جريدة الراية القطرية
7 نوفمبر 2008
محمد أركون
أنصح القاريء بقراءة سورة التوبة كلها بشكل متأن لأنها ذات
أهمية كبرى فيما يخص موضوعنا. فأسلوبها ولهجتها الدالة على الانتصار
المؤكد للنبي على أعدائه وتحديدها للمراتب والميزات والمكانة اللاهوتية-
القانونية الصارمة لكل فئة من الفئات الاجتماعية التي كانت موجودة آنذاك
او متصارعة يدفعنا لطرح اسئلة كثيرة على المكانة المعرفية والمعيارية
للخطاب القرآني. وعندما نقرأ النص على ضوء التصورات الحديثة للدين
المنفتح، المتسامح، الحاضن للقيم الاخلاقية والروحية فاننا نشعر بحرج
شديد. وذلك لانه يصبح من الصعب ان نسقط على الماضي قراءات غير متناسبة
معه. لقد اخترت هذه السورة عن قصد لكي ارتفع الى مستوى هذه التحديات ولكي
ابلور المقدمات التمهيدية لكل قراءة تفكيكية حديثة للخطاب النبوي انطلاقا
من مثال القرآن.
يمكننا ان نقيس مدى حجم وتكرر هذه الصعوبة بعد ان نطلع
على المقالات الواردة في كتاب أصدرته اليونيسكو عام 1986 تحت عنوان: الأسس
الفلسفية لحقوق الانسان. وهو كتاب جماعي ساهم فيه العديد من الفلاسفة
والاختصاصيين. وكل المشاركين المنتمين الى أصول قومية وايديولوجية مختلفة
ومتنوعة متفقون على ما يلي: ان جميع الاعلانات المتتالية لحقوق الانسان
منذ عام 1789 وحتى اليوم بقيت حبرا على ورق بالنسبة لملايين البشر لان هذه
الاعلانات ليست مرفقة بعقوبات تنص عليها وتطبقها محكمة عليا مستقلة عن
جميع الدول الاعضاء. ولكن تشكيل محكمة كهذه يصطدم بعقبة لم يتم تجاوزها
حتى الان وربما لن يتم تجاوزها ابدا وهي تلك المنصوص عليها على مدار سورة
التوبة.
ينبغي العلم بأن القرآن يحدد بكل وضوح المعايير التي تضمن الى
الابد ليس فقط حقوق الانسان وانما ايضا نجاته الابدية في الدار
الآخرة. هذا ما تقوله لنا الآيات 20، 71.72، و112 من سورة التوبة. لنستمع
اليها اذن:
(الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم
وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون). الآية 20
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون اللَّه ورسوله أولئك سيرحمهم اللَّه
إن اللَّه عزيز حكيم). (وعد اللَّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من اللَّه أكبر ذلك
هو الفوز العظيم). الآيتان 71،72
(التائبون العابدون الحامدون
السابحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين). الآية 112
ينبغي ان نكمل
هذه الآيات بكل تلك التي توجهت بالخطاب مباشرة الى المؤمنين من خلال
العلاقة النحوية التميزة للضمائر التالية: أنا- نحن- أنتم. ان المعايير
المتبناة من قبل سورة التوبة هي اكثر وضوحا وذلك لأنها تقيم التضاد بين
الشروط الايجابية التي تتوافر لدى المؤمنين والمواقف السلبية لكل
المعارضين للنبي والذين ليس لهم أية حقوق على الاطلاق. ذلك انه ينبغي على
المؤمنين ان يحاربوهم ويرموهم خارج الأمة لأنهم رفضوا الانخراط بشكل عفوي
من أجل القضية المقدسة في الوقت الذي كان المؤمنون لا يزالون عبارة عن
أقلية مستضعفة.
ان أهمية سورة التوبة تكمن في الحقيقة التالية: وهي ان
الاشكالية المرتبطة بما لم يكن يدعى بعد آنذاك "بحقوق الانسان" راحت تنبثق
من خلال الصدامات الاجتماعية بين الفئات الاجتماعية الفقيرة المحرومة
المهيمن عليها والتي تقبل بالذهاب الى ساحة المعركة، وبين الاغنياء الذين
يجدون أعذارا وحججا لكي لا يذهبوا اليها ويعفوا أنفسهم منها، وبين البدو
او الأعراب الذين يرفضون التخلي عن عقائدهم الخاطئة. فيما يخص المؤمنين
الفقراء المنخرطين في المعمعة انظر الآية ستين التي تتحدث عن الزكوات
الموجهة للفقراء والمحتاجين، والآية 117 التي تتحدث عن المهاجرين والانصار
الذين اتبعوا النبي ولم يخذلوه. تقول الاولى حرفيا: (انما الصدقات للفقراء
والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل
اللَّه وابن السبيل فريضة من اللَّه واللَّه عليم حكيم).
وتقول
الثانية: (لقد تاب اللَّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في
ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رؤوف
رحيم).
ينبغي العلم بأن الإعلان المهيب لحقوق الإنسان والمواطن في
فرنسا تم في ظروف مشابهة. ففي كلتا الحالتين نلاحظ ان الانسان الذي
يتحدثون عن حقوقه هو في آن معا الانسان التجريدي للرؤيا التوحيدية للمخلوق
البشري من جهة، وأولئك البشر المحسوسين المحددين اجتماعيا وايديولوجيا
داخل المجتمع العربي القبلي المنقسم على نفسه بشكل لا مرجوع عنه. ونقصد
بهم المؤمنين والكفار في القرآن، ثم البورجوازية الصاعدة، واصحاب
الامتيازات من نبلاء اقطاعيين وطبقة كهنة، وطبقة الشعب الفقير المحروم
فيما يخص الثورة الفرنسية.
فيما يخص القرآن نلاحظ ان المعايير الآنية
كالفقر، والمراتبيات الاجتماعية السياسية المرتكزة على الولادة او الحسب
والنسب، وتفكك المقدس العربي القديم وتسفيهه والحط من قيمته، كل ذلك تم
تعاليه او تجاوزه بواسطة ادخال معايير "مطلقة او اطلاقية". ونقصد بها قضية
ووجه اللَّه الواحد الأحد الفرد الصمد الحي العادل اليقظ المنقذ الرحمن
الرحيم الجبار المهيمن المستقبل لكل أولئك الذين يفتحون قلوبهم للدعوة
ويدخلون في الميثاق الذي يربط الخالق بالمخلوق. وبالتالي فإن النضال من
أجل الإنسان ليس فعلياً صالحاً مقدساً مقبولاً إلا اذا تم من خلال منظور
وجه اللَّه وقضيته.
ان خطاب ما تدعوه الميتافيزيقا الكلاسيكية بالتعالي
والمطلق يفتح فضاء لا نهائيا من أجل رفعة شأن الانسان القرآني خارج
اكراهات علاقات القرابة بين الاب والابن والاخوة والعشيرة والقبيلة والغنى
والالهة المتعددة. ينبغي العلم بأن الانسان القرآني لم يصبح بعد الفرد
المواطن للقانون الحديث، ولا الذات العاقلة المستقلة الحرة للفلسفة
الاخلاقية. ولا يزال وضع الرجل- والمرأة المسلمين حتى الآن أقل قيمة من
تلك المكانة الافتراضية التي دشنتها وعود وتحديدات الإنسان في القرآن.
نقول ذلك على الرغم من ان مكانة الرجل معتبرة أعلى من مكانة المرأة في
القرآن. فالواقع ان الدخول في الميثاق ينطوي على امتيازات لا يستهان بها
كالتوصل الى الافكار والسلوكات والتدريبات الروحانية التي تتيح لك ان تصبح
ولي اللَّه. نقول ذلك ونحن نعلم ان المسار الصوفي قد جسد في شخصيات
نموذجية كبرى الترقيات الضمنية الموجودة في البنية الروحانية للميثاق الذي
يربط الإنسان باللَّه. أما حالة المؤمنين الذين يكتفون بالأداء الشكلاني
للطقوس والشعائر المأمور بها من قبل القانون الديني فتطرح مشاكل أخرى لا
استطيع تحليلها هنا.