د. وائل غالي
جريدة الأهرام - 15 فبراير 2001
ولقد جاء سفر الرياضيات التحليلية للعالم المصري رشدي راشد خير
باكورة لمشروع نشر النصوص والدراسات المتميزة في التراث العلمي
العربي. وقد وضع العالم المصري رشدي راشد في هذا العمل
الجبار خلاصة خبرته الطويل في تحقيق ونشر النصوص العلمية
العربية التي ظل بعضها مجهولا حتي اليوم وما وصل اليه من الكشف
عن منهجية جديدة تماما في اعادة قراءة تاريخ العلم علي مستوي
العالم. أقول إن رشدي راشد لم يحقق النصوص القديمة وحسب إنما
تجاوز ذلك الوضع منهجية جديدة في كتابة تاريخ العلوم. وقد
وضع هذه المنهجية الخاصة والفذة في ضوء اعادة متأنية وتقنية
وتاريخية دقيقة للآراء السائدة حول تاريخ العلوم ومنهجياته.
فان الآراء السائدة تتفق فيما بينها علي القول بأن العلم نشأ
نشأة غربية خالصة وتطور تطورا غربيا. ولا يلغي تعدد المذاهب
الفكرية والاجتماعية للمؤرخين هذا الوفاق الضمني أحيانا
والصريح أحيانا أخري. وهو الوفاق الذي نشأ في القرن التاسع
عشر. وانطوي الوففاق علي التسليم التام بالطابع الغربي للعلم
وبأن الثورة العلمية الأولي قد تمت في عصر النهضة وبأن المنهج
التجريبي قد ظهر كوسيلة للبرهان في عصر النهضة وحدة وبأن العلم
العربي قد تركز في نقل النصوص اليونانية التي فقدت نصوص بعضها
وبقيت ترجمتها العربية وحدها وبأن معظم ما قدمه العلم العربي
من آثار ظل دفين المخطوطات ولم يؤثر قط في تاريخ العلم.
وكانت أخطر نتائج هذا الوفاق هي اقتناع المثقفين العرب أنفسهم
بهذه الآراء المسبقة. ينقلونها مع ما ينقلونه عن الغرب.
وقد انساق في هذا التقليديون والحداثيون علي حد سواد. لا
تميز منهجية رشدي راشد سوي اسم مصطفي مشرفة ودراسات مصطفي نظيف
عن الحسن بن الهيثم. أما زكي نجيب محمود وسلامة موسي نعقد
غاب عنهما معا البعد العلمي في التراث العربي رغم قناعتهما
العلمية. ومن الغريب أن هذه الدراسات وعمل رشدي راشد نفسه
ليس له الصدي المناسب بين المثقفين المصريين والعرب في الوقت
نفسه الذي يسعي فيه المثقفون لاجراء نقد معرفي شامل للتراث
العلمي. أما ثاني تلك النتائج فهو انصراف المؤرخين في العالم
عن دراسة العلم العربي الي ميدان الاستشراق. وأصبح العلم
العربي جزءا من الخطاب الغربي عن الشرق لا جزءا من تاريخ
العلوم الغربية نفسها. مما أدي الي تشويه البحث في تاريخ
العلم علي وجه العموم, فقد أصبحت المشكلة عند المؤرخين
الغربيين هي سد الفجوة بين العصر الهلينست وبين عصر النهضة
بتفس
ير ولادة العلم اليوناني من عدم أو بالتسليم بظاهرة
الثورة العلمية, أي بالقطيعة. وكما ترفض منهجية رشدي راشد
الجديدة فكرة القطيعة ترفض كذلك محاولات بعض المؤلفين العرب
لارجاع اكتشافات متأخرة الي العلماء العرب ولرد كل انجازات
العلم الحديث الي الأسلاف العرب. فهذا الموقف لا يقل خطورة
عن التسليم السابق بأن العلم ظاهرة غربية خالصة. فهو يلغي
التاريخ وتطور العلم. فكتابة التاريخ من طريق البحث عن
الاسلاف هو أكبر دليل علي عدم القدرة علي تحليل البنية
المعرفية للتصورات التي يؤرخ لها المؤرخون. فمنذ بداية
النشاط العلمي العربي بذل العرب القدامي جهودهم في ترجمة أمهات
الكتب العلمية اليونانية فلم يحارب العلم علي أنه دخيل. ولم
ينظر العرب الي الأوائل نظرة استبعادية إلا في بعض حلقات
التقليديين وفي فترات متأخرة بل نظروا اليهم نظرة الاعجاب
والتقدير. ولم يحل هذا الاعجاب دون الابتكار. فلم يكن
العلم العربي اذن علم شراح بل كان علم معرفة علماء أقروا منذ
البداية بعالمية هذه المعرفة., وفصلوها عن اعتبارات الملة
وربطوها بأهمية النقد وشرعيته. ومن ثمة لم يكن ورثة العلم
العربي هم العرب والمسلمون وحدهم بل أصبح العلم العربي إرثا
عالميا. وذلك بمعنيين. أولهما الترجمة الي اللغة اللاتينية
والعبرية في أوروبا. ومن ثم كان العلم العربي هو المصدر
والأساس للتعليم. والمعني الثاني أن تطويره كان علي أيدي
العلماء الأوروبيين. ومع أن رشدي راشد يراعي في تقسيمه
الجديد لتاريخ العلم ما أتي به العلم العربي فإنه لا يجرؤ علي
القول بالعودة الي التراث للبحث عن المشكلات العلمية
وأجوبتها. فالمشكلات التي تناولها ثابت بن قرة أو ابن الهيثم
قد زالت وتم حلها. وحل محلها مشكلات أخري ومشكلات أعقد.
كذلك لا يعود رشدي راشد الي التراث لحل المشكلات العلمية
الراهنة. فليس علي هذا النحو المباشر يظهر الاسهام العربي في
تاريخ العلم. فقد يفيد الاسهام العربي في تاريخ العلم عند
التفكير في وضع ملامح السياسة العلمية العربية في القرن الجديد
للإبداع كما يفيد في معرفة أن ترجمة الإسهام العربي إلي العالم
لا تنفصل عن الإبداع العلمي نفسه كما يبرهن علي ذلك مثال أحمد
زويل الناصع. ولن يتحقق هذا إلا باعادة النظر في تصور
الترجمة العلمية وسياستها كما لن يتحقق ذلك إلا بتوطين العلم
في الوطن العربي. وهو ما سماه أحمد زويل بانشاء المجتمع
العلمي. فالعلم ليس مجموعة من النتائج إنما هو روح, أي أنه
مجموعة من المقاييس والمعايير والقيم والضوابط التي تقيد طريقة
تناول الظواهر كافة. وأما منح الأولوية للجانب العلمي للعلم
علي جانبه النظري أو الأساسي فلا يؤدي الي ارساء البحث
العلمي. ولا يمكن أن يصبح العلم ظاهرة وطنية أو ظاهرة
اجتماعية اذا ظللنا نظر الي العلم نظرة تجعله نتاجا لحضارة
مغايرة تماما وكأننا لم نشارك لا قديما ولا حديثا في تكوينه.
ولن يكون هذا بوصل ما انقطع والكشف عن الجذور الحضارية وعدم
الشك في قدرته علي الابداع العلمي وحسب إنما أيضا باستكشاف
البعد العلمي للتراث القديم.