الدكتور نصر حامد أبو زيد
الدكتور نصر حامد أبو زيد (1943- 2010) مفكر مصري متخصص في الدراسات الإسلامية قسم اللغة العربية، من دعاة التجديد الديني تأسيسا على إعادة تحليل النصوص الدينية باستخدام المناهج العلمية الحديثة وفي ضوء سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي.
حياته
ولد الدكتور نصر في إحدى قرى طنطا في 10 يوليو 1943 ، حصل عام 1960 على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي، ثم حصل علي الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1972 م، تقدير ممتاز. ثم حصل على منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1976-1977م ثم على ماجستير في الدراسات الإسلامية عام 1976 م، بتقدير ممتاز. ثم دكتوراه في الدراسات الإسلامية، قسم اللغة العربية، كلية الآداب جامعة القاهرة،عام 1981 م، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. كما حصل على منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية 1978-1980م.
عمل في وظيفة فني لاسلكي بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية 1961 -1972 م. ثم معيد بقسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة القاهرة 1972م. وتدرج في سلك التدريس من مدرس إلى أستاذ مساعد حتى درجة أستاذ في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1995. كما عمل استاذ زائر بجامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان 1985 - 1989م.
عندما قدم أبحاثه للحصول على درجة أستاذ اتهمه أحد أعضاء لجنة الترقية في جامعة القاهرة بالردة وصدر ضده حكم بالتفريق بينه وبين زوجته ( تم إلغاؤه لاحقا)، تأسيسا على هذا الاتهام، وانتهى الأمر إلى أن قام الدكتور نصر، عام 1995، بترك الوطن في منفى اختياري حيث عمل كأستاذ زائر بجامعة ليدن في هولندا ابتداء من عام 1995.
مشروعه الفلسفي
جوهر المشروع الفلسفي للدكتور نصر أبو زيد هو الاعتماد على المناهج الحديثة والمعاصرة في فهم النص الديني. وهو الأمر الذي يؤدي إلى إنجاز مرحلة الإصلاح الديني ومن ثم دفع تحول المجتمعات العربية والإسلامية نحو النهضة. والمناهج الحديثة هنا تشمل الهرمنيوطيقا، تحليل الخطاب، البنيوية، الألسنية، والتاريخانية، إضافة إلى علم تاريخ الأفكار وعلم اجتماع المعرفة. ويرى الدكتور محمود اسماعيل أن الدكتور نصر أبو زيد،
من المفكرين الذين جمعوا بين الإحاطة بالتراث العربي الإسلامي وبين الفكر الغربي ومعرفتهما معرفة علمية أكاديمية، خصوصا في مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية. وهو فضلا عن ذلك من المهتمين بقضايا وإشكاليات الواقع العربي المعاصر؛ سياسيا وفكريا؛ فقد شارك – ولا يزال – في حركة التنوير بهدف صياغة مشروع نهضوي عربي معاصر؛ حيث قدم دراسات رائدة في مجال نقد التراث العربي الإسلامي. (محمود اسماعيل، 1998، قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر، ص 23)
أما الأستاذ محمود أمين العالم فيرى،
الواقع أن قراءة الدكتور أبو زيد هي قراءة في إطار الدين نفسه، لا بما يعلنه ويؤكده بأقواله وكتاباته فحسب، بل بمضامينها ونتائجها كذلك...
ولهذا يقول الدكتور أبو زيد في مقدمة كتابه :النص، السلطة، الحقيقة" أن "الخطاب الذي يطرحه هذا الكتاب يعد في جانب منه تواصلا مع خطاب عصر النهضة في جانبه الديني، ليس بدءا من محمد عبده حتى محمد أحمد خلف الله، بل هو تواصل مع هذا التراث في بعده الأعمق المتمثل في الإنجازات الاعتزالية – الرشدية. ولكنه تواصل يمثل "الامتداد النقدي لا لخطاب النهضة فقط بل للخطاب التراثي كذلك"...
ونقطة البداية في قراءة الدكتور أبو زيد للخطاب الديني هي تفرقته بين الدين والفكر الديني. فالدين – كما يقول – هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم هذه النصوص واستخراج دلالتها. وتتمثل إضافة الدكتور أبو زيد في محاولة تحليل هذه النصوص وهذه الاجتهادات لاستخلاص أو لإنتاج دلالتها على حد قوله. وهو يستند في تحليله إلى عدة أسس منهجية ومفهومية لعل أبرزها تسلحه بالمناهج العلمية الحديثة في إنتاج دلالة هذه النصوص مثل الألسنية والهرمنيوطيقا وعلم الاجتماع. والحرص على إنتاج الدلالة من داخل النصوص نفسها دون أن يفرض عليها رؤى أيديولوجية من خارجها، مدركا في الوقت نفسه أن الفكر البشري عامة – بما في ذلك الفكر الديني – هو نتاج طبيعي لمجمل الظروف التاريخية والحقائق الاجتماعية لعصره. (محمود أمين العالم، 1997، مواقف نقدية من التراث، ص60)
فلسفته
كما ذكرنا أعلاه، ما يميز المشروع الفلسفي للدكتور أبو زيد هو ارتكازه على المناهج الحديثة والمعاصرة عند معالجته لنصوص التراث. لذلك، يمكننا مقاربة فكره الفلسفي من خلال ثلاثة عناصر أساسية، منهجه، تحليلاته الفلسفية، وموقفه الفلسفي.
منهجه
يقوم الدكتور نصر أبو زيد بتطبيق المناهج الحديثة والمعاصرة في تحليل النصوص بشكل يتسم بنوع من الخصوصية بالنسبة للنصوص التراثية والدينية الإسلامية. فالمناهج الحديثة، على العموم، واحدة، ولكن التطبيق المنهجي يختلف باختلاف الثقافات. لذلك يمكن القول بأن نصر ابو زيد يزاوج بين المناهج التقليدية في التراث الإسلامي وبين المناهج الغربية الحديثة والمعاصرة في فهم وتحليل نصوص التراث، وتحليل الخطاب الإسلامي. وفي ذلك يقول،
يعتمد منهج تحليل الخطاب على الإفادة من "السميولوجيا" و"الهرمنيوطيقا" بالإضافة إلى اعتماده على "الألسنية" و"الأسلوبية" و"علم السرد". ولا يقوم هذا الاعتماد على توظيف حرفي لمقولات تلك العلوم وقواعدها المنهجية، بقدر ما يحاول الانطلاق كذلك من قراءة معاصرة للإنجازات التراثية في علوم اللغة والبلاغة، خاصة تلك الإنجازات ذات الطابع المتقدم، والتي تطرح بذورا تسمح بتأسيس إنجازات العلوم الحديثة تأسيسا ثقافيا عربيا. (النص السلطة الحقيقة" ص 8)
ويعبر عن ذلك الدكتور محمود اسماعيل كما يلي،
لقد أفاد المؤلف [الدكتور نصر] من المناهج البنيوية والسيميائية وفقه اللغة وغيرها في تفكيك النصوص واستبار غور مضامينها اللغوية والأسلوبية ودلالاتها المعرفية، كما ركز على مباحث في الفلسفة والعقيدة واللغة، واظهر طول باع في قراءة المصطلحات وكشف مضامينها معولا على تاريخية المصطلح والمفهوم في آن. كما لم يهمل مناهج القدماء من المفسرين والبلاغيين وعلماء الكلام وأفاد منها جميعها بعد دعمها بالمنهجيات الحديثة والمعاصرة. (محمود اسماعيل، قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر، ص 24-25)
أما الأستاذ محمود أمين العالم فيقول،
وفي تقديري أن قراءة الدكتور أبو زيد للتراث الديني والفكر العربي المعاصر تكاد تكون امتدادا في بعض عناصرها وتوجهاتها لمشروع الدكتور حسن حنفي وإن اختلفت معه اختلافا جذريا من حيث المنهج أساسا. فكلا القراءتين تسعى إلى إعادة قراءة الفكر الديني برؤية جديدة مختلفة عن أغلب القراءات السابقة بما يعيد بناءه بناءا جديدا. وكلا الرؤيتين – في تقديري – امتداد للرؤية الاعتزالية القديمة بأدوات منهجية جديدة ومختلفة. فقراءة الدكتور أبو زيد تقوم على التحليل العلمي النقدي التاريخي للنصوص...وقراءة الدكتور حنفي للتراث الديني تقتصر على الفكر الديني أو النص الديني الثاني دون النص الأول المتمثل في القرآن الذي قام الدكتور أبو زيد بتحليل آليات إنتاج دلالاته... على حين أن الدكتور أبو زيد رغم تركيزه على التحليل الداخلي للنصوص التراثية كشفا لدلالتها المحايثة فإنه يشير دائما إلى أثر العوامل الموضوعية والتاريخية والاجتماعية في تشكيل التراث وإن لم يقف عند ذلك طويلا لطبيعة دراسته التي يكرسها لدراسة البنية الداخلية للنصوص وآليات إنتاج دلالاتها. (محمود أمين العالم، 1997، مواقف نقدية من التراث، ص 65)
التحليل الفلسفي
يمكن القول بأن المفهوم المركزي في تحليلات نصر أبو زيد هو "التعددية الثقافية"، والتعددية عند أبو زيد ليست فقط ما بين الثقافات الكبرى وإنما أيضا في داخل هذه الثقافات نفسها. والوظيفة الأساسية التي تقوم بها عمليات تحليل النصوص وتحليل الخطاب في الثقافة العربية الإسلامية، من وجهة نظره، هي الكشف عن آليات الهيمنة الثقافية، أي هيمنة رؤية معينة داخل نفس الثقافة على رؤى أخرى مغايرة.
ولذلك يؤسس نصر أبو زيد تحليله على مسلمات تعكس بوضوح "التعددية الثقافية" في فكره. وانطلاقا من هذه المسلمات يتم إنجاز عمليات تحليل النصوص وتحليل الخطاب وصولا إلى الهدف النهائي وهو تحرير العقل من سلطة النصوص (أي من سلطة ثقافية معينة تستخدم النصوص) كشرط أساسي لتحقيق النهضة.
1- شروط المعرفة
يطرح أبو زيد مسلماته التي يبني عليها تحليلاته في صورة شروط نظرية المعرفة كما يلي،
والكتاب – كما سبقت الإشارة – ليس دراسة في فقه الإمام الشافعي من منظور علم الفقه، وإنما هو دراسة في "نظرية المعرفة" كما يطرحها فكر الشافعي من خلال علم الفقه.... الموضوع هو "الأصول" النظرية التي أقام عليها الشافعي وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية...المقصود رصد "آليات" التأصيل ذاتها من حيث هي عملية – أو عمليات – ذهنية، إنها دراسة في "المنهج" بمعناه الفلسفي... ومحاولة الكشف عن تلك الآليات تعتمد على مجموعة من المسلمات التي تحدد منهجية القراءة الكاشفة.
أولى تلك المسلمات، أن أي مجال من مجالات المعرفة ليس مجالا منفصلا عن باقي المجالات الأخرى في سياق ثقافة محددة، فمجال علم النحو وعلوم اللغة مثلا ذو صلة بمجالات العلوم الأخرى في الثقافة العربية الإسلامية، صلة قد تكون أقل قربا كصلة تلك العلوم بعلم الكلام والفلسفة...
المسلمة الثانية أن أي نشاط فكري – في أي مجال معرفي – ليس نشاطا مفارقا لطبيعة المشكلات الاجتماعية (الاقتصادية – السياسية – الفكرية) التي تشغل الكائن الاجتماعي. والمفكر كائن اجتماعي يمارس فعاليته الفكرية غير منعزل أو متعال عن طبيعته الأساسية تلك. لذلك لا يمكن النظر إلى فكر الإمام الشافعي بوصفه فكرا معلقا في فراغ، ولا يمكن التعامل مع الحقائق التي يصوغها هذا الفكر بوصفها حقائق طبيعية لا تقبل النقاش أو الرد... وأهم من مناقشة تلك "الحقائق" من منظور الصواب والخطأ هو البحث عن تفسير لها بردها إلى جذورها الاجتماعية....
المسلمة الثالثة أن منهجية الفكر تكتسب صفة "الصدق" أو "عدم الصدق" من منظور "رؤية العالم" التي تختلف من جماعة إلى أخرى داخل الثقافة الواحدة في تفاصيلها وإن تشابهت في كلياتها. وبعبارة أخرى ثمة منظور كلي إسلامي للعالم لا يختلف عند الجماعات (بالمعنى الاجتماعي أو المعرفي) المختلفة، ولكن تفاصيل هذا المنظور تختلف من جماعة إلى أخرى.... وحين ندخل "رؤية العالم" في تحليلنا للفكر يصبح "الصدق" أو "عدم الصدق" أمورا نسبية، أو تاريخية بالمعنى الاجتماعي، وهذا هو الذي يجعل ممكنا لنا الحديث عن "أيديولوجيات" مختلفة داخل النظام الفكري الإسلامي....
المسلمة الرابعة: إن كل الخلافات الاجتماعية (الاقتصادية، السياسية الفكرية) بين الجماعات المختلفة في تاريخ الدولة الإسلامية كان يتم التعبير عنها من خلال اللغة الدينية في شكلها الأيديولوجي. لم يكن ممكنا ممارسة أي صراع إلا على حلبة الخلاف حول قضايا التفسير والتأويل، أي النزاع على ملكية النصوص والحرص على استنطاقها بما يؤيد التوجهات والمصالح التي تعبر عنها الجماعات الفكرية....
وهذا يقودنا إلى المسلمة الخامسة وفحواها أن سيطرة اتجاه فكري بعينه لفترة طويلة من الزمن لا يعني أن الاتجاهات الأخرى اتجاهات "ضالة" و"كافرة"؛ لأن هذه الصفات الأخيرة تعد جزءا من آليات الاتجاه المسيطر لنفي الاتجاهات المخالفة. إن السيطرة تتم وفق آليات سلطوية ذات طبيعة سياسية غالبا، وهي آليات لا علاقة لها بمفهوم "الحقيقة" بالمعنى الفلسفي، لأنها آليات تفرض "حقائقها" في الوعي الجماعي بعد أن تضفي عليها صفات السرمدية والأبدية.
المسلمة السادسة: أن "المستقر" و"الثابت" في الفكر الديني الراهن ينتمي في أحيان كثيرة إلى جذور تراثية هنا وهناك. قد تكون الصلة واضحة بين الآني الراهن وبين التراثي القديم، وقد لا تكون كذلك فتحتاج إلى آليات تحليل ذات طبيعة خاصة قادرة على "الحفر" من أجل رد الأفكار إلى أصولها وبيان منشأها الأيديولوجي... إن للأفكار تاريخا، وحين يتم طمس هذا التاريخ تتحول تلك الأفكار إلى "عقائد" فيدخل في مجال "الدين" ما ليس منه، ويصبح الاجتهاد البشري ذو الطابع الأيديولوجي نصوصا مقدسة. (التفكير في زمن التكفير ص 127 – 133)
2- النص وتحليل الخطاب
بناء على هذه المسلمات تقوم عملية تحليل النص وتحليل الخطاب. ويعرف نصر أبو زيد مفهومه للنص الذي هو موضوع التحليل كما يلي،
مصطلح "النص"... يستخدم في مجالين معرفيين متداخلين: هما مجال "علم تحليل الخطاب" من جهة، ومجال "علم العلامات" أو السميوطيقا (السيميولوجيا أحيانا) من جهة أخرى. في مجال علم العلامات يتسع مفهوم مصطلح "النص" ليشمل كل نسق من العلامات اللغوية وغير اللغوية يؤدي إلى إنتاج معنى كلي. وفي ظل هذا المفهوم يندرج النص اللغوي كما تندرج النصوص غير اللغوية كالاحتفالات والشعائر والأزياء ومائدة الطعام..الخ. لكن مصطلح "النص" في علم الخطاب يقتصر فقط على كل نسق من العلامات اللغوية يؤدي إلى إنتاج معنى كلي... وتظل العلاقة بين المجالين علاقة تفاعل خصبة تثري كلا منهما...
وفي مجال علم "تحليل الخطاب" – الذي هو مجال انشغال الباحث – ثمة تفرقة في النصوص بين "النص الأصلي" و"النص الثانوي". النص الأصلي في حالة التراث الإسلامي هو "القرآن الكريم" باعتباره "النص" الذي يمثل الواقعة الأولى في منظومة نبعت منه وتراكمت حوله. والنصوص الثانوية تبدأ بالنص الثاني وهو نص السنة النبوية الشريفة، إذ هي في جوهرها شرح وبيان للنص الأصلي الأول. وإذا كانت السنة نصا ثانويا ثانيا، فإن اجتهادات الأجيال المتعاقبة من العلماء والفقهاء والمفسرين تعد نصوصا ثانوية أخرى من حيث هي شروح وتعليقات إما على النص الأصلي الأول أو على النص الثاني الثانوي. (التفكير في زمن التكفير ص 133- 135)
3- سلطة النص
والغاية من تحليل النصوص وتحليل الخطاب هي تحدي سلطة النص والكشف عن آليات استخدامه كوسيلة للهيمنة. ويوضح ذلك كما يلي،
ولعلنا الآن نستطيع أن نقول إن "النصوص" في ذاتها لا تمتلك أي سلطة، اللهم إلا تلك السلطة المعرفية التي يحاول كل نص – بما هو نص – ممارستها في المجال المعرفي الذي ينتمي إليه. إن كل نص يحاول أن يطرح سلطته المعرفية بالجديد الذي يتصور أنه يقدمه بالنسبة للنصوص السابقة عليه. لكن هذه السلطة "النصية" لا تتحول إلى سلطة ثقافية اجتماعية إلا بفعل الجماعة التي تتبنى النص وتحوله إلى إطار مرجعي. من هنا تصح التفرقة بين "النصوص" والسلطة التي يضفيها عليها العقل الإنساني ولا تنبع من النص ذاته. ومن هنا تكون الدعوة إلى "التحرر من سلطة النصوص" هي في حقيقتها دعوة إلى التحرر من السلطة المطلقة والمرجعية الشاملة للفكر الذي يمارس القمع والهيمنة والسيطرة حين يضفي على النصوص دلالات ومعاني خارج الزمان والمكان والظروف والملابسات. (التفكير في زمن التكفير ص 138)
4- سلطة النص والتجديد الديني
والنتيجة المترتبة على التحرر من سلطة النص هي حرية العقل الإنساني في فهم النصوص وبالتالي تحقيق عملية الإصلاح والتجديد الديني،
إن الدعوة للتحرر من سلطة النصوص ومن مرجعيتها الشاملة ليست إلا دعوة لإطلاق العقل الإنساني حرا يتجادل مع الطبيعة في مجال العلوم الطبيعية، ويتجادل مع الواقع الاجتماعي والإنساني في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب. فهل تتصادم هذه الدعوة مع النصوص الدينية أم تتصادم مع السلطة التي أضفاها بعضهم بالباطل على بعض تلك النصوص، فحولوها قيودا على حركة العقل والفكر؟ إن هذه الدعوة للتحرر لا تقوم على إلغاء الدين ولا تقوم على إلغاء نصوصه، لكنها تقوم على أساس فهم النصوص الدينية فهما علميا. (التفكير في زمن التكفير ص 146)
الموقف الفلسفي
يطرح الدكتور أبو زيد الفكرة المركزية في موقفه الفلسفي، والتي هي قراءة النص الديني قراءة معاصرة، كما يلي،
دعني أبدا بشكل موجز بوضع نظرتي الخاصة الأكاديمية لحالة وموقف النص المؤسس، وهو القرآن الكريم. بدراسة تاريخ ومنهجيات التفسير التقليدي، أصبحت على وعي بحقيقة أنه ليس هناك تفسير موضوعي ولا تفسير بريء. رجال الدين أقروا منذ البدء مبدأ تأويلي مستمد من آية معينة في القرآن (3:7) [الآية السابعة من سورة آل عمران]، والتي قسمت القرآن إلى آيات محكمات وآيات متشابهات. ولذلك فقد اتفقوا منطقيا على أن الآيات المحكمات يجب أن تمثل المعيار لتفسير، أو ربما لإزالة غموض، الآيات المتشابهات. من ناحية المبادئ التفسيرية اتفقوا، ولكن عند تطبيق هذا المبدأ اختلفوا. كل جماعة حددت ما هو محكم وما هو متشابه طبقا لمذهبها الديني. وفي النهاية، ما اعتبر محكما عند فرقة معينة اعتبر متشابها عند معارضيها، والعكس بالعكس. وبهذا، أصبح القرآن ساحة معركة بين الخصوم لتأسيس مواقفهم الاجتماعية والدينية والسياسية. (إصلاح الفكر الإسلامي، 2006، ص 93)
التحول الفكري
تبلور مشروع الدكتور نصر بشكل تدريجي بدءا من رسالته للدكتوراه في أعمال ابن عربي مرورا بدراسته لفكر الشافعي وكتابه "مفهوم النص" ثم أعماله التالية. ولكن التحول المفاهيمي الأساسي في فكره كان التحول من تحليل النصوص إلى تحليل الخطاب الذي تطرحه النصوص. من وجهة نظره، من شأن مثل هذا التحول في التفسير أن يضمن تقديم مفهوما إنسانيا للتراث الديني الإسلامي وأسلوب ديمقراطي في تفسير النص الديني (إصلاح الفكر الإسلامي، ص 97-98). وفي حوار لجريدة المصري اليوم يقول بهذا الخصوص،
لم يدرك المفسرون والعلماء المسلمون بشكل كامل، أهمية الظاهرة الحية للقرآن بوصفه «خطاباً»، حيث دأبوا على التعامل معه من خلال نفس المنظور التراثي في التعامل مع القرآن بوصفه «نصاً»، وهو أسلوب يشجع إمكانيات التفسير والتفسير المضاد، كما يسمح بإمكانية التلاعب الدلالي، ليس فقط بالمعاني، بل بالمبنى القرآني نفسه.
وكنت في وقت ما أحد المؤمنين «بالنصية»، لكنني أدركت فيما بعد، خطورة التعامل مع القرآن بوصفه نصاً فقط، لأنه يقلل من شأن حيويته، ويتجاهل حقيقة أنه مازال يمارس وظيفته في الحياة اليومية للمسلمين، بوصفه «خطاباً» وليس مجرد نص.
كما أنه لم يعد كافياً، مجرد البحث عن سياق لمقطع، أو مجموعة من الآيات، حين يكون الهدف مناظرة الفكرة بالفكرة، كالأصوليين الذين يعتنقون مبدأ «الحاكمية»، على سبيل المثال، أو حينما نناقش بعض الممارسات التاريخية التي باتت غير ملائمة لحياة المسلمين في العصر الحديث. (يجب إعادة التفكير في معاني القرآن، حوار- المصري اليوم، ديسمبر 2008)
مستقبل النهضة العربية
ينعكس موقف الدكتور أبو زيد من قضية التجديد التي تعتمد أساسا على التحرر من سلطة النص من خلال عمليات التحليل العلمي له على موقفه من فكر النهضة العربية. فهو يرى أنه بسبب غياب التعامل العلمي الصحيح مع النصوص الدينية، سواء الأصلية أم الثانوية، سقط فكر النهضة العربية الحديثة في فخ "التلفيقية" التي تحاول أن تجمع بين تصورات متناقضة تهربا من مواجهة الإشكالية المركزية اللازم حلها لتحقيق التوفيق الصحيح بين التراث والفكر المعاصر. ويطرح وجهة نظره في النهضة كما يلي،
من أجل ذلك كان الدافع المسيطر في عملية "التوفيق" هو الدافع النفعي المباشر الذي حول التوفيق إلى "تلفيق" يحتفظ للطرفين بتمايزهما بحيث إذا أمكن إسقاط أحد طرفي المعادلة احتفظ الطرف الآخر بكل قوته وجبروته، وظل ممارسا لفعاليته، وهذا ما نلمسه الآن من انحسار بين طرفين: التبعية الكاملة للغرب اقتصاديا وسياسيا وفكريا بالشروط الاستعمارية الإمبريالية من جهة، والسلفية الرجعية الكاملة من جهة أخرى. ورغم التناقض الظاهري بين الطرفين فإن كلا منهما يفضي إلى الآخر بوسيلته الخاصة، تفضي التبعية إلى الديكتاتورية والاستغلال ومحاصرة الإنسان باسم التغريب والحداثة وتفضي السلفية إلى النتائج نفسها ولكن باسم الدين والتراث وتحقيق الهوية الخاصة. (النص السلطة الحقيقة، ص 35)
ويرى نصر أبو زيد أن هذا التردد في مواجهة الإشكالية الجوهرية هو نابع من عدم الاستقلال الحقيقي للمثقف العربي ومن تبعيته السياسية، ولذلك تحقيق النهضة مشروط بتحقيق الفصل بين السياسي والفكري،
لقد آن الأوان أن يعي المفكر والمثقف العربي أن الحاجة إلى قطع "الحبل السري" الواصل بين السياسي والفكري باتت قضية "نكون أو لا نكون"، وذلك بالطبع دون إنكار أن ممارسة الفكر هي في عمقها ممارسة للسياسية، وأن ممارسة السياسة لا تنفك عن قاعدة فكرية صريحة أو مضمرة. إن للفكر آلياته وأهدافه وللسياسية آلياتها وأهدافها ومن الخطر أن يتنازل الأول عن آلياته ليكون في خدمة الثاني، حتى في حالة تبني الدولة لمشروع فكري محدد الملامح أيديولوجيا، فواجب المفكر المنتمي إلى تلك الأيديولوجيا ألا يتنازل عن استقلاله ليبرر السلوك السياسي...
هذا التداخل بين السياسي والفكري إلى حد التطابق أحيانا، وما يفضي إليه من تلفيقية – تسمى "توفيقية" على سبيل التحسين – له حضور ملموس في تاريخنا العقلي والثقافي. وذلك منذ تحول الدين – الإسلام بصفة خاصة – إلى أرض المعركة التي يدور فيها الصراع الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم السياسي، وهي المعركة التي لا تزال دائرة حتى الآن على الأرض نفسها، أرض تأويل النصوص الدينية لتنطق بهذا الموقف أو ذاك، ولا شك أن المشروع الإسلامي – الذي يمكن استنباطه من النصوص والمواقف والممارسات في حياة مؤسسه الأول – مشروع عربي إنساني. ومن المؤكد أنه مشروع ضد طائفية القبيلة. وضد عصبية العرق والدم، ولو كان عربيا. إنه مشروع عربي ثقافي إنساني حضاري، وبقدر إدراك هذه الحقيقة كان المشروع يتقدم، وبقدر إغفالها كان المشروع يتعثر. وتاريخ العثرات في السياق التاريخي للإسلام هو في الحقيقة تاريخ إغفال تلك الحقيقة. (النص السلطة الحقيقة" ص 53-55)
أهم أعماله
"الاتجاه العقلي في التفسير - دراسة في قضية المجاز في القرآن عندالمعتزلة"، 1982، وهي رسالته للماجستير
"فلسفة التأويل - دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، 1983، وهي رسالته للدكتوراه
نقد الخطاب الديني، 1990
"مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن"، 1991.
"الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية"، 1992.
"التفكير في زمن التكفير – ضد الجهل والزيف والخرافة"، 1995، ( جمع وتحرير وتقديم نصر أبوزيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته وردود الفعل نحوها)
"اشكاليات القراءة واليات التأويل"، 1995.
"الخلافة وسلطة الأمة"، 1995، نقله عن التركية عزيز سني بك ( تقديم ودراسة نصر أبوزيد)، الطبعة الثانية
"النص السلطة الحقيقة – الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة"، 1995
"دوائر الخوف - قراءة في خطاب المرأة"، 1999.
"الخطاب والتأويل"، 2000.
هكذا تكلم ابن عربي، 2002، (مراجعة لدراسته عن ابن عربي)
باللغة الإنجليزية
إصلاح الفكر الإسلامي: تحليل نقدي تاريخي، 2006، جامعة امستردام.
إعادة التفكير في القرآن: نحو نظرية إنسانية في التأويل، 2004، أوترخت، جامعة الإنسانيات.
صوت في المنفى: تأملات في الإسلام، 2004، بالاشتراك مع إيثر نيلسون، نيويورك، براجر للنشر.
جوائز
جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة 1982م.
وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس 1993 م.
جائزة اتحاد الكتاب الأردني لحقوق الإنسان، 1996.
ميدالية "حرية العبادة"، مؤسسة إليانور وتيودور روزفلت2002.
جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، 2005.
مقالات وحوارات
يجب إعادة التفكير في معاني القرآن، حوار لجريدة المصري اليوم
أنا شاهد على التحولات في الإسلام، حوار لموقع قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي
هل هناك نظرية في التأويل القرآني (1/3)، القدس العربي.
هل هناك نظرية في التأويل القرآني (2/3)، القدس العربي
هل هناك نظرية في التأويل القرآني (3/3)، القدس العربي
نصوص
التراث بين التوجيه الأيديولوجي والقراءة العلمية – الفصل الأول من "النص، السلطة الحقيقة".
مقالات عنه
نصر حامد أبو زيد... و(الهرمنيوطيقا) – سليمان بن صالح الخراشي
دراسة القرآن الكريم في خطابي محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد من الاختلاف في الرؤية إلى التوافق الإيديولوجي - يوسف بن عدي، جريدة الحياة
النص القرآني: في منظور الدراسة الأدبية – يحيى ابن الوليد، القدس العربي
مصادر
تحرير: سمير أبو زيد