حرر عبدالناصر الفلاحين من العبودية والإقطاع، مؤسسا بهذا للتخلص من الطبقة الإقطاعية التي تسوم الفلاحين أسوأ أنواع الإذلال، وأيضا للإسهام في خلق إرادة مجتمعية تخطط وتعمل للمستقبل بديلا عن توجهات الإخوان المسلمين الراعية ليس للإقطاع فحسب، وإنما أيضا لأطروحاتهم الأيديولوجية التي يحاولون عبرها توجيه الأنظار إلى ماض مظلم، وإلى تقاليد كان قد مضي زمانها.
لقد استحضر "الإخوان" أفكارا دينية مستخلصة من رواسب الماضي الإسلامي الأول، مستغلين بذلك الفقر والأمية بأبشع ما يمكن من الاستغلال. لكن عبدالناصر كان قد وضع هدفا له، هو تحرير مصر من الاستعمار الإنجليزي، وهذا ما حصل، حيث تحررت مصر من ربق الإقطاع الاجتماعي والديني، وربق الاستعمار الذي كان الوجه الآخر لعبودية المصريين، ولن ننسي تفشي الأمية في مصر التي تجاوزت 90 ٪ في عام 1952، وكيف كان مشروع ناصر موجها للتخلص من هذا العبء، لذا كان يسابق الزمن ليس لناحية التخلص من هذه الآفة (الأمية) فحسب، بل للتخلص من ثقافة الخدم أيضا، مؤسسا لثقافة جديدة، هي ثقاقة العمل بمعناها الإنساني، حيث أسهمت هذه الثقافة في تقديس فكرة العمل. وكان كما عرف عنه: عيناه في الريف، وقلبه في المدينة، وعقله مكرس لتقدم مصر والشعوب العربية سياسيا واقتصاديا. فقد أنشأ آلاف المصانع، وافتتح آلاف المدارس. وبالتالي، فإن هذه المشاريع كانت قد دفعت سمير أمين ذاته للقول عام 1963: إن مصر أكثر تطورا من كوريا الجنوبية، وأقل تطورا من اليابان. ونتساءل: هل المستويات المعيشية للشعب الصيني، أو الروسي، أو الهندي .. كانت أفضل مما هي عليه في مصر؟ وهل هذه البلدان كانت أكثر ديمقراطية مما كانت عليه مصر آنذاك؟ إن على الكاتب أن يكون منصفا، وهو يتحدث عن هذه التجربة، فعبدالناصر لم يسع إلى إعادة ثقة المصريين بأنفسهم فحسب، بل عمل من أجل تحقيق هذا الهدف عربيا وعالميا أيضا، أي إعادة ثقة الشعوب العربية بنفسها. لقد أسهم المشروع الناصري في صياغة عالم عربي جديد. فكان عبدالناصر، وكانت مصر قائدة للعالم العربي من دون منازع، وكانت أيضا قائدة لحركات التحرر في العالم أجمع، كما كانت قائدة لتكتل دولي (عدم الانحياز)، يضم ما يزيد على نصف الكرة الأرضية، فضلا عن أن الصناعات المصرية كانت منتشرة في معظم الدول الإفريقية، وأيضا في بعض دول آسيا. أما القطنيات المصرية، فلا مثيل لها في أوروبا والغرب. لقد كان عبدالناصر ذا نفوذ في قلب الولايات المتحدة، وفي الصين، وروسيا، والهند، وغيرها، وكانت صوره منتشرة في كل دول العالم.
أما أن يري سمير أمين أن "الساداتية" استمرار للناصرية، فهذا فيه الكثير من الإجحاف والتجني، لكن لماذا؟ لقد قام السادات بانقلاب كامل على كل ما أنجزته الناصرية، بدءا من تحالفه مع الإخوان المسلمين ضد الحركات اليسارية التي قامت ضد سياساته، كما أفرج عن معتقلي "الإخوان"، وطرد الخبراء الروس، وروسيا، الحليف الدولي الأساسي لمصر. كما شرع، وتحت حجة الانفتاح الاقتصادي، لمئات الشركات للاستيراد من الخارج، وهذا ما أسهم تدريجيا في تدمير القطاعات الاقتصادية المنتجة، خاصة القطاع العام، الذي تأسست البذور الأولية الداعمة لخصخصته من بداية تسلم السادات للسلطة. أيضا، فقد رأي، والشعب المصري في ذروة انتصاره في حرب 1973، أن 99٪ من أوراق الحل بيد الولايات المتحدة، في حين رأي عبدالناصر عام 1967، وهو في ذروة انكسار الإرادة المصرية، أن 99٪ من أوراق الحل هي بيد الشعب المصري، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. كما أن السادات كان قد أسس لحلول سياسية منفردة مع إسرائيل، في حين أنه كان عليه، والشعب المصري منتصرا، أن يعلق أية اتفاقات مع إسرائيل إلى حين عمل اتفاقات مماثلة مع شركاء مصر من العرب.
نقول هذا، ونحن ضد اتفاقيات كهذه بالكامل. ومن الظواهر الأكثر سلبية لسياسة السادات، فقدان مصر لعمقيها العربي والدولي، خاصة لأصدقائها في العالم.
إن هناك فرقا بين قيادة تثق بشعبها، وتنحاز إلى تحقيق الحاجات المصرية -والمشروع الناصري هو من ربط النضال الاجتماعي بالنضال الوطني، تماما كما فعل ماوتسي تونج- وبين قيادة لا تثق بشعبها. لقد عملت الناصرية على فك ارتباطها بالنظام الرأسمالي، وكانت تجربة عدم الانحياز هي الحاضرة في هذا المشروع. نقول هذا عن الماضي الذي أصبح تاريخا، ليس من أجل إعادة إحياء هذه التجربة، لكن للتمييز بين تجربة، علينا أن نستفيد من أخطائها، وتجربة لا يمكن إلا عدّها هي الأخطر، حيث وضع السادات مصر، وقرارها، ومصيرها بيد استعمار جديد، مثلته التجربة الساداتية في علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهذا ما أوصل مصر إلى ما هي عليه. لذا، فإن المصريين إذا لم يعتبروا أن على مصر أن تتحرر من الاستعمار والنفوذ الأمريكيين اللذين وضعتهم فيه سياسة السادات، ومن بعده سياسة الرئيس حسني مبارك، فإن إرادة مصر ستبقي مغلولة.
4- تجاهل سمير أمين الإشارة إلى أطروحات جرامشي، رغم أن أطروحات مرجعيتها أفكار جرامشي. إن دعوة أمين إلى تكتل شعبي هي ذاتها الدعوة التي نادي بها جرامشي تحالف (الكتلة الشعبية)، خاصة أن أوضاع الشعب الإيطالي بعد الحرب الأولي وهزيمة الفاشية الإيطالية، بعد الحرب العالمية الثانية، كانت شبيهة بأوضاع الشعب المصري، وإن كانت في مصر الآن نخب تؤسس لمسار جديد، مسار يسعي إلى الخروج من النفق المظلم الذي تعيشه، والذي أدي إلى انتفاضة 25 يناير .2011
وعلى الرغم من هذه الملاحظات، فإن كتاب سمير أمين "في نقد الخطاب العربي الراهن" يبقي واحدا من الكتب التي يتعين على المثقفين قراءتها، والاستفادة منها.