Arabic symbol

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

منطق متعدد القيم يؤسس لعقلانية إسلامية أصيلة

جريدة الاتحاد الإماراتية

محمد عابد الجابري

22 سبتمبر 2008

رأينا في المقال السابق كيف حاول غيلان الدمشقي، أحد رواد الحركة التنويرية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، تجاوز منطق "إما... وإما"، المنطق الذي يلغي التفاعل بين المختلفات والمتقابلات والمتناقضات، وينكر على الآخر حقه في أن يكون له رأي خاص، مغلقا بذلك الباب نهائيا أمام التسامح. إنه المنطق الذي تبناه الخوارج، زمن الفتنة الكبرى، في مسألة مرتكب الكبيرة، والذي واجهه الحكام الأمويون وأنصارهم، بمنطق موغل مثله في اللاعقلانية، عندما قالوا "إن جميع أفعال الناس هي نتيجة قضاء وقدر من عند الله، وأن ليس للإنسان فيها دور، هادفين بذلك إلى إسقاط المسؤولية عنهم فيما قاموا به من غصب للحكم، وعسف، وظلم...".

على أن عملية التجاوز التي قام بها غيلان الدمشقي للمآزق التي أوقع الفكرَ الإسلامي فيها منطقُ "إما... وإما"، الذي تعصب له الخوارج في أول أمرهم، (حدث تطور في بعض فرقهم لاحقا، كالإباضية الذين اقتربوا من فكر المعتزلة)، كانت متجهة إلى الحاضر بالخصوص، بمعنى أن غيلان وأصحابه (أو على الأقل ما وصلنا عنهم)، لم يتجاوزوا مستوى الفتوى التي تجيب على نازلة تحمل معها زمنيتها، إلى مستوى الحلول النظرية العامة التي تصلح لتجاوز المشكل المطروح تجاوزا تاريخيا، يشمل الحاضر والماضي والمستقبل.

هذا التجاوز التاريخي العام حققه واصل بن عطاء عندما انتشل المسائل المطروحة من منطق "إما... وإما" (من منطق ثنائي القيم)، ليطرحها على مستوى منطق آخر، متعدد القيم.

كان واصل بن عطاء تلميذا للحسن البصري، المرجعية الدينية المتفتحة المحترمة من الجميع. على أن الحسن البصري إذا كان قد قاوم "الجبر" الأموي بتقرير قدرة الإنسان على الفعل، وبالتالي مسؤوليته على ما يفعل، فإنه في مسألة "مرتكب الكبيرة" لم يخرج من دائرة المنطق ثنائي القيم، إلا بإحالة الحكم في هذه المسألة إلى المشيئة الإلهية، وذلك بتقرير أن مرتكب الكبيرة مؤمن عاص، إن شاء الله غفر له. وهذا الموقف إن كان يعبر في الوقت نفسه عن رفض لإيديولوجية التكفير "الخارجية"، وعن إدانة للأمويين إدانة "خفيفة" :"مؤمن عاص إن شاء الله غفر له"، فإنه ينطوي في ذات الوقت على نوع من التساهل في مسألة الوعد والوعيد. ذلك أنه إذا كان الله سيغفر للمؤمن العاصي، فمعنى هذا أنه سيخلف وعيده، علما بأن الله توعد مرتكبي الكبائر بالعقاب الشديد. ومثل ذلك يقال بالنسبة لوعده أصحاب الحسنات بالثواب. والتساهل في "الوعد والوعيد" يؤدي حتما إلى تزكية ادعاء الخلفاء الأمويين بأنهم لا يجري عليهم حساب ولا عقاب.. الخ. وهكذا نعود إلى وضعية:"إما.. وإما": إما إيديولوجيا التكفير، وإما إيديولوجية الجبر وما يرتبط بها من القول باستثناء الخلفاء الأمويين من العقاب.

وللخروج من هذا المنطق الضيق الثنائي القيمة، عالج واصل بن عطاء هذه المسألة على مستوى منطق ثلاثي القيم، فقال إن مرتكب الكبيرة يقع في منزلة بين منزلة الإيمان ومنزلة الكفر، هي منزلة "الفاسق" الذي هو:"لا مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا". وحسب ما نقله عنه "الشهرستاني" في كتابه "الملل والنحل" فإن واصل كان يقرر "أن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا، وهو اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير وما استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنا. وليس بكافر مطلقا أيضا، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها. لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالدين فيها، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير. لكنه يخفف عنه العذاب، وتكون دركته فوق دركة الكفار"(ج1 ص48). معنى ذلك أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ما لم يتب قبل وفاته. وبالتالي فما دام في الدنيا حيا يرزق من دون أن يتوب، فحكمه حكم الكافر، ولكن مع تمتعه بـ"وقف التنفيذ" إلى آخر لحظة في حياته. وإذا عرفنا أن استراتيجية "القدريين" الذين ينتمي إليهم واصل، كانت ترمي من جملة ما ترمي إليه التأثير في الحكام الأمويين وممارسة الضغط السياسي- الديني عليهم، أدركنا المغزى السياسي لاشتراط التوبة. إن التوبة هنا تعني تراجع الأمويين عن سياستهم وسلوك سياسة الشورى والمساواة... التي ينادي بها "القدريون". بعبارة أخرى لقد جعل واصل بن عطاء شرعية الحكم الأموي معلقة على التوبة، والتوبة تقتضي الاعتراف بالخطأ مع الندم والالتزام بعدم العودة إليه والتعهد بالعمل الصالح مستقبلا. وواضح أن هذا الموقف ينطوي على إدانة السلوك الذي صدر عن الأمويين في الماضي، وفتح المجال لإمكانية تجاوز خطايا الماضي إلى الصلاح في المستقبل بالقيام بما نعبر عنه اليوم بـ"النقد الذاتي" والالتزام بالصلاح والإصلاح.

ذلك على صعيد المصالحة مع الحاضر والمستقبل. وتبقى المصالحة مع الماضي، التي لم تكن تقل أهمية في ذلك الوقت، خصوصا وقد كان الموقف الحقيقي من الحاضر إنما يتحدد من خلال الموقف المتخذ من الماضي. ومن هنا، حملات الإرهاب الفكري الذي كان يمارس على الناس بطرح أسئلة محرجة من قبيل: ما قولك في

 

 

عودة إلى معاصرون