Arabic symbol

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

إعادة بناء تاريخنا الثقافي

جريدة الاتحاد الإماراتية

محمد عابد الجابري

29 يناير 2008

كنت وعدت القراء الكرام، في المقال الأخير، أنه بعد العرض الطوبوغرافي الذي هيمن على المقالات السابقة له، سأعود لأنظر إلى مشهد الثقافة العربية منذ الخمسينيات، من زاوية الطرح الإشكالي. وقد بدأت بمحاولة تقريب الصورة إلى القارئ من هذه الزاوية، من خلال "مثل" يصور وضعنا الثقافي في المرحلة الراهنة. أما لماذا "الطرح الإشكالي"، فذلك لأنه بدون هذا الطرح سنكون، في أحسن الأحوال، إما ذلك الذي يسمع بالطبري وابن خلدون -ولعله يعرف عنهما شيئاً- ولا يعرف شيئاً عن "لوك" و"بركلي" ولا عن "بيرس" و"بوبر" في المثال السابق، الذي ضربناه في المقال الأخير، وإما ذلك الذي يسمع عن هؤلاء (لوك وبركلي، وبيرس وبوبر) وربما يعرف عنهم شيئاً ولكنه لا يسمع ولا يعرف عن الطبري وابن خلدون شيئاً -وربما لا يريد ذلك. قد أعود في مقال لاحق لأبين أنه من زاوية التحليل الإشكالي لا يختلف لوك وبركلي عن الطبري، ولا بيرس وبوبر عن ابن خلدون، أما في هذا المقال فأفضل أن أتوقف مؤقتاً عن الاستطراد وأعود إلى محاضرة "منتدى الاتحاد" فأقول: إن الإشكالية التي رافقت مسيرة مشهد الثقافة العربية، منذ ابتداء تكونه في الخمسينيات والتي درجنا في القرن الماضي على تسميتها بـ"إشكالية الأصالة والمعاصرة" ونتحدث عنها اليوم باسم "إشكالية التراث والحداثة" أو "الهوية والعولمة"، والمعنى واحد، قد عبرت عن نفسها من خلال تيارين (فكريين إيديولوجيين) كان لهما حضور في الثقافة العربية -وما زال- تيار الاغتراب في ثقافة الماضي، وتيار الاغتراب في ثقافة الغرب. لقد سبق لي أن انتقدت التيارين معاً بحدة الفلسفة، وليس بتشنج السياسة، ويكفي أني وصفتهما معاً بـ"الاغتراب"، وقد كنت أقصد -ولازلت- ليس المعنى اللغوي الذي يعني "الغربة"، كالغربة عن الوطن مثلاً، بل قصدت وأقصد أيضاً المعنى الفلسفي للكلمة التي نترجمها أحياناً بـ"الاستلاب" alienation بالمعنى الذي يفيد: تقبل الشخص للسلطة التي يمارسها عليه الموضوع الذي يغترب فيه، ورضاه عنها، واعتقاده أنها نابعة من عنده هو.

أستطيع أن أؤكد أني أدين لدراساتي الفلسفية بعدم سقوطي في مخالب الإشكالية المذكورة، بل كنت وما زلت أنظر إليها من البرج الفلسفي، غير مغترب ولا مستلب، لا في تراثنا الذي يمثل الأصالة ولا في الفكر الغربي الذي يمثل المعاصرة أو الحداثة. إن وجهة نظري كما شرحتها في مناسبات عدة هي أن المشكل الذي تعاني منه ثقافتنا العربية في هذا المجال، ليس الاختيار بين التراث أو الحداثة، بل المشكل هو في بناء حداثة خاصة بنا انطلاقاً من تجديد تراثنا من داخله. وقد رسمت معالم استراتيجية أعتقد أنها كفيلة بتحقيق ذلك، وفي إطار هذه الاستراتيجية أشتغل منذ كتابيَّ "مدخل إلى فلسفة العلوم" 1978، و"نحن والتراث" 1980.

وإذن فتجديد الثقافة العربية يجب -من وجهة نظري- أن يستهدف أولاً وقبل كل شيء إنشاء مرجعية ثقافية عربية واحدة عامة, مرجعية/ أُم ترتبط بها جميع المرجعيات الفرعية، فضلاً عن المذاهب الدينية والفكرية. وإنشاء مثل هذه المرجعية العامة المشتركة التي تصل الماضي بالحاضر في اتجاه المستقبل يتطلب -في نظري- تبني استراتيجية "التجديد من الداخل", وهي استراتيجية تتحرك على محورين متكاملين: محور النقد وإعادة الترتيب والبناء لتراثنا الثقافي بمختلف منازعه وتياراته, ومحور التأصيل الثقافي لقيم الحداثة وأسس التحديث، وذلك من خلال معرفة واعية بنفسها لفكر الغرب وتراثه.

المشكل الذي تعاني منه ثقافتنا العربية، ليس الاختيار بين التراث أو الحداثة، بل بناء حداثة خاصة بنا انطلاقاً من تجديد تراثنا من داخله.

يتعلق الأمر, على المحور الأول, بإعادة كتابة كل من تاريخنا الثقافي وتاريخ الغرب الثقافي مع إبراز نقط الاتصال والانفصال بينهما، بروح علمية نقدية. إن تاريخنا الثقافي كما ظل يدرس طوال العهود الماضية هو تاريخ فِرق كلامية ومذاهب فقهية وأشعار في الهجاء والمدح, تاريخ يعكس الصراعات السياسية الظرفية التي تمزق الزمن الثقافي وتجعله خاضعاً للزمن السياسي وتابعاً له. إن المطلوب اليوم -وهذا ما نعمل في إطاره، منذ رسالتنا عن ابن خلدون عام 1970، هو تحرير تاريخنا الثقافي من الزمن السياسي الممزق, وذلك بإعادة الوحدة له, بإعادة ترتيب أجزائه والكشف في صيرورته، عن مَواطن التجديد والتقدم فيه، وبناء تاريخيته بوضع السابق فيه واللاحق, والقديم والجديد, في مكانهما من التطور التاريخي, ومن ثم إقامة جسور بيننا وبين أعلى مراحل تطوره وتقدمه. وقد سبق أن أبرزنا في العديد من مؤلفاتنا (خاصة "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة) كيف أن أقرب مفكرينا القدماء إلينا هم أولئك الذين سجلوا أعلى مراحل التقدم في الثقافة العربية الإسلامية: ابن رشد في فهم العلاقة بين الدين والفلسفة, بين النقل والعقل, والشاطبي في تجديد أصول الفقه على أساس مقاصد الشرع, وابن خلدون في النظر إلى المجتمع والتاريخ من منظور أن "للعمران طبائع في أحواله", أي أن للتاريخ والتطور الاجتماعي منطقاً محايثاً لهما يجب الكشف عنه لفهم صيرورتهما.

وبهذا النوع من إعادة بناء تاريخنا الثقافي نستطيع "الرفع" من تراثنا بصورة تجعله أقرب ما يكون منا, يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة ويكون مرجعية لنا في الاتفاق والاختلاف, في الاقتباس والإبداع. إن النظرة الرشدية إلى العلاقة بين الدين والفلسفة -وهي العلاقة التي تماثل اليوم العلاقة بين الدين والعلم, بين الأخلاق والسياسة, بين ما هو ثابت وما هو متغير- نظرة صائبة فعلاً, ملهمة حقاً. لقد نظر ابن رشد إلى كل من الدين والفلسفة على أساس أن كلاً منهما بناء خاص له مقدماته الخاصة ومنهجه الخاص، وإن كانا يلتقيان في الهدف العام وهو حث الناس على الفضيلة. هذه النظرة تفصل تماماً بين الدين وغيره من منتجات العقل، فلا تخضع هذه لذاك ولا ذاك لهذه.

وكذلك الشأن في المشروع الذي بشر به الشاطبي, مشروع إعادة تأصيل أصول الفقه على مقاصد الشرع وبالتالي التحرر من قيود القياس الفقهي الذي يعتمد على "استثمار الألفاظ" أكثر من اعتماده على المصالح والمقاصد. إن بناء الشريعة على القياس, قياس فرع على أصل, يجعل السابق أصلاً للاحق, ويفرض على التفكير الفقهي الاتجاه إلى وراء فيقع في تناقض واصطدام مع الحاضر والمستقبل. وبالعكس من ذلك بناء الشريعة على المقاصد حيث يتجه التفكير دوماً إلى الأمام, إلى الهدف والغاية من الشيء، إلى مآله ونهايته. وهذا يفسح مجالاً أوسع للاجتهاد, لتطبيق روح الشريعة وأهدافها على مستجدات الحياة حاضراً ومستقبلاً.

أما النظرة الخلدونية إلى التاريخ فهي أقرب ما تكون إلى عصرنا منها إلى ما سبقها. إن "علم العمران" الذي ابتكره ابن خلدون يجمع في حقل معرفي واحد بين التاريخ والأنثروبولوجيا, وهذا هو الاتجاه السائد اليوم في هذا المجال, فلم يعد التاريخ سجلاً للأحداث السياسية وحدها في تسلسلها وترابطها, ولم تعد الأنثروبولوجيا مدونة للعادات والتصورات التي "لا تاريخ" لها... بل إن الاتجاه السائد اليوم هو الجمع بين الاثنين: إعطاء التاريخ بعداً أنثروبولوجياً وإعطاء الأنثروبولوجيا بعداً تاريخياً, وهذا ما فعله ابن خلدون فيما أسماه بـ"العمران". ونحن عندما نبرز هنا أهمية ابن خلدون فليس لأنه سبق إلى كذا وكذا بل لأن نظرته إلى المجتمع والتاريخ أكثر ملاءمة وإجرائية بالنسبة لنا. ذلك لأننا لا نستطيع -فيما أعتقد- فهم واقعنا, الماضي منه والحاضر, ما لم نتسلح بهذه الرؤية التي تجمع بين التاريخ والأنثروبولوجيا. ذلك لأن ماضينا وحاضرنا هما معاً ميدان للتاريخ, أي للحركة والتغير على صعيد الزمن السياسي, وميدان للأنثروبولوجيا أي للثبات والاستمرارية على صعيد الزمن الاجتماعي والثقافي. ومن هنا كانت النظرة الخلدونية التي تحاول الإمساك بالزمنين معاً هي النظرة التي نحتاج إليها اليوم.

وهكذا نرى بوضوح أن ابن رشد والشاطبي وابن خلدون يشكلون فعلاً حلقة الوصل بين ماضينا وحاضرنا, الحلقة التي تجعل من تراثنا كله مرجعية لنا، والتي بدونها يبقى الماضي مقطوع الصلة بالحاضر.

هذا ضروري ولكنه لا يكفي. ذلك أن الفكر الأوروبي، الذي يغترب فيه تيار "الحداثة" في فكرنا المعاصر، قد تمت إعادة بنائه بهذه الطريقة تقريباً منذ ديكارت الذي "مسح الطاولة" في القرن السادس عشر، إلى بوبر الذي يحاول إعادة مسحها اليوم، ولكن هيهات!

 

 

عودة إلى معاصرون