دار الخليج
7/7/2008
د.رشدي راشد أحد العلماء المتبحرين في الرياضيات والفلسفة، وهو مصري يعيش
في فرنسا منذ نصف قرن، ترجم العديد من المخطوطات العربية إلى الفرنسية
والإنجليزية وشرحها تاريخيا وفلسفيا ورياضيا وعلق عليها، وأعاد إحياء تراث
ابن الهيثم والخوارزمي والكندي وعمر الخيام والسموأل، واكتشف حقائق لم تكن
معروفة.
حصل د.رشدي على جائزة الملك فيصل العلمية، وأثرى المكتبة العلمية ب 39
كتابا منها: “الرياضيات التحليلية بين القرن التاسع والحادي عشر “في خمسة
أجزاء”، الهندسة والمناظر في الحضارة الإسلامية، والرياضيات والمجتمع”. عمل
مديرا لوحدة تاريخ الفلسفة والعلوم في جامعة باريس والمركزي القومي الفرنسي
للبحوث و”أستاذ كرسي” فلسفة العلوم في جامعة طوكيو. وكان لنا معه هذا
الحوار:
قمت بإحياء تراث ابن الهيثم والخوارزمي والكندي وعمر الخيام، لماذا استفادت
أوروبا بتراث هؤلاء ولم
يستفد به العرب والمسلمون؟
تتميز أوروبا عن العالم العربي بوجود مؤسسات بحثية تهتم بمثل
هذه الأمور ومن ثم يمكن العمل داخل هذه المؤسسات لتحقيق هذه الدراسات. أما
العالم العربي فليست فيه مؤسسات بمعنى الكلمة ليديرها خبراء وتدار بصورة
ديمقراطية وعلمية تحت إشراف علماء وتحترم الفكر الحر، وفي غياب هذه
المؤسسات لا يمكن أن يستمر البحث العلمي أو حتى أن يبدأ وإذا لم نوجد هذه
المؤسسات فسنظل تائهين في صحارى التيه من دون مرشد أو دليل.
أين موقع العلم العربي من تجديد العلوم وتطويرها؟
إذا تجاهلنا العلم العربي لن نفهم ما جاء به العلم الأوروبي
في القرن السابع عشر، ولولا العلم العربي لما كان العلم الأوروبي خاصة في
المناظير والرياضيات والفلك والطب، فهو جزء من تاريخ العلوم ولكن يمكن أن
يكون له دور مهم في خلق المجتمع العلمي في البلدان العربية وخلق الوعي
العملي في الوطن العربي. المشكلة الأساسية التي يعانيها العرب هي غياب
القيمة الاجتماعية للعلم، وأن تكون هذه القيمة بعدا من أبعاد العلم العربي
وكذلك لفلسفة العلوم أن تساهم مساهمة كبيرة في خلق اللغة العلمية وتجديد
اللغة العلمية العربية، فلا يزال هناك الكثير من الكليات تدرس العلوم بلغات
أخرى بل للأسف ازداد هذا في السنوات الأخيرة وأزعم أنه لا يمكن تدريس
العلوم في المراحل الأولى على الأقل إلا باللغة الوطنية.
قلت إن التصور طويل الأجل أساس طريقتنا
المستقبلة الممكنة في الحياة وإدارة الأمم والجماعات
والتواصل على مستوى العالم كيف ترى آليات
التغيير نحو الأفضل؟
آليات التغيير هي النظر في النظام التعليمي من أوله إلى آخره
منذ البدايات وليس الجامعات والمدارس الثانوية، وينبغي منذ البداية تحديد
وتوطين النظام التعليمي، لكننا نسير في حركة عكسية بإنشاء المدارس الأجنبية
والجامعات المزعومة من الدرجتين الثالثة والرابعة، ولا يمكن للجامعات
الكبرى أن ترسل إلينا أهم الأستاذة وكبارهم للتدريس، وإنما سترسل لنا في
أغلب الأحيان أساتذة من الدرجتين الثالثة والرابعة، المحك إذن هو النظر إلى
النظام التعليمي وتمكين اللغة، فاللغة هي أداة الفكر وللأسف نرى تراجعا
للفصحى في البلدان العربية وخاصة مصر وبالتالي غاب الوعي العلمي، نحن في
انتظار رجوع العقل كما انتظرنا من قبل رجوع الروح، فالمجتمع الآن يسير بشكل
غير عقلي في ميادين عدة ويكفي النظر إلى حولك حتى ترى، ولن يرجع العقل إلا
بحرية النقد على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية.
في بحوثك العلمية تعمد إلى هدم الحواجز التقليدية بين العلوم
المختلفة فهل هذا استجابة لمتطلبات الحداثة؟
هو استجابة لموضوعية العمل وقد فرض هذا علي أثناء عملي فهذه
الحواجز لم تكن عادة إلا حواجز خاطئة أو ايديولوجية، فالبحث عن الحقيقة
التاريخية هو الذي قادني إلى هذا وليست هناك حداثة واحدة، ومن يزعم هذا لا
يدري ولا يدري أنه لا يدري، هناك حداثات متعددة في القرن الرابع قبل
الميلاد وهناك حداثة في القرن العاشر العربي وفي القرن السابع عشر وهناك
حداثة في أوائل القرن العشرين فالحداثات متعددة ومتراكمة.
كيف يمكن بناء الجسور بين التراث والحداثة؟
التراث جزء من الحداثة إلا إذا أردت التحديث بشكل أساسي
فدعني أقول بصورة ثورية لا يمكن هذا إلا من خلال تملك التراث العلمي
والفلسفي، لأن هذا هو أحد الأسس التي سيكون عليها البناء، سواء من الناحية
الفكرية أو اللغوية، أما إذا كنت تقصد بالتراث أشياء أخرى مثل الأدب، فكل
مجال يجب أن يناقش على حدة، ويمكن الاستفادة من التراث العلمي من خلال
العمل على التراث العلمي وليس معنى هذا الأخذ به كعقيدة، فليست هناك عقائد
في هذه الأمور ولكن يجب اللجوء إليه لتملك التاريخ، فالمجتمعات العربية لا
تمتلك تاريخها، ولخلق اللغة العلمية والرياضية ونشر الوعي العلمي هذه بعض
وظائف التراث، هناك أيضا التراث كموضوع علمي بحت يمكن أن يعمل عليه العربي
وغير العربي.
هل تؤيد النقد الفلسفي للتاريخ؟
طبعاً، لا يمكن كتابة التاريخ من دون النقد وإلا لن يكون
تاريخا وسيكون قصة أو سردا وليس عملا علميا، لا يمكن العمل من دون النقد
ولن نستطيع أن نخلق شيئا من دون النقد.
لماذا تراجعت الفلسفة بعد ما كانت أم العلوم؟
لم تتراجع الفلسفة بل زادت ممارسات الفلسفة ولكنها أخذت صورا
متعددة بمعنى زادت الأعداد التي تدرس الفلسفة بصورة هائلة في العالم فلم
يعد هناك “كنت” أو “هيجل”، فالمساهمة الفلسفية لم تعد صورتها التي تعودنا
عليها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى في منتصف القرن العشرين،
فهناك زيادة في عدد الفلاسفة الأكفاء ومع تزايد نمو هذه الظاهرة لم يعد
هناك “هيجل” واحد، فالفلسفة الآن مرتبطة بالعلوم فهناك تعدد هائل للعلوم
وتعدد هائل للتخصصات، فصورة الفيلسوف الذي يشرّع لكل العلوم، أصبحت لا تقنع
أحدا، ولا تقنع ممارس الفلسفة ولا العلماء فهناك تغيير للمنهج في دراسات
الفلسفة وقد اعتراها التقدم وليس التأخير ولا يمكن ممارسة الفلسفة بصورة
خطابية وشاملة جامعة.
برأيك ما الأفكار التي سيتمحور حولها القرن الحادي والعشرون؟
التنبؤ بما سيحدث عمل من أعمال المنجمين فأنا غير قادر على
التنبؤ بما سيحدث لكن من المؤكد أن الناس ستبحث عن الأهداف التي سبق ذكرها
وتحقيقها وستبحث عن العدالة والحرية في المجتمعات التي تفتقدها وهذا سيحدث،
فالمسألة مسألة وقت لا أكثر فالحكام العقلاء يفكرون في هذا الأمر حتى لا
تحدث مأساة، بمعنى أن هناك نهجين: الأول هو السماح بالممارسة الاجتماعية
والسياسية الحرة التي تستطيع أن تقود حركات الإصلاح. أما النهج الثاني فهو
القمع وهنا ستزيد الحركات الفردية والفوضوية والإرهاب والاختيار واضح فهذا
ما أتنبأ به.
معظم النخب العربية مبهورة بالغرب لدرجة الاستلاب فكيف ترى
الأمر؟
هذا التعميم لا أوافق عليه فهناك من يتبع، وهناك من ينكر،
وهناك من يعارض، ولكن أقول إن ما يجب عمله الآن هو تملك الأشياء بقدر
الإمكان وإعمال العقل لا الهوى ولا الاتباع بالنسبة لكل النخب سواء النخب
العربية العلمانية أو النخب العربية الدينية، ما أقصده أن هناك مخططا
لإلغاء العقل في المنطقة العربية وساهم في ذلك الكثيرون وهذا من أخطر
الأشياء التي تحدث الآن.
دعا طه حسين الى ضرورة الاتجاه نحو أوروبا من أجل التقدم واليوم ظهرت دعاوى بضرورة الاتجاه شرقا فإلى أي وجهة أنت تتجه؟
هذه المعارضة لا معنى لها إطلاقا وعندما نادى طه حسين بضرورة أن تتجه إلى أوروبا كان يريد أن يقول إذا أردنا تحديث مصر اجتماعيا وثقافيا في هذا الوقت لأنه لم يكن هناك تقدم إلا في أوروبا وليست المشكلة شرقا أو غربا ولم تكن هذه الثنائية في ذهن طه حسين، لقد عملت “أستاذ كرسي الرياضيات” في جامعة طوكيو واكتشفت أن اليابان تتبع أمريكا باستثناء أشياء خاصة باليابان كالمعتقدات والعادات وأسلوب الحياة، فاليابان تتبع التقدم العلمي وتساهم في صنع التقدم العلمي العالمي، فليس هناك شرق أو غرب وإنما هناك علم عالمي عليك بالمساهمة فيه أو الابتعاد عنه، والصينيون يكتسبون تقنيات العلم على أعلى مستوى من التقدم في العلم العالمي، وكذلك الهند تحاول اللحاق، أما العالم العربي فلا يريد اللحاق بقطار التقدم، ولذلك فهو في تراجع وليس في تقدم.