باحثون عرب: الراحل خلف ثروة معرفية في مجالي الاقتصاد السياسي والنظرية السياسية
محمد الحمامصي
صحيفة العرب
15 أغسطس 2018
يجمع الكتاب والمثقفون الذين تابعوا تجربة سمير أمين الفكرية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع على عمق هذه التجربة وتأثيرها على مستوى العالم الثالث خصوصا، ومتابعته الحيثية بالقراءة والتحليل لمختلف قضايا المنطقة على نحو مركز.
الكاتب عصام الزهيري لا ينسى تعليق الراحل على ثورة 25 يناير 2011 عندما ذهب إلى أننا “كي نسمي ما جرى ثورة لا بد من تحقيق ثلاثة أشياء: العدالة الاجتماعية، ولن يحدث ذلك إلاّ بسياسة اقتصادية مختلفة عمّا كان سائدا، ثانيا، ديمقراطية حقيقية للمجتمع وهذه أكثر من مجرد انتخابات، بل دمقرطة للعلاقات الاجتماعية في العائلة والعمل، وثالثا تحقيق استقلالية للوطن في المنظومة العالمية”.
وقال الزهيري هكذا جاء تعليقه بعد أن وصفها ضاحكا بأنها “أكبر من انتفاضة وأقل من ثورة”، ولم يكن الكثيرون مستعدين للإنصات إليه في الوقت المبكر الذي قال فيه هذا الكلام الذي ينضح دقة من الجهة العلمية والصرامة من الوجهة الفكرية، والصدق مع النفس والإخلاص مع الآخرين، وهي السمات النفيسة لذهنية المفكر الذي لم يكن أقل من مفكر عظيم على مستوى عطائه النظري الذي جعل منه واحدا من كبار الدارسين لأوضاع وتطورات النظم الاقتصادية في العالم، ومن أكثر نقاد الرأسمالية دراية بها وإحاطة بقوانينها وآليات هيمنتها في الساحة الاقتصادية.
ولم يكن أمين، من وجهة نظر زهيري، مكتفيا بنشاطه الفكري النظري، ولكنه ساهم معرفيا في تجارب تنموية شتى تحت راية الأمم المتحدة جعلت له تلامذة حول العالم.
وفي نظر زهيري، فإن السؤال الذي يسأله الكثيرون بدهشة يتعلق بتلاحم وتواصل التجربة الفكرية والعملية للمفكر الاقتصادي المصري اليساري العالمي دون انقطاعات أو اهتزازات، رغم ما تعرضت له انحيازاته الاشتراكية من اختبار في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإحدى الإجابات المهمة عن هذا السؤال هي أن صاحب كتب “التبادل اللامتكافئ” و”التطور اللامتكافئ” و”ما بعد الرأسمالية” و”نقد روح العصر” وغيرها من الإسهامات الفكرية الخلاّقة التي تواصلت عبر ما يقرب من نصف قرن “لم يكن من البداية معجبا بتجربة الاتحاد السوفييتي وأحد نقادها المهمين، لكن الإجابة الأعمق في تصوري قدمتها والدته ذات يوم عندما سألها أحد أصدقائه عن الوقت الذي أصبح فيه أمين يساريا؟ وكانت إجابته أنه بدأ منذ السادسة عندما رأى طفلا يأكل من القمامة فقرر أن يغيّر المجتمع”.
الباحث والمترجم أشرف راضي رأى أن الراحل أثر على جيل كامل من دارسي العلوم السياسية والاقتصاد والاجتماع في مصر، من أبرزهم المرحوم أحمد ثابت أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الذي أعد رسالة الدكتوراه عن نظرية التبعية وأفكار سمير أمين التنموية.
وارتبط سمير بدوائر اليسار في فرنسا وفي مصر، وقد انتسب للحزب الشيوعي الفرنسي في الخمسينات وتأثر بالزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وساهم مع فوزي منصور وحلمي شعراوي في بلورة مشروع معهد البحوث الأفريقية، لكن لم يعرف عنه أنه أسّس مدرسة أو تيارا بحثيا مرتبطا به وبتجربته في مصر أو في العالم العربي، رغم اهتمامه في كتاباته الأخيرة بالأوضاع في مصر والعالم العربي.
"المفكر المصري اختار وهو في سن السادسة أن يكون يساريا عندما رأى طفلا يأكل من القمامة فقرر أن يغير المجتمع"
ويضيف راضي أن أمين يعد أحد أكبر منظري الاقتصاد السياسي العالمي والتنمية في العالم، وعرف في العالم الغربي، لا سيما العالم الناطق بالفرنسية، من خلال كتاباته النظرية قبل أن تترجم أعماله إلى العربية ويذيع صيته كأحد أهم منظري مدرسة التبعية في مصر والعالم العربي منذ مطلع السبعينات مع صدور الترجمة العربية لكتابيه “التطور اللامتكافئ” و”التراكم على صعيد عالمي”، عن الفرنسية، علما أنه حصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة السوربون بباريس في العام 1957.
كما احتل مكانة بارزة بين منظري مدرسة التبعية في أميركا اللاتينية وفي بعض المحافل الأكاديمية في الغرب إلى جانب الألماني المولد أندريه جندر فرانك، والبرازيلي فرناندو هنريك كاردوسو، وراؤول بربيش، والذين اهتموا أساسا بدراسة الاقتصاد السياسي للتنمية والتخلف.
بدوره أكد الباحث مدحت صفوت أن أمين خلف ثروة معرفية ثورية في مجالي الاقتصاد السياسي والنظرية السياسية، مازالت تؤثر في تكوين المناضلين ضد الرأسمالية العالمية والإمبريالية في صورتها المعولمة، بيد أن من المهم الاستدراك بأن الأحزاب اليسارية العربية لم تفد منه على النحو المطلوب، وكانت طروحاتها مباينة للسقف السياسي والأساس الإبستمولوجي لكتابات أمين، ولا ينفي هذا أيضا استفادة عدد من الأفراد داخل المنظمات اليسارية العربية.
ويعد كتاب “التطور اللامتكافئ” واحدا من الإصدارات شديدة الأهمية التي تلقي الضوء على بنية التخلف والتبعية في بلدان العالم الثالث، أو الأطراف كما يحلو لمفكرنا أنْ ينعتها وهي نظرية مستقاة من فلاديمير لينين وماو تحديدا بشكل ينطلق من واقع المجتمعات المستعمرة وشبه المستعمرة، التي أنتجت تطورا جديدا بشأن مفهومي “التخلف والتبعية”.
ويقول مدحت صفوت “كان أمين مفكرا يضع القوانين العامة الكبرى التى تشترط وتطبع بطابعها باقي قوانين التطور الجزئية، مطبقا مقولته على نحو عملي ‘أن تكون ماركسيّا هو أن تكمل عمل ماركس” في كتابه ‘قانون القيمة المعولمة’، وهو بالفعل عمل طوال حياته على استكمال النظرية الماركسية وتطويرها بعيدا عن الماركسية الميكانيكية، مستهدفا التعامل مع معطيات الواقع بأدوات الواقع سياسيا واجتماعيا وثقافيا، غير منطلق من الإجابات المعلبة، إنما كانت محاولاته لفهم الواقع نابعة من جدل الواقع ذاته والمعرفة، واعيا بأن الحركة في الثبات ليست حركة إطلاقا، ولا تنتج سوى الدوار”.
أما الكاتب الروائي خالد إسماعيل فرأى أن أمين مفكر ماركسي مجتهد، لم يكن من المنحازين للتصور السوفيتي الستاليني، وهو مصري الأب فرنسي الأم وهذا جعله يقرأ بلغتين وينحاز للانفتاح على العالم والأفكارالجديدة، وهو ينتمى لحزب اسمه “الراية” وهو حزب شيوعى مصري اهتم بقضايا الفلاحين.
ومن هنا نعرف سر انحياز سمير أمين للتصور “الماوي” نسبة إلى الزعيم الماركسي الصيني ماو تسي تونغ، وهو من أوائل المفكرين الذين قرأوا أزمة الرأسمالية العالمية التي ظهرت منذ عشر سنوات وهو صاحب نظرية المركز والأطراف باعتبار أوروبا وأميركا هما المركز والعالم الثالث هو الأطراف، ومن المهم القول إنه هرب من حملة النظام الناصري ضد الشيوعيين في يناير 1959، وهي الحملة التي انتهت باعتقال الآلاف منهم في تلك الحقبة.
وأشار المفكر المغربي عبدالمالك أشهبون إلى أن الراحل يعمد في كتابه “مذكراتي” إلى استحضار تاريخ التجارب الشيوعية في وطننا العربي، بحيث لا مفر من التأكيد على أن مسار هذه التجارب الفكرية والسياسية لم يكن مفروشا بالورود، خصوصا في مجتمع عربي إسلامي، شديد الاعتداد بهويته الدينية، حد التطرف في الكثير من الأحيان.
وخلال الكثير من الفترات العصيبة، عاش سمير أمين مع زوجته مرارة المطاردة وقسوة تضييق الحريات وتوجسا من الاعتقال، ممّا دفعهما إلى السفر إلى باريس هربا، وفيها شعر أنه من واجبه أن يعاود الاتصال بالحزب الشيوعي الفرنسي، لتعريفه بالأوضاع في مصر بعد اشتداد حملة الاعتقالات هناك.
ويقول أشهبون “من خلال ما سبق، يتأكد لنا أن سمير أمين لم يصل إلى عالم اليسار هكذا أو كيفما اتفق، بل دخله بالتدرج السلس، الذي يبتدئ بالتعاطف الطفولي الجامح مع قضايا المستضعفين في بلاده، وصولا إلى التزامه النضالي الواعي، بعد ذلك، في الحزب الشيوعي المصري، وعضوا فاعلا في الداخل والخارج”.
وأكد الباحث اليمني علوان الجيلاني أن سمير أمين يعدّ بالنسبة له واحدا من بقايا الكبار الذين لا تملك إلاّ أن تجلهم وتقدرهم مهما اختلفت معهم أو تصادمت مع بعض أفكارهم وتوجهاتهم، وقال “شخصيا أحب هذا النوع من العظماء، حين كنت في بدايات سنوات التكوين قرأت كتابه ‘الماوية والتحريفية’ كان بمثابة الكنز المعرفي الذي يفتح لوعيي المتواضع وقتها أبواب الاتجاه النقدي الذي يربط الأشباه والنظائر ويبني الأفكار من خلال هدم المقولات التي طالما أخذت بوصفها حقائق لا تقبل الجدل، ثم قرأت كتابه ‘أزمة المجتمع العربي’ وكان ذلك نهاية عام 1986، فزاد تعلقي بعقله وطريقة تفكيره وأصبحت المجلات التي يكتب فيها من أهم ما أحرص على اقتنائه، ناهيك عن البحث عن كتبه باستمرار”.
ويضيف “حين صدر كتابه ‘سيرة ذاتية فكرية’ عام 1993، كنت ألازم شاعر اليمن ومفكرها عبدالله البردوني وقتا كثيرا طيلة أيام الأسبوع، ومعه قرأت الكتاب، كنت أقرأ والبردوني يستمع مهمهما، يقاطعني بين الحين والآخر بتعليق من تعليقاته العميقة النافذة، بل ربما استطرد بنا النقاش وقتا طويلا نؤجل بسببه القراءة ليوم آخر”.
لم يكن أمين يكتب سيرة حياتية، بل سيرة عقله وتطور وعيه وتفكيره وتراكم تجاربه خلال نصف قرن يمتد من أول أربعينات القرن الماضي إلى مطلع تسعيناته، ولم تكن سيرته رصدا لصراع الشيوعية والرأسمالية في العالم بمقدار ما هي رصد لصراع التحديث مع البنى التقليدية في الدول النامية والوطن العربي في الصدارة منها.