جريدة الراية القطرية
22 مايو 2008
حول مسألة الفصل بين الدين والدنيا
المقارنة بين ما جري في العالم الإسلامي والعالم المسيحي ضرورية لفهم العلاقة بين الدين والسياسة علي مدار العصور
المسيحية أيضا كانت دينا ودنيا مثل الإسلام ولقرون طويلة علي عكس ما يزعم الاستشراق ويتوهم الكثيرون
من الخطأ القول أن الإسلام هو وحده الذي يخلط بين الدين والسياسة.. فالمسيحية أيضاً خلطت بينهما
الغرب يحاول تصحيح علمانيته الآن لكي تصبح منفتحة وقادرة علي استيعاب الحاجة الدينية للانسان بدلا من نفيها او استئصالها
فرنسا تفكر بإعادة تدريس الدين إلي المدارس العامة بعد ان استبعدته منها علي مدار قرن كامل
بقلم: محمد أركون .. لنبق في العالم المسيحي والغرب أولا من اجل فهم الامور قبل ان ننتقل الي عالم الاسلام. ما الذي حصل بالضبط فيما يخص التفريق بين الروحي والزمني او الديني والدنيوي؟ بالطبع لا نستطيع ان نستعرض هنا كل ما حصل من تطورات في تاريخ الكنيسة البيزنطية والكاثوليكية الرومانية علي مدار التاريخ وحتي اندلاع ثورة لوثر الاحتجاجية الكبري في القرن السادس عشر.
فمثل هذا الامر يحتاج الي مجلدات. سوف نكتفي هنا بالقول بان الكنيسة المسيحية في كل مذاهبها أرادت السيطرة علي السلطة الامبراطورية او الملكية عن طريق التذكير بصلاحياتها المتمثلة بكونها تشكل ذروة السيادة الروحية العليا التي تخلع المشروعية علي كل السلطات السياسية. ولكن الشيء الذي حصل بعدئذ هو ان البورجوازية التاجرة اولا فالرأسمالية ثانيا راحت تنفصل عن الكنيسة وتحصل علي الاستقلالية الذاتية للدائرة الاقتصادية.
ثم راحت تناضل لكي تحصل علي الاستقلالية الذاتية للدائرة القانونية ايضا. وكان ذلك يعني تحرير الدولة من هيمنة اللاهوت السياسي الذي كانت الكنيسة تدافع عنه بكل شراسة منذ ان اصبحت مؤسسة سياسية- دينية في عهد الامبراطور الروماني قسطنطين( حوالي عام 330 ميلادية). وفي هذه المواجهة التي لخصناها بسرعة البرق تم الخلط بين رهانين كبيرين: أولا لقد تدهور الرأسمال الرمزي المنقول بواسطة الخطاب الديني من مرحلة العهد او الميثاق ذات الطابع الروحي العالي المستوي الي نوع من الطقوس الشعائرية الجامدة والقوانين الفقهية التشريعية والسلطات القسرية الاكراهية المحتكرة من قبل الكنيسة التي تشرف علي الدولة من عل.
وثانيا نلاحظ ان السلطة الروحية العلمانية ابتدأت تقوي وتصعد بعد القرن الثامن عشر مع صعود البورجوازية كطبقة اجتماعية قوية تريد الحلول محل الطبقة الاقطاعية الارستقراطية التي كانت مسيطرة طيلة قرون عديدة. وأدي ذلك الي نقل مديونية المعني من الوحي الديني الي حق الاقتراع العام للشعب.
قلت الوحي الديني وكان ينبغي ان أقول الرأسمال الرمزي السائد في نظام العهد او الميثاق. وهما شيئان متطابقان. نقصد العهد الذي يربط الخالق بالمخلوق والمنصوص عليه في التوراة والانجيل والقرآن. هذا العهد انتهي بانتصار الحداثة في اوروبا ولم يعد يشكل ذروة المشروعية. وانما اصبح التصويت الديموقراطي الحر للشعب هو الذي يشكل المشروعية العليا.
أحيل بهذا الصدد الي مؤلفات الباحث الفرنسي بول بينيشو الذي حلل هذه الظاهرة الكبري في تاريخ الحداثة الغربية.انظر مثلا كتابه: تكريس الكاتب بين عامي1750. 1830. دراسة عن حلول عهد السلطة الروحية العلمانية في فرنسا الحديثة. المقصود السلطة الجديدة التي حلت محل السلطة القديمة للكنيسة الكاثوليكية.
ما الذي يعنيه كل هذا؟ انه يعني أساسا ان اعدام ملك انجلترا شارل الاول وملك فرنسا لويس السادس عشر (أيا تكن أخطاء هذين الملكين ونقاط ضعفهما السياسية) قد أنهي الرمزالديني السابق دون ان يحل محله أي ترميز للميثاق الجديد المؤسس علي قاعدة حق الاقتراع العام للشعب. صحيح ان الرمز الديني السابق كان مؤدلجا اكثر من اللزوم ومشوها ومحروفا عن وجهته الاصلية. ولكنه كان علي الاقل يؤدي دوره في ترميز الوجود البشري.
وهكذا خرجت اوروبا فجأة وبعنف من الدين في الوقت الذي تركت فيه بعض الجزر المعزولة من التعبير الديني تعيش وتستمر. هناك حيث سيتواصل الصراع الصامت قليلا او كثيرا بين الكنيسة المجرورة الي علمنة لم تعد تسيطر عليها، ودولة تنخرط اكثر فاكثر في تلك المغامرة التي درسها فيرنان بروديل تحت اسم: تاريخ الحضارة المادية للغرب.
من الناحية التاريخية واللاهوتية والفلسفية والانتربولوجية والسيميائية الدلالية نحن نعرف حجم الدور الذي تلعبه الاسطورة والرمز والعلامة- الاشارة والمجاز في توليد المعني، وبالتالي في توليد الانظمة الدلالية
التي "يفسر" البشر عن طريقها "ويبررون" ويشكلون تصرفاتهم في المجتمع. ولكننا نعلم ان هذه الاشياء معدومة او متجاهلة من قبل المغامرة التاريخية التي أدت في الغرب الي الخروج من التدين التقليدي والدخول "الثوري" دمويا فيما كان ريمون آرون قد دعاه: بالأديان الدنيوية او العلمانية. ونقصد بها الليبرالية والماركسية اساسا. انه لواضح بالنسبة لكل مراقب فطن ان الديموقراطيات الليبرالية او الاشتراكية تمارس فعلها كالأديان ولكن بدون مديونية المعني.
وهي تمارس ذلك عن طريق مسيّرين للامور العامة الذين لا هدف لهم الا اتباع التكتيكات والاستراتيجيات التي تؤدي بهم الي الوصول الي السلطة وممارستها والاحتفاظ بها اذا أمكن لأطول فترة ممكنة. انهم مشغولون بالشرعية الظاهرية السطحية اكثر مما هم مشغولون بالشرعية الحقيقية المحترمة. واكبر دليل علي ذلك تصرف الديموقراطية الاميركية بعد 11 سبتمبر.
فهذا التصرف يبرهن بشكل محزن علي كيفية مصادرة القيم الديموقراطية من قبل الادارة الاميركية الحاكمة تماما كما شوه الارهاب الاسلاموي الاصولي الدين الإسلامي ووجه له ضربات موجعة سوف لن يكون عليه من السهل ان يتخلص من نتائجها السلبية وانعكاساتها مستقبلا.
لهذا السبب فان الكنيسة والدولة راحتا تقتربان من بعضهما البعض من جديد وبعد طول قطيعة من اجل تحديد العلاقات بينهما علي أسس أخري غير السابقة. ثم من اجل البحث عن بلورة عقد جديد يؤدي الي تشكيل علمانية جديدة وفهم افضل للظاهرة الدينية.
هذا ما أصبحوا يبحثونه الآن في فرنسا من خلال التحدث عن ضرورة بلورة علمانية جديدة او منفتحة اكثر من السابقة. وبهذا الصدد يمكن القول بان الاسلام الحالي يواجه التحدي الكبير ليس بالدرجة الاولي من قبل العلمانية التي تنحرف غالبا في اتجاه العلمانوية النضالية الحامية، وانما من قبل المهام الجديدة التي اصبحت منذ الآن فصاعدا مشتركة لدي جميع الاديان.
وأقصد بها وضع كل الأشكال الموروثة عن اللاهوت والفلسفات السياسية علي محك التساؤل والشك. فاللاهوت السياسي كشف عن نواقصه ومحدودياته وكذلك الفلسفات السياسية التي تعاقبت عليه او حلت محله بعد عصر التنوير.
وكلاهما كشف عن جهله الكبير بالرهانات الجديدة للصراعات الجارية حاليا وذلك علي قاعدة نسيان الرأسمالات الرمزية. ولكن ورشات البحث الخاصة بهذه التحريات الجديدة لم تحدد بعد جيدا بل ولم توضع حتي الآن علي سلم الاولويات بالنسبة لبرامج البحث العلمي والتعليم الثانوي او الجامعي.
وكما اننا اصبحنا نميز منذ الآن فصاعدا بين الاسلام والمسلم من جهة، والاسلاموية والاسلاموي من جهة اخري، فانه ينبغي ان نميز بين العلمانية والعلمانوية المتطرفة. فالعلمانية المنفتحة الاستيعابية المنفتحة علي كل المعارف النقدية هي الشرط الاساسي والاولي لكل تجسيد للحق الانساني. وهو مفهوم افضل وأوسع من مفهوم حقوق الانسان والمواطن الذي طالما احتفلوا بكل بلاغية طنانة رنانة به ولكن كثيرا ما خانوه في التطبيق العملي.
أما الفكر العلمانوي الذي لا ينبغي الخلط بينه وبين العلمانية الحقيقية فقد تطرف في الاتجاه المعاكس للاصولية المتزمتة عندما حذف من المدرسة العامة كل تعليم علمي لتاريخ الاديان. ونقصد بالتعليم العلمي هنا دراسة الاديان بصفتها أحد الأبعاد المؤسسة والكونية والاكثر ديمومة للمجتمعات البشرية.
فلا يوجد مجتمع علي وجه الارض بدون تقديس او دين. وهكذا اصبح الطلاب، وبالاخص في فرنسا، أميين في كل ما يخص الحياة الدينية وتجلياتها وصيغها التعبيرية. انهم لا يعرفون عنها شيئا. والواقع ان العقلانوية الوضعية والعلموية الموضحة جيدا من قبل التحديدات الشهيرة لماركس في كتابه نقد فلسفة القانون قد جعلت بالنسبة للكثيرين من المستحيل التفكير بالاسطورة والرمز والرأسمال الرمزي والمجاز اللغوي المتفجر.
وكلها أشياء تلعب دورا حاسما في كل التجليات الدينية بشكل خاص. لهذا السبب أخذوا يفكرون مؤخرا باعادة تدريس الدين في المدارس الفرنسية ولكن ليس بالطريقة الاعتقادية الدوغمائية السابقة وانما من خلال المنهجية الحديثة لتاريخ الاديان المقارنة. فلا أحد يريد العودة الي زمن الاصوليات المتزمتة التي كلفت اوروبا غاليا في الماضي.