جريدة الاتحاد الإماراتية
محمد عابد الجابري
10 سبتمبر 2007
نبدأ هذا القول بمقارنة سريعة بين مفهوم الإيمان في الديانات التوحيدية الثلاث لنتبعها بشرح مفصّل للعلاقة بين الإيمان والعقل في الإسلام، وذلك في سلسلة من بضع حلقات.
نقرأ في القرآن الكريم: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم 4). والواقع أن الديانات، سماوية كانت أو غير سماوية، لا يختلف بعضها عن بعض باختلاف ثقافة أهلها ومعهودهم الحضاري فحسب، بل تختلف كذلك باختلاف أوضاع لغاتها وما يعطيه كل منها من معانٍ ودلالات لألفاظها واصطلاحاتها. ويطال هذا الاختلاف ليس التعبير والمضمون فحسب بل يطال أيضاً الحضور والغياب. فكم من ألفاظ وعبارات في هذا الدين أو ذاك لا تقبل النقل إلى لغات أخرى، كمفاهيم دينية، على الرغم من أنها قد تقبل النقل التام أو شبه التام على المستوى اللغوي.
من ذلك مثلاً الزوج "الإيمان والعقل" الذي يبدو أنه لا تخلو أية لغة ولا أية ديانة مما يقابله، سواء على مستوى اللغة الجارية أو على مستوى المصطلح الديني. ومع ذلك فالمعنى الذي يفهم من "الإيمان" أو من "العقل" في هذا الدين أو ذاك يختلف، قليلاً أو كثيراً، من دين لآخر. ومن هنا كان من المفيد لفهم مدلول أي مصطلح ديني، في لغة من اللغات، مقارنته بمدلوله في ديانات أخرى، حتى ولو كانت تجمعها أصول دينية أو لغوية مشتركة. وبما أن موضوعنا يخص "العقل والإيمان" في القرآن تحديداً، فسنقتصر هنا على مقارنة سريعة بين المفهومين كما يستعملان في اليهودية والمسيحية -اللتين يشترك معهما الإسلام في الانتماء إلى أصل مشترك هو دين إبراهيم- لنعود بعد ذلك إلى إبراز المعاني الخاصة التي استعملها فيها القرآن.
بينما يرتبط مفهوم "الإيمان" في اليهودية والمسيحية بفكرة "الخلاص"، فإن هذه الفكرة غائبة تماماً عن الأفق الإسلامي، على الأقل كما هو في القرآن.
يؤكد المختصون في "مقارنة الأديان" أنه إذا كنا قد اعتدنا أن نتكلم بصفة عامة عن "الإيمان اليهودي" و"الإيمان المسيحي" و"الإيمان الإسلامي"... مفترضين أن لفظ "الإيمان" يلخص مجمل العلاقات بين الإنسان والله في هذه الديانات، فإن الحقيقة غير ذلك! ففي العبرانية، لغة الدين اليهودي، لا يوجد لفظ يؤدي هذا المعنى. ذلك أن الكلمات التي يمكن أن نفهم منها رسالة التوراة، على الجملة، هي تلك التي تعبر عن الفعل الإلهي وليس عن مواقف الإنسان. وهذا الفعل الإلهي الذي بيَّنته عنه التوراة ينتظم حول فكرة مركزية هي فكرة "الميثاق" أو "العهد" الذي أبرمه الله مع بني إسرائيل الذين اصطفاهم ليكونوا "الشعب المختار". والكلمة العبرانية berith التي تفيد هذا المعنى تحمل كذلك معنى "اليمين" لتبرز الالتزامات التي يفرضها ذلك الميثاق على الطرفين: الله وبني إسرائيل. ومن هنا يُنظَر إلى "الكتاب" (التوراة) -على أنه كتاب "وصيّة"- بوصفه القرار الأخير المعبر عن الإرادة الإلهية. ويتمثل هذا القرار في كون إله بني إسرائيل قد وفَّى من جانبه بـهذا "العهد" حين اتخذ إبراهيم خليلاً، الشيء الذي يستوجب أن توفي ذريته (من ابنه إسحاق وحفيده يعقوب المسمى إسرائيل) من جانبها بذلك العهد، وذلك بالتزام الشريعة التي جاءهم بها كليم الله موسى، والتي يتوقف على الالتزام بها "خلاصـ"هم، هذا "الخلاص" الذي حددته التوراة في الرجوع إلى "الأرض الموعودة" (فلسطين).
واضح إذن أن هذا التصور الذي تقيمه اليهودية عن العلاقة بين بني إسرائيل وبين الله لا يترك مجالاً للحاجة إلى مفهوم "الإيمان" الذي يحيل بصورة أو بأخرى، إلى معاني الاعتقاد والتصديق والإخلاص، كما هو الحال في المسيحية والإسلام. ذلك أن المسألة المطروحة بالنسبة لشعب إسرائيل ليست "الإيمان"، بمعنى الاعتقاد، بل المطروح هو الوفاء لـ"ميثاق" الله معهم.
ومع أن مفهوم "الإيمان" يتضمن في كل من المسيحية والإسلام معنى "الاعتقاد"، كما قلنا، إلا أن مضمونه فيهما ليس واحداً. وهكذا فبينما يتمحور مفهوم الإيمان في الإسلام حول التصديق برسالة محمد عليه الصلاة والسلام كما سنرى بتفصيل، نجد هذا المفهوم مركزاً، في المسيحية، حول فكرة "الوفاء" fidélité -fidelity: أن يحقق الله وعده بـ"قيام" المسيح في آخر الزمان من جهة، وأن يقوم المؤمن المسيحي، من جهة أخرى، بما ينطوي عليه طقس "التعميد" من معانٍ (وهو يرمز إلى غسل الخطيئة الأصلية)، الشيء الذي يعني أن كلمة faith - foi, (التي نترجمها عادة بـ"الإيمان")، تعني في الحقيقة ليس الإيمان بمعنى التصديق فحسب، بل بمعنى العقيدة أيضاً. فعبارة الإيمان المسيحي أو اليهودي يمكن أن يعبر عنها بـ"العقيدة" المسيحية أو اليهودية. أما في الإسلام فالعقيدة هي موضوع الإيمان والتصديق، وليست هي الإيمان ذاته إلا مجازاً.
وهكذا، فبينما يرتبط مفهوم "الإيمان" في اليهودية والمسيحية بفكرة "الخلاص"، فإن هذه الفكرة غائبة تماماً عن الأفق الإسلامي، على الأقل كما هو في القرآن. أما في الفلسفة ذات النزعة الإشراقية فيعبر عنها بـ"النجاة". ومعلوم أن لابن سينا كتاباً بهذا الاسم -وهو ملخص لكتابه الفلسفي الكبير "الشفاء"- يضم "العقيدة" الفلسفية التي هي عنده طريق "الخلاص". إن الأفق الذي يَنْشَدُّ إليه مفهوم "الإيمان" في القرآن أفق دنيوي وأخروي معاً: أما في الدنيا فقد وعد الله المؤمنين بالنصر في معركتهم مع المشركين والكفار: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور 55)، وأما في الآخرة فقد وعد الله المؤمنين المخلصين الجنة: "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ. ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة 72). والجدير بالإشارة أن الأفق الأخروي (القيامة والحساب، ثم الخلود في الجنة أو النار) باهت جداً في كل من اليهودية والمسيحية، فالخلاص فيهما يتم في الدنيا، وأما الجنة وجهنم فيهما فأمرهما غامض، والاهتمام بهما هامشي، وعلى كل حال فهما غير واضحتين وضوحهما في القرآن.
تلك نبذة وجيزة عن الفَرق بين مفهوم "الإيمان" في كل من اليهودية والمسيحية والإسلام. أما مفهوم "العقل" في كل واحدة من هذه الديانات فمرجعيته في الحقيقة ليست في الدين بل في الثقافة التي انتشر ضمنها هذا الدين أو ذاك، كما سنرى لاحقاً.
يبقى أن استيعاب مفهوم الإيمان بجميع دلالاته وآفاقه، في الدين الإسلامي، لا تكفي فيه المقارنة مع الديانات الأخرى، بل لابد من تناوله من داخل مرجعياته، وفي مقدمتها اللغة.
يحصر ابن منظور، صاحب معجم "لسان العرب"، الألفاظ التي تدخل مع لفظ "الإيمان" في علاقة اشتقاقية ويعرفها بذكر أضدادها كما يلي، قال: "الأَمْنُ: ضدُّ الـخوف. والأَمانةُ: ضدُّ الـخِيانة. والإِيمانُ: ضدُّ الكفر. والإِيمان: بمعنى التصديق، ضدُّه التكذيب". وهذه المعاني موجودة كلها في القرآن، وهي تدخل في شبكة دلالية واحدة: فالذي يأمَنُ صاحبَه لا يخافه، ولا يخشى منه خيانة، ولا إخفاءً لحقيقة، ولا جحودا (= كفراً)، ولا تكذيباً. ومن هنا نفهم قول ابن منظور: "واتَّفق أَهلُ العلم من اللُّغَويّين وغيرهم أَن الإِيمان معناه التصديق". ولابد من أن نضيف أن هذا "التصديق" إنما موضوعه الخبر الذي يمدنا بمعرفة عما هو "غائب" عنا. أما ما هو حاضر فهو مشاهَد: يُرى ويسمع... الخ. وللوصول إلى اكتساب معرفة بالغائب المجهول لابد من وجود آثار أو "شواهد" تدل عليه. و"الاستدلال بالشاهد على الغائب" أو الاعتبار -بمعنى "العبور" من آثار الشيء إلى الشيء نفسه- هو من عمل "العقل" وليس من مجال الإيمان. ومن هنا الفرق الابتدائي بين الإيمان والعقل: الإيمان مهمته "التصديق" المباشر بما يقع خارج مجال المشاهدة والاستدلال، أي بما ينتمي إلى "عالم الغيب"، أما العقل فمهمته التصديق بواسطة، أي بما يسفر عنه الاستدلال.
ويحدد القرآن الموضوعات "الغيبية" التي إذا لم يصدق بها الإنسان "العاقل" صار "كافراً"، أي غير متصف بالإيمان بالمعنى الشرعي، وذلك في قوله تعالى: "وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً" (النساء 136) هذه أكمل قائمة وردت في القرآن وهي المعتبرة عند جميع المسلمين. أما بعض أهل السُّنة فقد أضافوا إلى هذه القائمة: "الإيمان بالقدر خيره وشره" كتمييز لأنفسهم عن المعتزلة الذين قالوا إن أفعال الإنسان تصدر منه عن حرية واختيار وذلك لكي يثبتوا المسؤولية، بينما أضاف الشيعة "الإمامة"، كتمييز لمذهبهم عن مذهب أهل السُّنة عموماً.
ومهما يكن فالإيمان بالمعنى القرآني -بعيدا عن الاعتبارات المذهبية والسياسية- يشمل الإيمان: "بالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ"، وهذه كلها أشياء ليست من عالم الحس، بل هي من عالم الغيب، ولذلك وصف الإيمان بها بـ"التصديق"، تصديق المُخبـِر بها.