Arabic symbol

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

علم أصول الفقه.. التأسيس ومنهج الاستدلال

جريدة الاتحاد الإماراتية

محمد عابد الجابري

16 أبريل 2007

لم تكن النقلة النوعية التي دشنها الغزالي على مستوى بناء "علم أصول الفقه" عملاً عفوياً، بل كانت عملاً واعياً صادراً عن استراتيجية عامة حكمت جميع مؤلفاته. هذه الاستراتيجية شرحنا دوافعها وأهدافها في عمل سابق (بنية العقل العربي، قسم البرهان الفصل الأول الفقرتان 6 و7) لذلك سنركز هنا على أهم لحظات تطور هذا العلم في الثقافة العربية الإسلامية بعد الشافعي.

عرف علم "أصول الفقه" بعد الشافعي تقدماً هائلاً على مستوى التأسيس مع فقهاء الحنفية. غير أن طريقتهم كانت تتحرك داخل مذهبهم وحده فلم تكن عامة ولا نظرية. كانوا "يقررون قواعدهم حسب ما نُقل من الفروع عن أئمتهم". وكان رد فعل المذاهب الأخرى أن لجأ علماؤها إلى اعتماد طريقة أخرى عامة ونظرية عرفت بطريقة المتكلمين، وقد ساهم في تشييدها معتزلة وأشاعرة وشافعية ومالكية. تتميز هذه الطريقة بـ"تقرير الأصول من غير التفات إلى موافقة فروع المذهب لها أو مخالفتها إياها".

من أهم وأشهر من شيدوا هذه الطريقة القاضي عبدالجبار (توفي سنة 415) الذي ألف فيها كتابا سماه "العمد"، ثم تلاه تلميذه أبو الحسين البصري (المتوفى سنة 436) في كتابه "المعتمد" وهما من المعتزلة، ثم جاء الجويني (متوفى سنة 478) وهو من كبار الأشاعرة، فألف في الموضوع كتابه "البرهان".

كان المتكلمون يعتمدون منهج "القياس" (قياس فرع على أصل أو الاستدلال بالشاهد على الغائب)، وهو منهج "مفتوح" أمام الاختلاف والجدال، إذ بوسع كل مجادل أن يتخذ له أصلاً من جزئيات "الشاهد" (العالم الحسي) أو من متشابه النصوص، يقيس عليه ما عداه.

كان الغزالي الأشعري (متوفى سنة 505) أكثر الناس شعوراً في ذلك الوقت بضعف طريقة المتكلمين. لقد درس المنطق وتعرف عليه فرأى فيه آلة محايدة لاكتساب اليقين في كل حقل معرفي، وبالتالي آلة صالحة لمواجهة "الخصوم"، وهم عنده الفلاسفة و"التعليمية" (الإسماعيلية). ولما كانت سمعة المنطق قد ارتبطت في أذهان علماء الإسلام بالفلسفة التي كانوا يعتبرونها خطراً على الدين فقد رأى الغزالي أنه من الضروري تبْيئة "المنطق" اسماً ومنهجاً في الحقل البياني كي يسهل تقبله. من أجل هذا الغرض ألف عدة كتب في المنطق بأسماء عربية منها: "محك النظر" و"معيار العلم" و"مناهج الأدلة"... الخ، ولم يكتف بذلك بل على تطبيقه في مجال العقيدة والشريعة.

ففي مجال العقيدة ألف كتاباً بعنوان "الاقتصاد في الاعتقاد"، عرض فيه عقائد المذهب الأشعري، موظفاً القياس الأرسطي في البرهنة على صحتها. وفعل الشيء نفسه في كتابه "القسطاس المستقيم" حيث استعمل أمثلة من آي الذكر الحكيم ليظهر أن القرآن قد استعمل نفس الآلة (القياس الصوري الأرسطي) في استدلالاته. وهكذا حصر طرق الاستدلال في القرآن في ثلاثة، سماها "موازين القرآن":

الأول "ميزان التعادل" وقد مثل له بعدة آيات منها قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتِ بها من المغرب فبُهت الذي كفر" (البقرة 258)، صاغ الغزالي هذه الآية على شكل قياس فقال: "كل من يقدر على إطلاع الشمس فهو الإله، فهذا أصل (= مقدمة كبرى) وإلهي هو القادر على الإطلاع، وهذا أصل آخر (= مقدمة صغرى)، فلزم من مجموعهما بالضرورة أن إلهي هو الإله دونك يا نمرود". (وهذا هو القياس الحملي في شكله الأول، بلغة المنطق).

الميزان الثاني سماه "ميزان التلازم" مثل له بآيات، منها قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" (الأنبياء 22) وقد صاغها في صورة قياس كما يلي: "لو كان للعالم إلهان لفسدتا"، فهذا أصل. و"معلوم أنهما لم تفسدا" وهذا أصل آخر، فيلزم عنهما نتيجة ضرورية وهي نفي إلهين" (القياس الشرطي المتصل، أو الاستثنائي).

أما الميزان الثالث فقد أطلق عليه اسم "ميزان التعاند" ومثل له بعدة آيات منها: "قل من يرزقكم من السماوات والأرض، قلْ الله. وإنا أوْ إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سبأ 24)، وصاغ هذه الآية على شكل قياس، هكذا: "إنا أوْ إياكم لعلى ضلال مبين"، فهذا أصل، و"معلوم أنا لسنا في ضلال"، وهذا أصل. والنتيجة: "أنكم في ضلال" (قياس الخُلف)...

أما في مجال الشريعة فقد ألف الغزالي كتاباً بعنوان "معيار العلم"، عرض فيه مباحث المنطق عرضاً مبسطاً مستعملاً الأمثلة الفقهية، الشيء الذي جعله سهل التناول. كان هدفه، كما ذكر هو نفسه، تحقيق أمرين:

"أحدهما تفهيم طرق الفكر والنظر وتنوير مسالك الأقيسة والعِبر"، انطلاقاً من أن المنطق "بالنسبة إلى أدلة العقول كالعروض بالنسبة إلى الشعر، والنحو بالإضافة إلى الإعراب"، وبالتالي فكل من لا يتخذ المنطق ميزاناً ومعياراً في المسائل الفكرية فهو "فاسد العيار، غير مأمون الغوائل والأغوار".

ثانيهما تفهيم الفقهاء "أن النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات في ترتيبه وشروطه وعياره، بل في مآخذ المقدمات فقط". ذلك أن المقدمات في العقليات "يقينية" والنتائج كذلك. أما في الفقهيات فالمقدمات ظنية لأنها تتعلق بقصد الشارع، ولا أحد يعلم مقصود الله من تحليل هذا الشيء أو تحريمه، فالفقهيات قائمة على الظن، والظن يكفي فيها لأنها تتعلق بالعمل: بالعبادات والمعاملات.

أما "أصول الفقه" فموضوعه فكري نظري، إنه البحث "في القواعد التي يتوسل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها"، وهي عنده "الكتاب والسُّنة والإجماع". أما القياس الفقهي الكلامي فقد استغنى عنه ليضع مكانه القياس المنطقي الأرسطي. وهذا ما دعاه إلى تخصيص كتابه "المستصفى من علم أصول الفقه" بمقدمة في المنطق قال عنها في مستهلها إنها "مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً".

هنا في هذه المقدمة بالذات "قطع" الغزالي مع المؤلفين السابقين في هذا العلم، أصحاب "طريقة المتكلمين" فضلاً عن طريقة الحنفيين. أراد الغزالي أن يجعل المنطق هو الذي يؤسس أصول الفقه وليس علم الكلام ولا قواعد أئمة المذهب، فوضع تلك المقدمة التي صدر بها كتابه ليتمكن من لا يعرف المنطق -كما يقول- من الاطلاع على الكيفية التي يجب أن تسبر بها الأدلة وتختبر.

كان الغزالي يعلم أن بعض الفقهاء، ممن لا بضاعة لهم إلا ما نقل عن السابقين، قد يلتبس عليهم الأمر فيبدون تخوفهم من أن يكون في المنطق ما يمس بالدين، فواجههم بهذا الاستفهام الإنكاري: "وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يُجْحَد (المنطق) ويُنكَر! فإذا أُنْكِر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوءُ الاعتقاد في عقل المنكِر، بل في دينه الذي يُزعَم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار".

ولم يكن الغزالي غافلاً عن أن تثير كتبه المنطقية غضب أصحاب الحديث فيطعنون في المنطق من غير معرفة به، كما فعل من بعده ابن الصلاح في إحدى فتاواه -وليس في جميعها كما يتوهم الذين كلّ زادهم "الأفكار المتلقاة"، التي لا يعرفون لها أصلاً ولا مقصداً. لقد أجاب حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عن هذا النوع من "الغضب" و"الطعون" فكتب يقول: "ولعل الناظر بالعين العوراء، نظر الطعن والإزراء، يُنكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليات القطعية بالأمثلة الفقهية الظنية، فَلْيَكُفَّ عن غلوائه في ظنه وإزرائه، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها، فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفي بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد" (معيار العلم" ص 61).

نحن لا نشك في أن الغزالي كان واعياً بنسبية اليقين الذي يعطيه القياس الأرسطي لتوقف يقين النتائج فيه على المقدمات اليقينية. ولكن بما أن المقدمات في أصول الفقه هي معطيات دينية مسلُّم بها فإن ما سيعطيه استعمال القياس المنطقي فيها سيكون على درجة من الظن أو اليقين كما هو الحال في تلك المقدمات...

فعلاً، الأمر اليوم يختلف، نظراً للتقدم الحاصل في العلوم ومناهجها، والذي أدى إلى قيام علم جديد هو "الإبيستيمولوجيا" (الفلسفة النقدية للعلوم أو "منطق العلوم"). وهو المجال الذي تُفحص فيه مبادئ العلوم ومناهجها... الخ، كيفما كانت هذه العلوم! وبحق قد يصح منا القول اليوم، حسب عبارة الغزالي: "إن من يجهل كل شيء عن منطق العلوم لا ثقة له بعلومه أصلاً".

 

 

عودة إلى معاصرون