Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

ضرورة تطبيق المنهج التاريخي لمعرفة القواسم المشتركة بين أديان التوحيد الثلاثة
 
بحث مخصص

 

جريدة الراية القطرية
25 مارس 2008

محمد أركون

الحركات الأصولية مازالت تستخدمها في طريق العنف


 

 


بقلم: محمد أركون .. سوف أعود حتماً لاحقاً إلي المسألة الحاسمة للوحي. سوف أقول هنا فقط بأن الوحي لم يدرس حتي الآن في تجلياته اللغوية الأولية الأساسية: أي في اللغة العبرية، فالآرامية، فالعربية. ولم يدرس حتي الآن ضمن الظروف التاريخية والانتربولوجية لهذه التجليات الثلاثة. لا ريب في أن هذه المقاربة التاريخية والانتربولوجية العميقة طبقت علي المسيحية ولكنها لم تطبق علي القرآن حتي الآن أو قل أنها طبقت بشكل نادر من قبل بعض المستشرقين الكبار. والواقع أن تطبيق التحليل الألسني والسيميائي الحديث علي الخطاب القرآني يرفض فورا من قبل الرأي العام الإسلامي وينظر إليه علي أساس انه ينزع القداسة عن القرآن بشكل غير مقبول. وبالتالي فمن الصعب تطبيق المناهج الحديثة علي تراث الإسلام بعكس ما يحصل في المسيحية الأوروبية. وهنا تكمن مشكلة أساسية تواجه كل من يريد تجديد الدراسات القرآنية والإسلامية. ولا حيلة لنا في الأمر. يضاف إلي ذلك مشكل الانقسام الدوغمائي الحاصل بين النسخ الثلاث المتنافسة لدين التوحيد: أي النسخة اليهودية، فالمسيحية، فالإسلام. ونلاحظ انه حصلت منذ عشرين أو ثلاثين سنة ظاهرة جديدة لم تكن معروفة من قبل. فالمسيحية بنسختيها الكاثوليكية والبروتستانتية شكلت مؤخرا رؤيا يهودية- مسيحية عن تاريخ الخلاص والنجاة في الدار الآخرة. وبهذه العملية تكون قد استولت علي العهد القديم اليهودي وضمته إلي العهد الجديد أي الإنجيل. لقد ضمته بطريقة جسورة جدا إلي درجة أن اليهود أنفسهم راحوا يحتجون علي عملية السطو هذه علي تراثاتهم التلمودية والنبوية وتذويبها في التراث المسيحي. ولكن دائما الأقوي يسطو علي الضعيف. أما فيما يخص المسلمين فإنهم ظلوا مستبعدين من هذه التركيبة اللاهوتية الجديدة لان الإسلام ظهر زمنيا بعد اليهودية والمسيحية ولان المسيحيين يعتبرون أن يسوع المسيح هو التعبير النهائي عن كلمة الله: أي بمعني من المعاني خاتمة الوحي. وبالتالي فلا يعترفون بالاسلام كدين وحي. والقصة قديمة في الواقع وليست حديثة العهد. فإذا ما عدنا إلي بدايات الإسلام عندما كان النبي في المدينة بين عامي 622.632 لاحظنا أن اليهود والمسيحيين رفضوا الاعتراف بنبوة محمد. والواقع أن نبي الإسلام في الوقت الذي اعتبر نفسه استمرارية للخط الروحي لتاريخ النجاة الذي دشنه موسي وعيسي راح يفاجئهم ويرد عليهم بمواقف هجومية وجدالية قائلا بأنهم حرفوا كتبهم المقدسة. كما وهاجم المسيحيين فيما يخص التثليث معتبرا أنه خروج علي ديانة التوحيد.انظر سورة الاخلاص الموجهة مباشرة الي المسيحيين: قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

تنضاف إلي هذه البدهيات اللغوية التاريخية استقالة العلوم الاجتماعية فيما يخص الأديان. ونقصد باستقالتها أنها ترفض أن تمد تحليلاتها العلمية الهامة لكي تشمل القرآن أيضا وليس فقط العهد القديم والعهد الجديد. ولو أنها فعلت ذلك لأضاءت لنا تلك الخصومات الدوغمائية العقائدية الموروثة عن التركيبات اللاهوتية والفقهية العتيقة منذ القرون الوسطي. ومعلوم ان كل دين من أديان التوحيد شكل تراثا لاهوتيا مرسخا لحقيقته بصفته الوحي الصحيح الوحيد ومضادا للدينين الآخرين. وهناك عامل آخر ساهم في تفاقم الأمور بين الإسلام والغرب هو أن الإسلام بصفته قوة من قوي الاستنهاض التاريخي للمجتمعات البشرية استطاع أن يستولي علي الفضاء المتوسطي منذ القرن السابع إلي القرن الثالث عشر مع انبعاث جديد للقوة العثمانية بين القرنين السادس عشر والسابع عشر. فمعظم المناطق التي اكتسحها الاسلام منذ ظهوره كانت مسيحية في بلاد الشام والعراق ومصر.. هنا أيضا نلاحظ أن التاريخ الدنيوي لتلك المنافسة التي جرت بين الإسلام العثماني والقوي العظمي الأوروبية التي انطلقت للهيمنة علي منطقة البحر الأبيض المتوسط لا يدرس في المدارس والجامعات الأوروبية بالطريقة أو الرؤيا المنفتحة الواسعة التي دشنها علم التاريخ الجديد في فرنسا (أنظر مدرسة الحوليات الشهيرة وكيف قلبت دراسة التاريخ البشري رأسا علي عقب). لا يزالون حتي في الغرب المتقدم يعلمون تلك الحقبة للتلاميذ بطريقة تقليدية موروثة. أقول ذلك وأنا أفكر بالفضاء المتوسطي الواسع الذي طالما تنافس عالم الإسلام وعالم المسيحية عليه. وقد انتهي الأمر بسيطرة الاسلام علي الضفة الجنوبية الشرقية منه والمسيحية علي الضفة الشمالية الغربية. ولكن في ذات الوقت ظل هذا الفضاء الواسع منفتحا علي تبادل الأفكار والثقافات منذ أقدم العصور وحتي اليوم. وعندما أقول أقدم العصور فاني أقصد منذ عصور الديانات الإيرانية وثقافات وادي الرافدين وكذلك الثقافة الكلدانية والسريانية والآرامية والعبرانية والعربية القديمة. وكل ذلك حصل قبل ظهور الحضارة اليونانية فالرومانية فالبيزنطية فالإسلام . بالمناسبة لاحظوا معي قوة الألفاظ الدالة علي تعددية ثقافات الشرق الأوسط: فعندما نتحدث عن الآرامية والسريانية وبيزنطة نشمل المسيحية بكلامنا. وعندما نثير ذكر العبرانية نكون قد أشرنا إلي الدين اليهودي. وأما الإسلام فنلاحظ انه ابتدأ يستفيد منذ فترة قصيرة من البحوث العلمية الجديدة المتركزة علي سوابقه التاريخية والتي تتم في البيئات الغربية الأكاديمية الطليعية. ولكن الرؤيا الأرثوذكسية الإسلامية التقليدية ترفض هذه البحوث الرائدة إما كليا وإما شبه كلي. وهي الرؤية التي لا تزال مسيطرة علي العالم العربي والإسلامي بمجمله حتي الآن. وبالنسبة لهذه الرؤية الدوغمائية فان كلام الله ينزل عموديا علي البشر من الله مباشرة وذلك طبقا للمجاز الهائل والقوي الذي يتلخص في اللغة العربية بكلمة واحدة: التنزيل. وبالتالي فلا يمكن أن يدرس القرآن دراسة تاريخية علمية كما يدرس أي نص آخر. هذا شيء ممنوع في كل الجامعات العربية والاسلامية. وهذا ما يحول حتي الآن بيننا وبين فهم القرآن علي حقيقته. ولكن المستشرقين الكبار في الغرب أصبحوا يدرسونه علي أحدث المناهج كما فعلوا مع الإنجيل والتوراة ويتوصلون بذلك إلي نتائج مضيئة ومذهلة. ولكنها تشكل حقائق ممنوعة منعا باتا في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. ولكن إلي متي ستظل ممنوعة؟ إلي متي سيظل العلم والفهم ممنوعا في بلادنا؟ هذا هو السؤال..

لقد حصل خلط بين الإسلام كدين والإسلام كإطار تاريخي لبلورة ثقافة ما وحضارة معينة. ثم استمر هذا الخلط وتأبد إلي درجة انه يغذي اليوم تشويشا عقليا يعزل الإسلام عن كل تاريخية ممكنة. وهكذا يصبح وكأنه لا علاقة له بالواقع ولا بالتاريخ البشري. وهنا يكمن أحد الجوانب السلبية للخطاب الأصولي المسيطر. ولكننا لن ننصاع لهذا الخطاب اللاتاريخي الدوغمائي المتحجر ولن نستسلم له وإنما سنعود إلي دراسة المجتمعات نفسها وبنفسها ولنفسها كما يفعل علماء أوروبا بالنسبة لفرنسا وألمانيا وبلجيكا والولايات المتحدة وبولونيا الخ..لا ريب في انه من المشروع أن يقوم البحث العلمي بتحديد العوامل المشتركة التي تولد خطابا إسلاميا واحدا حاملا في طياته المخيال الإسلامي المشترك الذي كان جبارا في لاهوت القرون الوسطي ولا يزال (أقصد في لاهوت العقائد الأرثوذكسية الرسمية المكرسة). ولكن ينبغي علينا أن نحلل هذا البعد الخيالي الذي قوته وسائل الإعلام مؤخرا إلي درجة انه انزلق الي تشكيل تصورات إسلام مهلوس أو استيهامي وخيالي بالخالص. وهذا ما يقوي من العرقلات الإيديولوجية والنفسية - الثقافية التي تؤخر أو تزور أو تكرس فشل محاولات توحيد الأوصال المتقطعة للتراثات المتعادية في فضاء البحر الأبيض المتوسط. وهذا التوحيد أو قل المصالحة بين مختلف التراثات الدينية والفكرية التي ازدهرت علي كلتا ضفتيه ينبغي أن تتم ضمن منظور العملية التي دشنها مؤتمر برشلونة عام 1995. فمؤتمر برشلونة لن ينجح ولا كذلك مشروع الاتحاد المتوسطي الاوروبي الذي خلفه حاليا إذا لم نصف الحسابات العالقة بين بعضنا البعض واذا لم نعترف بالقواسم العظمي المشتركة التي تجمع بيننا علي الرغم من كل الاختلافات والتفاصيل الثانوية. فنحن ننتمي الي نفس الوحي ونفس دين ابراهيم الخليل في نهاية المطاف. كما اننا ننتمي الي نفس التراث الفلسفي الاغريقي الذي نقله العرب الي الغرب في القرون الوسطي. وبالتالي فما يجمع بيننا أكبر بكثير مما يفرق علي عكس ما نظن. وللدلالة علي ذلك يكفي ان نقارن بين تراثات حوض البحر الابيض المتوسط وتراثات الشرق الاقصي البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية لكي نري الفرق واضحا جليا. فلا شيء يجمع بينها وبين الاسلام تقريبا، هذا في حين ان ما يجمع بين الاسلام واليهودية والمسيحية كبير جدا.

لا أهدف من كل هذا الكلام فقط إلي إعادة الأمور إلي نصابها: أقصد إقامة المنظورات التاريخية الصحيحة والعادلة من اجل فهم الرهانات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية التي ما انفكت تشعل الحروب في حوض البحر الأبيض المتوسط علي مدار التاريخ بين الإسلام والمسيحية. وإنما أهدف أيضا وبالدرجة الأولي إلي القول بان مهمة مؤرخي الأديان والثقافات والفلسفة ينبغي أن تتمثل فيما يلي: تبيان الآلية التي أدت إلي حصول العملية التالية: وهي أن فئات عرقية ثقافية ذات أحجام وديناميكية متنوعة كانت قد استمدت أنظمتها في الاعتقاد واللااعتقاد من مخزن واحد للعلامات والرموز ثم تحاربت مع بعضها البعض علي مدار التاريخ بالحديد والنار. صحيح ان هذه الأنظمة الاعتقادية أمنت لها الطمأنينة النفسية عن طريق تقديم المعني النهائي للوجود البشري لملايين الناس إلا أنها راحت تستخدمها لخلع المشروعية الإلهية علي إرادات القوة والهيمنة والجبروت من اجل بناء الإمبراطوريات التوسعية وخوض الحروب الدموية وارتكاب المجازر الجماعية. هذا ما حصل في جهة المسيحية كما في جهة الاسلام وينبغي ان نعترف بذلك. وبالتالي فالأديان التوحيدية التي نصت علي المباديء الاخلاقية والمثالية العليا حرفت عن مسارها الصحيح من قبل البشر واستخدمت في طريق ما أنزل الله بها من سلطان.هذا أقل ما يمكن ان يقال..بل ولا تزال تستخدم في طريق العنف حتي الآن من قبل الحركات الاصولية المتزمتة في كل الجهات.