3د.
رشدي راشد يري أن التقدم والتخلف قرار سياسي (2-1):النخب العربية اختارت موقف التبعية |
|
||
مجلة الأهرام العربي | ||
أجري الحوار ـ مصطفي عبادةد. رشدي راشد, علامة كبري في مجال تاريخ العلوم العربية, وهو حاليا أستاذ متفرغ في المركز القومي للأبحاث العلمية في فرنسا, وكان يشغل حتي عام2001, منصب رئيس مركز تاريخ العلوم والفلسفات العربية والقروسطية في باريس, وقد أشرف علي موسوعة تاريخ العلوم العربية التي صدرت في لندن ونيويورك وحرر فيها الأجزاء التي تقع في تخصصه المباشر, وهي الحساب والجبر والبصريات الهندسية, تتوزع جهوده العلمية علي محورين كبيرين, الأول: ابتكار الرياضيات الاجتماعية وظهور نظرية الاحتمالات في العصر الحديث, والآخر: هو تاريخ العلوم الدقيقة كالرياضيات والبصريات في عصر نهضة الحضارة الإسلامية, ولأنه عالم بهذه المكانة العالمية حاولنا أن نتعرف منه ومعه علي أسباب انكسار تطور العرب العلمي, وقد كانت لديهم جهود مبكرة تؤهلهم لاحتلال مكانة لائقة بهم في السياق العالمي, لكن نخبهم ـ مع الأسف ـ اختارت موقف التبعية, ومنذ عهد الخديوي سعيد ومن بعده عباس بدأت حركات الاعتماد علي الخارج التي أحبطت بقية المجالات العلمية, وإلي تفاصيل الجزء الأول من الحوار: * يلح بعض المفكرين علي أننا متخلفون تقنيا, وأن الفجوة بيننا وبين الغرب كبيرة جدا, من خلال إقامتك الطويلة في الغرب ورئاستك لمركز تاريخ العلوم في فرنسا, كيف تقيم الوضع العربي علميا, وكيف يمكن عبور تلك الفجوة؟ للإجابة عن هذا السؤال, يجب أن نضع في اعتبارنا السؤال التالي: ما الموجود لدينا علميا في الوطن العربي ليضطر الآخرون إلي ترجمته؟ من الواضح أن أغلب المواد العلمية الموجودة لدي العرب هي امتداد لرسائل علمية تم تحضيرها في الغرب أساسا, ومع أنني لا أستطيع الحكم بشكل عام, لكنني أقول ليس هناك ما يسمي بالبحث العلمي العربي, أو الإنتاج العلمي العربي, هناك بالطبع إنتاج أفراد ممتازين والكثير منهم في الخارج وبعضهم موجود في الداخل, ويكتبون بلغات متعددة, لكن هؤلاء الأفراد, لا يصنعون مع ذلك, المساهمة أو الإنتاج العلمي العربي كونهم يعملون منفردين, وهنا ينبغي أن نفرق بين وجود أفراد وبين وجود مدارس علمية عربية تضع أسئلتها العلمية وتجيب عنها, والآخرون يلجأون إليها, لاستعارة هذه الأسئلة وهذه الإجابات, هذا ليس موجودا, ذلك هو الوضع الحالي, وهناك بالإضافة إلي ذلك أسباب تاريخية طويلة الأمد, ومنها: منذ عهد محمد علي, وعهد عبدالناصر إلي الآن, لم يهتم أحد بالعلم كقيمة اجتماعية, حيث كان يتم الاهتمام بالتكنولوجيا أكثر من العلم, أو بالأبحاث التطبيقية أكثر من الأبحاث العلمية النظرية, لأن مفهوم العلم كان تطبيقيا, علي سبيل المثال, عندما جاء محمد علي بالسان سيمونيين, الذين ساعدوا علي إدخال العلم في مصر, مثل كلوت بيك, كان هذا التصور نفعيا وتطبيقيا. واستمر هذا الوضع, ولما جاءت ثورة أو الانقلاب عام1952, كان هناك شعور بأهمية العلم, لكن كان التصور ـ أيضا ـ تطبيقيا ولم تخلق أو تنشأ معاهد الأبحاث التي تعمل علي العلم النظري, وحتي معهد الأبحاث المصري, هو أساسا ذو اتجاه تطبيقي أكثر منه نظريا. ومن هذه الأسباب أيضا, وجود الاستعمار القديم, وأحد أهم الأشياء التي فعلها الإنجليز فور دخول مصر هو إلغاء الكليات العلمية, وعندما أسست الجامعة المصرية وظهر أفراد ممتازون مثل مصطفي مشرفة, ومصطفي نظيف, حاولوا بجهود فردية إحياء البحث العلمي والعمل من أجله, وأنشأوا جمعيات ومجلات ما بين الأربعينيات والخمسينيات, ولأنها مجهودات فردية في أغلب الأحيان, فلم تتحول إلي خبرات اجتماعية داخل المجتمع المصري والعربي, ولم يفرض العلم كقيمة اجتماعية, لأن هذا لكي يحدث لابد أن تعترف بالعقلانية كالقيمة الاجتماعية الأولي وهو ما لم يحدث أيضا. وبعد النكسات والهزائم ودخولنا في مرحلة جديدة, بدأت بانتهاء العهد الناصري, ومع أول أيام السادات, ثم دخولنا في معاهدة كامب ديفيد, وكانت لهذه المعاهدة شروط, ومن هذه الشروط إلغاء كل المحاولات العلمية الجنينية التي تمت في عهد عبدالناصر, مثل معهد الطاقة النووية الذي كان يضم مشرفة وآخرين, ووقف البعثات العلمية إلي روسيا, ووقف الأبحاث في الفيزياء والكيمياء التي كانت ضمن مقررات معهد الطاقة النووية, وكما نعرف فإن الأبحاث تولد الأبحاث, فإذا توقف مجرد البحث فماذا ننتظر؟ فالبحث في الفيزياء مثلا يقتضي تكوينا علميا في الرياضيات والكيمياء ومجالات علمية أخري, وهذه قيمة البحث الذي يساعد علي نوع من النهضة العلمية وليس مجرد الشكل النفعي لها. وبدلا من تحويل العلم إلي مناخ كما كان يحاول عبدالناصر, استجبنا لشروط كامب ديفيد, واخترعنا قانون الردة, ودخلنا بالتالي في هوسة دينية وأقولها بكل وضوح هوسة دينية, لأننا نري آثارها الآن في المجتمع المصري, وبدلا من اكتساب القيم العقلية وفرضها كقيم أساسية, بدأنا نفرض قيما أخري باهتة دينيا, فتواري دور العلم والعقلانية تماما, هذا ما حدث ويحدث إلي الآن. * فكرة التقدم والتخلف تتم بالقياس علي ماذا, علي مستوي التنمية الاقتصادية ودخل الفرد, أم علي المستوي التكنولوجي؟ لا, إنها تتم علي عدة مستويات في الوقت نفسه, أولا علي مستوي القوة الإنتاجية( وليس القوة المعرفية) القوة الإنتاجية مرتبطة أيضا بأبحاث تطبيقية في العلم والاختراع, هذه الأبحاث تسبق بأبحاث نظرية ضخمة حتي لا تصبح مجرد مقلد, تشتري الاختراع من دولة المنشأ وتحاول تطبيقه, وهو ما لا يوفره الاقتصاد الريعي, مع قيم استهلاكية أساسا, فأين سيكون التقدم, لوأخذنا أي مجتمع من المجتمعات الغربية التقليدية فلن نجد منها أي مجتمع يقوم علي الاستهلاك والاقتصاد الريعي, إلا هذا النوع من المجتمعات في الوطن العربي, لأن الاقتصاد الريعي يهييء المناخ لفساد ضخم بكل أشكاله, وعدم الجدية حتي في النظر إلي المستقبل. * ومسئولية هذا تتحملها النخب بكل أصنافها أم المجتمع أم القرار السياسي؟ الكل مسئولون, لكن النخب المثقفة والسياسية هي التي لديها الإمكانية والفرصة لتحليل هذه الأمور, وتقدم مشاريع متعددة الأنواع في التعليم, والإنتاج والسياسة, لكنها في هذه اللحظة قررت الوقوف مع الاقتصاد الريعي مع بعض الإنتاج التمويلي الصغير وتعتمد ـ أرادت أم لم ترد ـ علي الاستيراد لكل السلع, وقررت أن تأخذ موقف التبعية. * لكن لماذا ينبغ علماؤنا عندما يقيمون في الغرب؟ هناك عدة تفسيرات لهذه الظاهرة, أولا هي ليست ظاهرة فريدة في التاريخ, فإذا نظرت إلي التاريخ ستجد أن الهجرة إلي المراكز العلمية الضخمة كانت طبيعية جدا, ففي العصر الوسيط كان العلماء يتجهون إلي بغداد, أو يذهبون إلي سمرقند أو القاهرة, بالنسبة إلي العلم هذه هي إحدي خصائصه منذ أيام اليونان, لسبب بسيط هو أنك إذا أردت أن تبحث فستبدأ من نهاية ما وصل إليه الآخرون, تلك هي عالمية العلم ولا حل لها, فالشباب الذين هاجروا, فهم علي المستوي المحلي لا يجدون المركز العلمي الذي يتيح لهم التقدم, وثانيا, وجود المناخ العلمي في المراكز العلمية الكبيرة, مثل وجود الطالب الجيد, ومن يعملون معي مثلا هم باحثون ممتازون أو علي الأقل جيدون, والزملاء علي مستوي جيد, فهذا يضطرني إلي التجويد, هذا هو المناخ العلمي, ثم وجود وسائل البحث, ليس المادية فقط, وإنما المعنوية أيضا, وخصوصا في الأبحاث الكبيرة, وهو ما لا يتوافر في البيئات المحلية العربية, فلابد إذن من الهجرة, ثم أخيرا الجو العام, إذا أحس الفرد أنه لا يفيد ولا أحد ينتظر منه أن يفيد, فهنا يصاب الباحث بالإحباط والملل فيذهب بعيدا, ولا يمكن بأي حال تفسير الهجرة العلمية بالبحث عن الربح المادي, عكس الهجرة الوظيفية التي تتم إلي بلاد البترول وهي لتحسين مستوي المعيشة, وفي رأيي أن الهجرة الأولي العلمية لم تضر مصر, علي عكس الهجرة الوظيفية التي أضرت المجتمع المصري ومصر كثيرا, لسبب بسيط وهو أن تكوين هؤلاء المهاجرين وظيفيا دفع من دم الفقراء, والإفادة منهم لم تكن موجودة علي الإطلاق, بل ذهبت إلي البلدان التي هاجروا إليها. * هذا الفشل العلمي ترافق معه فشل علي مستوي التفكير النظري سواء في علم الاجتماع, في النظريات السياسية وغيابها, وفشل مشاريع التنمية, هل أسباب فشل المشروع العلمي هي نفسها علي المستوي النظري؟ العجيب أنه من خلال دراستي في التاريخ العلمي وجدت أن هناك ارتباطا وثيقا بين العمل في المجالات الاجتماعية والعمل في العلوم, حتي الرياضيات, بمعني: العمل في المجالات الاجتماعية كاللغة, أو التاريخ, يخلق نوعا من المجتمع المحتاج إلي العلوم الدقيقة, وهذا ما تم في تاريخ العلوم في الفترة العربية, في القرن التاسع, وقبل ذلك في القرن السابع علي سبيل المثال كانت هناك أبحاث مكثفة في العلوم الاجتماعية في اللغة والتاريخ والفقه, وتطبيق الرياضيات في الفقه, وفي الفلسفة وعلم الكلام, مما خلق نوعا من السوق للعلم أو جمهور للعلم, لأن هؤلاء هم أنفسهم الذين سيطلبون ترجمة الكتب من اليونانية وغيرها, وللذهاب إلي أبعد من هذا سيحتاجون إلي رياضيات وفلك, إنه ارتباط وثيق بين المجالين النظري والعلمي, ومن ناحية أخري هناك ارتباط آخر, وهو أنه إذا كان العالم الذي يعمل في الفيزياء أوالرياضيات يبحث بشكل معين في ميدان, لا يمكن أن تفصل هذا عن التطور في ميادين أخري, مثل نظام التعليم,تشجيع البحث العلمي والتخطيط له, ولا أعرف مجتمعا تطور فيه العلم الطبيعي أو العلم الرياضي فقط إلا في حالات نادرة, كما في هولندا في وقت من الأوقات, بدون تطور في النظم الاجتماعية النظرية كالفلسفة وغيرها, حتي في النظم الديكتاتورية كما في الاتحاد السوفيتي كان هناك تطور ضخم في العلوم الطبيعية, لكنه في الوقت نفسه كانت هناك أبحاث في اللغة والأنثروبولوجيا. |
3د.
رشدي راشد يري أن التقدم والتخلف قرار سياسي:(2-2)الإسلام السياسي مشروع خيالي |
|
||
مجلة الأهرام العربي | ||
أجري الحوار ـ مصطفي عبادةفي الجزء الأول من هذا الحوار مع د.رشدي راشد عرفنا رأيه في وضعنا الحالي ثقافيا وعلميا فلما أهملنا العلم ظهرت لدينا الظواهر الغيبية مثل الإسلام السياسي والخرافة, وحدثنا عن دور النخب العربية ومسئوليتها فيما وصلت إليه أوطانها, وإسهام الاقتصاد الريعي في ظهور الفساد ومعاداة العلم.. وفي الجزء الثاني من هذا الحوار نقلب صفحات جديدة مع هذا العالم الذي وسع معرفتنا بالعلم العربي, فحقق منه نصوصا فريدة, سعيا لاستقصاء الإطار المعرفي الذي كتبت فيه هذه النصوص, فحقق ونشر: مدخل لتاريخ العلوم1971, وكتاب الجبر لديوفنطس1975 والباهر في الجبر للسؤال, وأعمال شرف الدين الطوسي الرياضية, والعلوم في عصر الثورة الفرنسية, وأعمال الكندي الفلسفية وغيرها من النصوص المهمة, سنعرف هنا الكثير عن العلم العربي, وعوامل تقدمنا مرة أخري, وحقيقة الدعاوي التي تتهم التراث العربي بالتعصب وبالصدام مع الحضارة الحديثة, وعن أعمال المستشرقين وإلي التفاصيل. * ألاحظ أنك تركز كثيرا علي علاقات الإنتاج والاقتصاد في أسباب التأخر العربي دون النظر إلي فكرة أن هناك مثقفين عربا كبارا ينتجون أفكارا, هل هذه الأفكار متأخرة أيضا أو مهزومة؟ علي هؤلاء المثقفين أن يعملوا, فإذا أردت التغيير لا يكفي التذمر, ولا النقد, بل عليك أن تعمل, لكن ماذا يستطيع أن يفعل المثقف, هذا هو السؤال, علي كل مثقف أن يعمل في ميدانه, العالم من خلال عمله في مجاله يحاول أن يخدم ويغير, لكننا عدنا مرة أخري للشكل الفردي, وهو ليس مهما بل المهم هو الشكل الجماعي في العمل, أنا مثلا أكتب كتبا وأعرف أن من يستطيع قراءة هذه الكتب في العالم العربي يعدون علي أصابع اليد الواحدة, فأقول إنه من المحتمل في يوم من الأيام أن تحدث نهضة ويقرأ أحد هذه الكتب وأكون بذلك أديت خدمة جليلة لوطني, وهذا أيضا كلام نظري تماما, ولن يغير المجتمع الحالي بأية صورة من الصور, كل ما يستطيعه المثقف كفرد إذا كان أديبا أن يكتب أدبا جيدا, إذا كان عالما أن ينتج أبحاثا مهمة, وإذا كان مفكرا أن ينتج فلسفة دون تقليد, وهكذا علي المستوي الفردي, إذا لم يسجن أو يتهم بالجنون أو تلفق له قضية سرقة أو خيانة. * في هذه اللحظة المفصلية هل كان المشروع الإسلامي معوقا لهذه النهضة أم كان جزءا منها؟ أولا ليس هناك مشروع إسلامي, هناك عدة مشاريع إسلامية, منها المشروع الإسلامي السلفي, ومشروع الإخوان المسلمين, وهناك نوع من الليبرالية التقليدية المصرية, التي هي مثقفة ومسلمة. * أنا أعني الإسلام السياسي؟ الإسلام السياسي هو مشروع خيالي وأعرف أنها كلمة قاسية فليسامحني من يقرأها, هو مشروع بدون مشروع, وعندما تقول إن الإسلام هو الحل, فأنت لم تقل شيئا, فهو حل ماذا؟ حل للمشكلة الاقتصادية.. التعليمية.. الاجتماعية, حل مشكلة توازن القوي في العالم, حل مشكلة إسرائيل, حل مشكلة المهزلة والجريمة التي تحدث في العراق, أي حل من هذه الحلول, وما الإمكانيات والوسائل, هذه عبارات جوفاء, وليس وراءها برنامج بالمعني الحقيقي للكلمة, ولا تحليل للمجتمع, ولا للفترة والعصر ولا لميزان القوي, أنا لا أقول باتباع التهادن أو ما يقوله الآخرون إطلاقا, ولكن هذا شكلي شعبي في الحديث عن الإسلام, فيه شعاراتية وليس فيه مشروع. * أنت متخصص في تاريخ العلوم والفلسفات القروسطية, لماذا تشيع لدينا فكرة أن العصور الوسطي كانت مظلمة تماما؟ هذه فكرة إنجليزية, وضعت في برامج تعليم سيئة, العصر الوسيط عندنا لم يكن متخلفا علي الإطلاق, بل كان بداية النهضة, وأرجو أن تنتبه إلي أن العصر الوسيط العربي يبدأ من القرن السابع عشر إلي اليوم, حتي لا تختلط علينا التواريخ, وهو غير العصر الوسيط الأوروبي. * هذا يعني أننا مازلنا في العصر الوسيط؟ نعم, بل ونزداد انغماسا في العصر الوسيط, مع أن عصرنا الوسيط عربيا بدأ قويا علميا, وعندما بدأت تسود الشروح بدلا من الاختراعات تخلفنا, وانخفض المستوي العلمي بدلا من التقدم, وكذلك التخلص من الأبحاث المتقدمة بدلا من الزيادة فيها.. إلخ, وهذا استغرق فترة, لأنه حتي أوائل القرن السابع عشر كانت هناك اكتشافات علمية عربية في الرياضيات وفي علوم أخري, ثم بدأ الإنهاك, ودخلنا في الظلام. * ما الذي يمكن أن نبني عليه الآن وموجود لدينا للخروج من مأزق التخلف؟ هناك عدة أشياء يمكن البناء عليها, فالأمور ليست مظلمة تماما, وأولها أن نبدأ ببناء المؤسسات العلمية مثل مكتبة الإسكندرية, في جميع فروع العلم, وعلي أسس صحيحة, وهذا لا ولن يتم بدون وجود مجتمع يريد أن يكون العلم فيه قيمة اجتماعية, وأساس ذلك أن يكون العقل هو المعيار الأساسي, ولا تحدثني هنا عن الثوابت, أنا أريد أن أفكر وأبحث في كل المسائل وأخضعها للعقل, ثم يأتي من يوقفني تحت دعوي أن هذه ثوابت المجتمع, وإن لم تحترمها سأسجنك كما تفعل السلطة, أو اغتالك, كما يفعل الإخوان المسلمون. بالإضافة إلي ما سبق لابد أن يكون هناك مشروع نهضوي حقيقي, وليس مجرد بروباجندا, وهذا لن يتم إلا بإعطاء الناس حق المبادرة. * الديمقراطية هي ما تقصد؟ سمها ما تريد المهم أن يمنح الناس فرصة المبادرة, وثالثا, وهو الأهم: ربط العلم بالإنتاج فإذا لم يكن لديك مجتمع منتج ومصنع, فما حاجتك إلي العلم, لأن العلم لا لزوم له في مجتمع ريعي, وأنت لديك العلماء, وتستطيع الاستعانة بعلماء من الخارج إذا كان لديك هذا المشروع للنهوض. * هل هذه مسئولية القرار السياسي أم المجتمع؟ مسئولية القرار السياسي, وهذا ما أقوله منذ ساعة, لكنك تريدها صريحة وها أنا أقولها لك, ثم يأتي دور الناس إذا كانوا راغبين في النهوض فلهم أن يفرضوا ذلك علي الساسة. * علي كثرة ما يحقق من مخطوطات في التراث العربي, إلا أن تحقيق المخطوطات العلمية قليل جدا.. لماذا؟ ولا يمكن أن يكون كثيرا, لسبب بسيط جدا أولا أنا لا أحقق مخطوطات لأنني أساسا مؤرخ وفيلسوف علوم, وتحقيق المخطوطات كان مصادفة في حياتي, فقد عملت في حساب الاحتمالات وتطبيقه علي الأمور الاجتماعية, وهذا كان موضوع رسالة الدكتوراه, واهتممت بالعلوم العربية لأسباب عدة منها الهزيمة النكراء في1967, وعندما كنت أخبر الآخرين ببعض تفصيلات العلوم العربية, كان الناس لا يصدقون, وهنا بدأت فكرة تحقيق المخطوطات لدي وترجمتها والتحليل والتأريخ لها, وقد وجدت أن ما يتم تحقيقه لا يخرج عن إعداد الكتاب للنشر دون تحقيق علمي سليم, ولا تأريخ للعلم المحقق فيه ولا تحليل له, وليس هناك الأسس العلمية للتحقيق كما يتم في الإنجليزية واليونانية وغيرها, وحاولت من جهتي تحقيق هذه الأسس فيما أحققه..وتحقيق المخطوط العلمي يستلزم ما يلي: أولا تكوين معرفة جيدة بتاريخ العلوم, ومعرفة جيدة باللغات حديثة وقديمة, ثم التكوين العلمي, فالذي يحقق رياضيات لابد أن تتوافر لديه علي الأقل دراسة أكاديمية في هذا العلم, ويأتي بالإضافة إلي ذلك التمرس في التفكير الفلسفي والمذاهب الفلسفية المتعددة, حتي لا يقف علي مجرد التحقيق, ويذهب إلي أبعد, ولهذا أنشأت معهدا داخل جامعة باريس السابعة لهذا العمل, وكونت مجموعة لدراسة تاريخ العلوم العربية وعلوم العصور الوسطي اللاتينية والعربية, وهذا المعهد وهذا التكوين العلمي لمحقق المخطوطات العلمية ليس موجودا في أي بلد عربي. * حتي علي مستوي الترجمة, أغلب ما يترجم عندنا متعلق بالأدب والفنون, ولا نستطيع ترجمة المنجزات العلمية؟ لأن ترجمة العلوم تحتاج إلي متخصصين, وعادة من يقومون بالأبحاث العلمية لا يحتاجون إلي ترجمة, لأنهم يعرفون العديد من اللغات, وهنا لابد من الإرادة السياسية للترجمة العلمية حتي يتحول العلم إلي قيمة اجتماعية, وعدم قصر العلم علي المختصين, وإنما يمتد إلي العامة. حتي المترجم من الأبحاث العلمية رديء في الترجمة فأنا أستطيع فهم البحث في اللغة الإنجليزية أو الألمانية, ولا أفهمه حينما أقرأه بالعربية, لأن المترجم ينقل كلمات وجملا ونحوا دون أن يفهم سياق العلم الذي يترجم البحث منه, وهنا لابد من تكوين مترجمين علميين ومنع الهواة من الترجمة والذين يبحثون عن المال. * لديك علاقة قوية مع العلم العربي القديم وتاريخه من ناحية, ومع الغرب والعلم الحديث من ناحية أخري, هل هناك فعلا عوامل كامنة في التراث العربي تؤدي إلي صدام الحضارات كما يقول الغربيون؟ هذا عبث, مجرد عبث, وكلام لا يستحق الرد عليه, فهو كلام باطل يراد باطل, لأن التراث العربي متعدد الأوجه ككل تراث إنساني وهو من أكثر التراثات في الإنسانية عقلانية, علي حسب خبرتي, تراثنا يمجد الكتاب, يمجد العقل والعلم, ولا أعرف في هذا التراث العربي أي اضطهاد جري لعالم, كما حدث في تراث الغرب, حتي في داخل الميادين الدينية كان هناك هذا الاتجاه العقلي, مثل المعتزلة..وفكرة صدام الحضارات لم تطرأ علي بال أحد إلا حديثا لأسباب واضحة سياسية عدوانية خاصة بالعراق وبما يحدث في المنطقة, ومن أطلق هذه المقولة؟ إنه هنتنجتون, وهو جاهل بتاريخ المنطقة, ولا يعرف حتي التاريخ العربي, إنهم أناس يتكلمون بعموميات عن جهل, وأنا مستعد أن أرد علي البابا في كلامه الأخير, ولكنني لا اعتني بأمثال هنتنجتون, لأنه لا معني له, وهو فقط مجرد شعار أيديولوجي, اخترع لتبرير عدوان مسبق, وهو أبشع من شعار الإسلام هو الحل, لأن شعار الصدام وراءه المخابرات الأمريكية وفئات قومية, وأهداف سياسية, يكفي أن تعرف من يؤمن بهذا مثل برنارد لويس. * البعض يطلق عليكم كعلماء عرب في الغرب, مجموعة الاستغراب في مقابل مصطلح الاستشراق.. هل هذا صحيح؟ هذا تحشيش.. ودعني أوضح أكثر: الاستشراق هو ظاهرة كانت لدراسة المجتمعات الشرقية سواء للاهتمام بأثر التراث العربي في الحضارة الغربية أو لأهداف استعمارية, والاثنان كانا موجودين, ويجب ألا نخلط بينهما. فماسينيون كان فعلا يهتم بالتصوف العربي, ولكنه كان في الوقت نفسه جنرالا في الجيش الفرنسي, وذهب مع الجيش الفرنسي لاحتلال سوريا. أما العلماء العرب في الغرب فهم لا يدرسون المجتمع الغربي, وليست لهم أهداف سياسية علي هذا المستوي, هم يدرسون مادة من المواد, أو ميدانا من الميادين, فهذه المشابهة بين الاستشراق والاستغراب فكرة بدائية وصبيانية ولا معني لها و9,99 منا كعلماء عرب في الغرب لا علاقة لهم بالمجتمع الغربي, فمنا من يدرس الفيزياء أو الرياضيات أو الأحياء, ومنا من يعمل علي موضوعات عقلية كحقول معرفية فقط* |