حوار صريح ومثير مع المفكر العربي محمد عابد الجابري: لا يوجد سيد من دون وجود عبد فاذا غير العبد شروطه تغير السيد !
عرب الخليج لا يمكن ان يتطوروا حضاريا كمنتجين ومصنّعين ولكن يمكنهم ان يكونوا مستثمرين ومضاربين كحالهم اليوم!
القدس العربي
علاء الدين الأعرجي
18يوليو 2006
لئن يوصف الحديث بين الأصدقاء والأحباب بأنه حديث ذو شجون ، ونعني به حديثا مشوقا، أكثر من أنه ذو شجون بالفعل، أي أحزان ، فقد كان حديثي مع الجابري أكثر من ذلك بكثير. ولعل أقرب ما يمكن أن يوصف به هو أنه كان حديثا ذا شجون وفنون وعيون، وآذان مرهفة، وفكر متعطش للفهم و التفهم، من جانب، وسيل من الفكر المتدفق والتحليل الدقيق من الجانب الآخر. فكاتب هذه السطور لم يقابل الجابري كصحافي أو إعلامي يوجه إليه أسئلة محددة سلفا، ويكتب أجوبته فينقلها إلي جمهوره، بل قابله بصفته إنسانا ً قوميا ً عربيا ً تقدميا ً، منهمكا ً بصرامة وعمق ، بهموم هذه الأمة ومستقبلها ومصيرها، منذ كان شابا. وإذ قارب خريف عمره، في الثمانينيات من القرن الماضي، اكتشف الجابري، فحرص علي تتبع أعماله باهتمام شديد ووعي ناقد، بل أصبح يعتبره من أهم المفكرين العرب القلائل الذين يستحقون العناية والدراسة والفهم، خاصة لأنه ربما يُعتبر أول مفكر عربي عالج مسألة تخلفنا الحضاري من خلال معالجة العقل العربي ذاته. فقد نقد هذا العقل في رباعيته المشهورة نقد العقل العربي ، التي تتألف من أربعة مجلدات، وذلك بعد أن أغني المكتبة العربية بقرابة ثلاثين مؤلفا. وهكذا حرص كاتب هذه السطور علي اعتبار هذا المفكر من أهم مراجعه الأساسية حينما كتب مؤلفه الأخير الذي صدرت طبعته الثانية مؤخرا تحت عنوان العقل الفاعل والعقل المنفعل وأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي؛ الأمة العربية بين النهضة والانقراض . علما بأن بعض الأفكار والنظريات الواردة في هذا الكتاب لا تتفق بالضرورة مع نظريات الجابري، بل قد تتقاطع وتتعارض معها، وربما تكملها وتعدلها أحيانا.
ومن هذه المنطلق حرص كاتب هذه السطور، ليس فقط علي تتبع كتابات الجابري بتفحص وإمعان، بل أخذ يمعن النظر أيضا بكل ما يكتشفه من كتابات ناقديه و منتقديه ومهاجميه. ومع احترامه لبعض هذه النقود (جمع نقد)، وبصرف النظر الآن عن مدي أهمية البعض الآخر، وسواء كانت عادلة أو ظالمة، فإن هذا الكمّ الهائل من المقالات والمؤلفات التي صدرت في نقد أعماله، سلبا أو إيجابا، قد يدل، بين أمور أخري، علي كثرة الأعصاب الحساسة، بل المتوترة، التي أصابها أو لمسها الجابري، من جهة، أو ربما يشكل بادرة صحة أو خِصب، ما تزال كامنة في الفكر العربي، استطاع مفكرنا المتميز أن يفجـِّرها، من جهة أخري.
وانطلاقا من هذه الرفقة الفكرية الحميمة، التي تربو علي العقدين، استبشرتُ جدا بالدعوة التي تلقيتها من الأخ الكريم الأستاذ معن بشور، أمين عام المؤتمر القومي العربي، لحضوره، خاصة لأنها عقدت في الدار البيضاء، موقع إقامة المفكر الجابري، الذي كنت أتلهف للقائه، لا سيما وأنه عضو في هذا المؤتمر. وبهذه المناسبة لابد أن أتقدم بالشكر الجزيل لمفكرنا الجليــــل لتكريس هذا الوقت الطويل للقائي علي انفراد، علي الرغم من ضيق وقته وظروفه الشخصية الحرجة. كما أشكر وأقدر بإخلاص الجهود السابقة التي انعقد فيها المؤتمر في الرباط قام بها صديقنا المشترك الأستاذ الفاضل عبد القادر الحضري، الذي يعود إليه الفضل في ترتيب هذين اللقائين.
الحوار:
في لقائنا الأول، الذي كان قصيرا ومرتجلا، إلي حد بعيد، حين سألتك عن استشرافك مصير هذه الأمة المنكوبة، وأنا أقول منكوبة ليس بالآخر فحسب، بل منكوبة بأهلها أيضا، فهمت من إجابتك، تلك الإجابة التي اعتبرتها غير شافية، آنذاك، أنك كنت متفائلا، أكثر مني علي الأقل، لو صح فهمي. فرجائي أن توضح وجهة نظرك اكثر في هذه المسألة الخطيرة؟
عندما يواجه الإنسان الواقع، وأنا هنا أنطلق بوصفي باحثا بالدرجة الأولي ـ باحثاً له علاقة بتاريخ الفكر وبالتطورات السياسية ـ لا بد له من أن ينتهي إلي أن الانطلاق من هذه الزاوية، يجعل التفاؤل والتشاؤم بدون معني. والذي يجعلنا حبيسي هذه الثنائية، هو تأثير الإعلام الذي يضغط علينا بشدة ويقدم لنا فيضا من التفاصيل فيعرقل بذلك الفكر. فعندما نسمع مثلا عن نكبة دير ياسين، نكون إزاء حدث وقع وانتهي، منذ زمن بعيد نسبيا، لكن عندما نسمع اليوم عن الأحداث التي تقع في العراق أو في فلسطين ونراها ونعيشها، تأخذ منا الصورة حجما كبيرا من الوعي والوجدان، بحيث لا تترك مجالا للفكر. فالعالم اليوم محاط وملفوف بغطاء يتجلي في هذا الإعلام. ولذلك فيجب أن نحسب حسابا لهذا التضخيم الناتج عن هذه الوسائط الإعلامية.
نعم، أوضاعنا في العالم العربي سيئة ما في ذلك شك، لكنها ليست أسوأ من كثير من بلدان إفريقيا. في الماضي القريب كنا نسمع عن غانا التي كان يحكمها نيكروما والتي كانت مرتبطة بالأحلام والرغبة في الخروج من التخلف واللحاق بركب الحضارة، كما نسمع عن بلاد سيكوتوري. وأنا أتذكر أن أول حركة تحريرية في العالم سمعتها وأثرت فيَّ، هي حركة الماوماو ، و صدي هذه التسمية ما زال إلي اليوم في أذني علي أمواج الـBBC في أواخر الخمسينيات. كانت هذه الحركة بالنسبة لنا هي فيتنام في وقتها. لكن الآن انظر إلي موطن هذه الحركة أي كينيا، إنها ليست في الوضع الذي كان يجب أن تكون عليه، مقارنة بالحركة التي انطلقت في مرحلة التحرير. أيضا ماذا نقول عن آسيا نفسها وعن الاتحاد السوفييتي؛ هذه الثورة التي جاءت لتغير التاريخ. سبعون سنة وهي القطب الثاني في العالم كله، بين ليلة وضحاها تغير الوضع مئة بالمئة. لا وجه للمقارنة إذن بين ما حصل لنا من انتكاس في السنوات الماضية وبين ما حصل للسوفييت. بل أكثر من ذلك في أواخر الخمسينيات والستينيات كان عندنا مجموعة نماذج علي مستوي الفكر والحركة مثل ماوتسي تونغ في الصين وتيتو في يوغوسلافيا وهذا الأخير كان نموذجا ومثالا؟ فأين يوغوسلافيا اليوم من يوغسلافيا الأمس؟ بالنسبة لنا كان عندنا جمال عبد الناصر وسوكارنو وبن بلة... لكن التاريخ هو هكذا، يستحيل أن يكون خطا مستقيما. التاريخ، كما عبَّر عنه كبار الفلاسفة، يسير في خط لولبي حلزوني. هذا هو التاريخ.
ولكن هنا يجب أن نقف عند مسألة أساسية، وهي أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر. أنا عشت في سورية في السنوات المتلألئة، أيام الوحدة وزيارة عبد الناصر، لكن وضع سورية الحقيقي آنذاك، وليس وضع الأحلام ولا الإعلام، وضع الشعب المتميز بالكثير من المشاكل والمعيقات، لا يختلف عما هو عليه الآن. وفي المغرب نلاحظ نفس الشيء إذ نري الآن عمرانا وتقدما علي مستوي المظاهر، مقارنة بما كان عليه الأمر في الخمسينيات، لكن الشعب المغربي في البوادي، وضعيته هي هي، كما كانت قبل مئات السنين. وبالانتقال إلي البادية ننتقل إلي القرون الوسطي، وهذا شأن العالم العربي بأسره. ودليلنا هو أن المحراث الخشبي ما زال إلي اليوم مستعملا في كل أرجاء هذا الوطن. فماذا تغير؟
هذا هو مغزي سؤالي لك، ماذا تغير؟ أقصد عندما سألتك عن استشراف مستقبل أمتنا ومصيرها، أخذت بنظر الاعتبار أن شيئا لم يتغير. وبينما العالم، علي صعيد الطرف الآخر، يتغير بسرعة هائلة، ترانا ما نزال نعيش في القرون الوسطي أو قبلها، في كل شيء تقريبا، كما تقول الآن، باستثناء المظاهر السطحية مثل البنايات واستخدام الوسائل الحضارية الحديثة كمستهلكين وليس كمنتجين أو مبدعين.
الذي تغير ويتغير هو الوعي، هو أن نعيش القضية علي صعيد الوعي سواء في مرحلة الأحلام أو في مرحلة الآلام! والوعي، علي كل حال، وجدان يتغير ومقياس غير ثابت، وهو لا يمثل الحقيقة، فالحقيقة شيء والوعي شيء آخر. لذلك يجب أن تكون هناك مراقبة عقلية للمقارنة والرصد. تصور العراق كما هو اليوم لا كهرباء ولا ماء، ومع ذلك هناك انشغال بقضايا فكرية، وأنا شخصيا تصلني رسائل إليكترونية يوميا تتضمن أسئلة وطلبات لمقالاتي وكتبي، وإخبار عن رسائل جامعية حول مؤلفاتي، وهذا الانشغال يطال كل الجهات بما في ذلك كردستان، وهذه علامة إيجابية لا تنكر.
المسألة التي تؤرقني وأري أن علينا مواجهتها ومعالجتها، هذه الفجوة الحضارية القائمة بيننا وبين الآخر التي تزداد في كل لحظة. فلو فرضنا جدلا أننا نتقدم فإن سرعة تقدمنا لا تتجاوز سرعة مسير الدابة، بينما يتقدم الآخر بسرعة الطائرة أو أكثر. هذه الفجوة تتزايد سعة وعمقا كلما تقدم الزمن، وتتضاعف كلما تقدم التاريخ، مما يؤدي إلي زيادة تحكم الآخر بمقدرات الأمة العربية وسيطرته علي مواردها، وبالتالي علي كيانها بل وجودها، كما يحدث فعلا اليوم في مختلف ميادين العلاقة معه. فحتي لو تقدمنا بهذا القدر اليسير الذي تفضلت بذكره، فسوف لن نستطيع اللحاق بالحضارة الغربية، أي ستظل هذه الفجوة قائمة بل ستتضاعف بمرور الوقت، الأمر الذي أسفر عن هذه النكبات المتوالية التي أصابت الوطن العربي، وقد يؤدي إلي ويلات أكثر هولا ً في المستقبل.
ليس من الضروري أن يقرأ الإنسان الأمور بهذا الشكل. علماء النفس يتحدثون عن الإحساس، والإحساس يكون دائما إحساسا بالفارق، وتضخيم هذا الإحساس يجب أن نرجعه لسببين: أولهما هو أن الغرب قضي أكثر من ثلاثمئة سنة في الحروب الدينية والقومية، بينما انطلقت نهضتنا علي أكثر تقدير في بداية القرن التاسع عشر، ونحن لم ننخرط في النهضة وطرح إشكالاتها إلا منذ مئة سنة. أما السبب الثاني، وهو أن الغرب عندما كان يتقاتل أو يحارب أو يتقدم ويبني نهضته لم يكن هناك خصم خارجي يتدخل لإحباطه أو لإعاقته، أما نحن فالخصم الخارجي يجب استحضاره دائما، إنه عنصر أساسي في المعادلة. يجب إذن أن لا نقيس الأمور بنفس المقياس لأن لنا وضعا مختلفا.
ففي المغرب ومصر مثلا: مَن الذي أفسد المشروع الوطني الليبرالي الذي يدعو إليه الجميع الآن؟ إنه الاستعمار، فالحكومة التي كانت قائمة في أواخر الخمسينيات في المغرب، والمخطط الذي وضعته ما بين الستين وأربعة وستين، وكان من المفروض أن يقضي علي الأمية وأن يسهم في إعطاء دينامية اقتصادية وتصنيعية قوية... لكن الاستعمار تدخل وأقنع المسؤولين آنذاك بأن هؤلاء الذين يدعون إلي الإصلاح، ليس غرضهم التصنيع، بل هدفهم النهائي هو خلق طبقة عاملة تقوم بالثورة مثل تلك التي وقعت في روسيا، وتسقط بذلك النظام! لقد كانت هناك شبه حرب باردة. هذه الفروق يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وذلك حتي لا يهيمن علي رؤانا الإحباط واليأس والتشاؤم. الغرب نفسه له مشاكله، وأنا لاحظت عند زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية أن عدد المتسولين في نيويورك يفوق عددهم في الدار البيضاء، ناهيك عن المشردين الذين يبيتون في الشوارع، فضلا عن السود وذوي الأصول الإسبانية الذين يعيشون في وضعية مزرية لا تعكس مستوي الحضارة الأمريكية. أنا بصراحة لا أخاف علي العالم العربي من الانهيار، لأن المسافة بينه وبين الانهيار ليست بعيدة، أما الانهيار الحقيقي فهو الذي قد يلحق الغرب، لأنه شديد التقدم وشديد الرقي وبالتالي فإن انهياره سيكون له دوي كبير.
تدهور الغرب
هل تتصور، إذا، أن هناك علامات ومؤشرات علي تدهور الحضارة الغربية، (مستحضرا نظرية أزولد شبنغلر) في كتابه تدهور الغرب ، وبالتالي هل تعتقد أن الغرب علي شفا الانهيار فعلا؟
يجب أن لا نتغني بسقوط الغرب! هناك الكثير ممن يتمنون هذا ويحولون التمني إلي تنبؤ وإلي واقع. علي كل حال لهم مشاكلهم ولنا مشاكلنا والحياة صراع، وبالنسبة لنا هناك طموح للخروج مما نعرفه من مشاكل ولدينا أفكار تبحث عمن يحققها. ونحن عندما نتحدث مثلا عن العالم العربي أو الوطن العربي نتحدث عن مشروع مستقبلي غير موجود، الموجود الآن هو المغرب والجزائر وتونس ومصر والعراق... فالقطرية هي الواقع الموجود. ومجموع هذه الأقطار عندما تشبع من وطنيتها وقطريتها وتمتلئ منها، آنذاك سيقع التغيير. أنا سُـئلت مرة في أحد بلدان المشرق، لماذا لا يتحد المغرب والجزائر مع أنهما قريبان جغرافيا ومتكاملان اقتصاديا ومتشابهان ثقافيا. فكان جوابي أن الذي يمنعهما من ذلك هو عامل واحد، وهو أن المغاربة شبعوا من الدولة ولهم رغبة في التخلص منها، بينما إخواننا في الجزائر لم يحققوا بعد ذلك الإشباع. فالقطرية واقع وحقيقة لكنها ليست مشروعا مستقبليا، وعندما سيشبع كل منا من هذه القطرية ويتوصل بالملموس إلي أنها استنفدت أغراضها، آنذاك ستطرح فكرة العالم العربي نفسها بقوة، وستفرضها المعطيات الواقعية. علي أي حال يجب أن لا نيأس، فأبناؤنا قد يحققون ما نطمح إليه نحن، فهم أفضل منا وظروفهم تسعفهم. فلا يجب أن نقول إننا لا يمكن أن نلحق بالغرب
أنا أوافقك أن أولادنا سيكونون أفضل منا، في هذا الميدان، ولكن السؤال هو: هل تتصور أن أولادنا سيلحقون بهذا الركب؟ أقصد إلي أي حد سيتمكن أولادك وأولادي، بل وأحفادنا، من اللحاق بهذا الركب علي الصعيد الحضاري، وأنا لا أقصد الجانب الحضاري السطحي، بل الجانب الحضاري العميق، ولا سيما الفكري والعلمي والتكنولوجي.
علي صعيد اللحاق بالركب الحضاري، الأمر اليوم أسهل مما مضي. لأنه عندما يدخل الطالب إلي الكليات العلمية، يدرس العلم كما هو الآن، فهو غير مطالب بأن يطلع عليه من بداياته، إنه يطلع عليه في أعلي مستوياته، كما هو متداول في العالم المتقدم اليوم. فهو يلتحق بما وصل إليه العلم اليوم. فمن الناحية الحضارية والعلمية والتكنولوجية ليست هناك مشكلة، بالنسبة لمسألة اللحاق بالغرب، لأنك لا تبدأ من الصفر. فأنت تشتري التكنولوجيا في آخر مراحلها، وصانعها يحتاج إليك بنفس القدر الذي تحتاج إليه. وهكذا فإن علاقة السيد بالعبد تظل قائمة.
أنت هنا تتطرق إلي قضية مهمة، ذكرتها في مناسبات سابقة، أرجو إيضاحها! فعندما تتحدث عن العلاقة بيننا وبين الآخر، باعتبارها علاقة تـُطابق علاقة العبد بالسيد، فإن من الطبيعي والواجب أن يخدم العبد سيده. أهذا ما تقصده؟
لا، ليس كذلك! أقصد أنه لا يوجد سيد بدون وجود عبد، فهو سيد علي بوجودي أنا . فإذا ذهبتُ أنا لم يعد هناك سيد. أي أن كونه سيدا مشروط بوجودي، فإذا غيرت بعض شروط وجودي تغير هو أيضا. إن هذه المعارف التي سنحصل عليها بصيغتها الأخيرة، ستسهم في تغيير شروط وجودنا وبالتالي ستغير الآخر وتغير العلاقة القائمة بيننا وبينه. فالعبيد في روما، لما ثاروا، تغير العالم كله ولم تعد هناك إمبراطورية. نحن يمكن أن نحقق اليوم الثورة بواسطة امتلاك العلم والمعرفة. والمؤشرات علي أننا بدأنا في ولوج هذا الطريق واضحة، لا تحتاج إلي كد الذهن من أجل إبرازها. فالعلماء العرب في الكثير من الدول يضاهون كبار العلماء الغربيين، ولهم سمعة جيدة في المعاهد العلمية الأوروبية والأمريكية وغيرها.
ويجب الإقرار بأن العالم اليوم يختلف عما كان عليه بالأمس. والفرص علي المستوي العلمي أصبحت في متناول الجميع، المسألة التي لا تقبل إضاعة الوقت. إنها مسألة تطوير الوعي؛ أي نظرة الناس إلي الدين، إلي العالم، إلي الكون، إلي القبيلة، إلي الغنيمة... في هذه المجالات بالضبط يجب الاشتغال ونحن مطالبون هنا بالكثير.
هذه أمور أساسية فعلا. انطلق منها لأشير إلي بعض كتاباتك عن تحويل الفكر العلمي إلي ثقافة. ولمن لا يعرف ما أقصد، أقول إن ذلك يعني حسب فهمي، عدم الاكتفاء باستقاء المعلومات العلمية أو الحضارية وحفظها أو تطبيقها في المعامل والمختبرات، بل يتعين التفاعل معها وهضمها وتمثيلها، لتصبح جزءا من شخصية المتعلم أو المثقف، وبالتالي تحويلها إلي جزء من الثقافة السائدة في المجتمع. هذا المفهوم الذي طرحته في بعض كتاباتك يدل علي نضج وعمق في التفكير. بيد أن الواقع يدل علي عكس ذلك، أي أن هذا العلم الذي تحمله النخبة لم يتحول إلي ثقافة بعد!
سيتحول شيئا فشيئا، فقد تحول هذا العلم إلي ثقافة مع أولادنا. فولدي الصغير الذي درس في أمريكا يختلف عني من حيث الثقافة. لذلك يجب أن لا نربط التاريخ بواقعنا وإحباطاتنا.
الفكر كأداة وليس مضمونا
لقد عالجتَ، بل نبهتَ، ربما لأول مرة، إن لم أكن مخطئا، إلي ما سميته بـ الفكر كأداة وليس كمضمون، وتمييزكم بين المفهومين كان ماهرا دقيقا. وقمت بذلك خاصة في كتابك الأول في سلسلة نقد العقل العربي ، وهو تكوين العقل العربي ، الذي اعتبره كتابا فكريا أساسيا، يتميز بأهمية كبيرة، ويعترف بذلك ناقدك الأشد، جورج طرابيشي، في بداية اطلاعه علي كتاباتك، الذي يقول: إن الذي يطالع تكوين العقل العربي ، لا يبقي كما كان قبلها. فنحن أمام أطروحة لا تـثـقـف وحسب بل تغير . وقد حدث لي ذلك شخصيا بالفعل. فأنا اعتبر نفسي قد تغيرت بعد أن قرأت هذا الكتاب. وأوحي إلي َّ كثيرا من الأفكار التي اعتبرها جديدة. واسمح لي أن أقول إن هذه الأفكار قد تتقاطع أو تـُكـَمـِّل بل ربما تغير أحيانا، في مفاهيم العقل التي استخدمتها أنت ومفاهيم تطوير المجتمع. مثلا: لقد تحدثت في كتابك عن العقل كأداة ، ولكنني وضعت مفهوما آخر سميته العقل المجتمعي ، وهو ليس أداة، بل هو مضمون مجرد من الأداتية، ولكنه يتحول إلي أداة عندما يعبر عنه الأفراد، الذين يعيشون في ذلك المجتمع، والذين يخضعون لذلك العقل المجتمعي ، بلا وعي في الغالب؛ يعبرون عنه بـ عقلهم المنفعل والمتأثر بذلك العقل المجتمعي. والنقطة المهمة الأخري التي تحدثت عنها تتعلق بالثقافة العالـِمة (بكسر اللام)، ولم تتحدث عن الثقافة الشعبية، باعتبارها اختصاصا آخر، وربما وضعتها في المقام الثاني. ولكنني أضع هذه الثــــقافة الشعبية في المقام الأول، وأري أنها اكثر أهمية من الثقافة العالـِمة (بالكسر) بل اعتبرها من أهم مكونات العقل المجتمعي. ذلك لأن لديَّ كثيرا من الأمثلة المأخوذة من مجتمعنا العربي عامة ومجتمعي العراقي خاصة، كما أن لديكم الكثير منها. مثلا: زيارة العتبات المقدسة أو التبرك بالقبور وتقديم النذور والأضحيات، وهذه الأمور ليس لها علاقة بالدين، بل قد تقترب من الشرك، وربما تعود إلي شعيرة عبادة الأجداد التي كانت وما تزال سائدة، لدي المجتمعات البدائية. (توسعت قليلا في شرح بعض هذه النقاط اكثر مما ورد في الأصل بغية إيضاح بعض المصطلحات غير المألوفة لدي القراء).
كن علي يقين أن كل المعتقدات والممارسات الشعبية الموجودة، لابد أنها كانت في مرحلة سابقة ثقافة عالِمة مؤيدة بأحاديث، موضوعة أو غير موضوعة، مزورة أم لا، هذا غير مهم، لكنها موجودة. كما أنها مؤيدة بتفسيرات تلقي القبول من طرف الناس رغم هشاشتها. فالثقافة العالمة هي المنبع الذي جاء منه كل ذلك. كل ما نراه اليوم في وسائل الإعلام من بكاء ولطم، تجد له أحاديث منسوبة لجعفر الصادق ينسبها لعلي بن أبي طالب. بينما هذا الفكر، سواء لبس لباسا شيعيا أو صوفيا أو سنيا هو، كما بينت في بنية العقل العربي ، كله فكر هرمسي. نحن إذن في حاجة إلي الكشف عن الأصول الحقيقية لهذا الفكر. وعندما سنقوم بهذا النوع من الحفر والتنقيب في البنيات الفكرية، سنحقق التغيير المنشود والذي يمس صانعي الثقافة الشعبية ذاتها. هذه الثقافة الشعبية كما تبرز اليوم هي إيديولوجيا متخلفة لاستغلال الجماهير من طرف السيد، وعندما نقوم بفضح السيد ونكشف بأن سيادته مبنية علي الأوهام التي يؤمن بها هو الآخر، أو يعرف بأنها مزورة هذا لا يهم، فنحن نكشف الأسس التي يراد تركها خفية علي عامة الناس، وهذا يتطلب وقتا طويلا لأن الثقافة الشعبية هي أصعب ما يغير، هي عادات وأعراف لم تخضع للتفكير والنقد. فعندما نحفر عن جذورها ونكشف عنها آنذاك سيصبح التغيير ممكنا. أما أن نهاجمها مباشرة فهذه استراتيجية قد يتولد عنها رد فعل للرأي العام قوامه الرفض والتشكيك في الخلفيات التي هي علمية صرف.
تحدثت في كتابك العقل السياسي العربي عن ثالوث القبيلة والغنيمة والعقيدة. وكنتُ (أنا) قد كتبتُ بحثا استـــندت فيه علي بعــــض هذه المفاهيم، في إثبات نـــظريتي الخاصة (بأن العرب بعد الفتوح الإسلامية انتقـــلوا من مرحلة البداوة إلي مرحلة التحضر، وهناك فــــرق بين التحضر (أي سكني المدن)، والحضارة بمعناها السائد اليـــوم، كما تعلم. هذه النقـــلة الفجائية والسريعة، لم تتح لهم الفرصة للمرور بمرحلة الزراعة. لذلك ظلوا محافظين علي البنيات القديمة، وخاصة العقلية البدوية، لأنهم لم يمروا من الطور الرعوي إلي الزراعي إلي الصناعي، ما رأيك؟ (لأنني أري أن مرحلة الزراعة مرحلة مهمة للقضاء علي القيم البدوية).
عقلية القبيلة والغنيمة
هذا التقسيم ليس من الضروري أن نمر به، لأنه تقسيم مستخلص من التــــجربة الأوروبية. والمطالبة بأن يكون تاريخنا علي هذا الشكل نوعاً من المطالبة بأن يكون كل التاريخ نسخة من التاريخ الأوروبي.
ولكنكَ، أنت نفسك، أكدت في كتاباتك أن عقلية القبيلة والغنيمة ما تزال باقية حتي اليوم، وهذه الأمور من بقايا العقلية البدوية أو الرعوية.
هناك خاصية مهمة يجب الالتفات إليها، وقد لاحظها ابن خلدون في زمانه، وهي أن العرب في الجزيرة كانوا قادة جيوش وعندما يأتون إلي المغرب أو غيره من الدول العربية والإسلامية، يكونون قلة تمسك مقاليد الحكم. والباقي ممن يساهمون في التسيير معهم يكونون من سكان البلد الذي خضع للفتح، لأنهم بمجرد دخولهم الإسلام تصبح لهم كل الحقوق، ويصبحون شيئا فشيئا هم كل شيء، علي خلاف الإمبراطورية الرومانية مثلا. فالذين صنعوا الحضارة العربية الإسلامية ليسوا بالضرورة عربا من الجزيرة، وهذا هو المهم لأنه يكشف عن مدي الانفتاح الذي كان في هذه المرحلة.
اللافت للنظر أن العرب الخليجيين اليوم يمرون بنفس المرحلة التي مر بها المجتمع العربي، بعد الفتوح العربية الإسلامية، في القرن الأول للهجرة، أي أنهم انتقلوا من مرحلة البداوة إلي مرحلة التحضر (وليس الحضارة) دون المرور بمرحلة الزراعة.
نعم ما زالوا بدوا. وأنت تعلم ما كتبته في العقل السياسي العربي؟
هذا بالضبط ما أقوله، أي أنهم ظلوا خاضعين للقيم البدوية فيما يتعلق بقيم القبيلة والغنيمة التي ذكرتها في كتابك هذا.
عرب الخليج لا يمكن أن يتطوروا حضاريا كصناع ومنتجين، بل يمكن أن يكونوا تجارا ومضاربين كما كانوا وكما هم اليوم، مع فارق وهو أنهم أصبحوا مستثمرين كذلك بالمعني العصري للكلمة. وهنا نعود إلي انطباق مفهوم الغنيمة عليهم. ونحن نلاحظ أن هناك تفاوتا كبيرا بين مجموعة البلدان العربية الشمالية، مثل سورية ومصر والعراق، ومجموعة بلدان الخليج. ففي المجموعة الأولي، يتوافر الخبراء والاختصاصيون، بينما تتوافر لدي المجموعة الثانية الثروة. وهذا التصنيف هو وليد ظروف تاريخية. فصحراء الجزيرة ليست كسواد العراق ولا كضفاف النيل. واعتقد أن أكبر خطأ ارتكبه التيار العربي القومي منذ الخمسينيات هو أنه نادي بشعار نفط العرب لكل العرب. فانتفضت بلدان الخليج وشعرت بالخطر علي مصالحها، فاتجهت نحو الإسلام، بدل القومية العربية. فالقومية العربية والبلدان العربية دفعت ثمن هذه الأخطاء. فالأخطاء تحصل ولكن من المهم أن نعيها ونتعلم منها. فزعماء الأمة ارتكبوا أخطاء بمن فيهم عبد الناصر في اليمن مثلا، وكذلك العراق عندما احتل الكويت، ومع ذلك فالأمور تمشي، ومن حسن حظ الإنسان أنه ينسي، ولولا النسيان لما استطاع الإنسان أن يعيش.
من جهة أخري، الأمر اللافت أن عدد الجامعات في البلدان العربية في الخمسينيات كان لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، اليوم أصبح عدد هذه الجامعات قرابة 2 مليون من المتعلمين، ولكن هذا الجيش الجرار من الخريجين لم يقدم إلي الوطن العربي ما يمكن أن يساعده في إحياء نهضته الموؤوودة بالخلاص من التخلف والسير نحو الحضارة، بل زادت الأوضاع تفاقما خلال القرون الخمسة الماضية. كما لم يقدم، هذا العدد الكبير من الخريجين، إلي العالم أي إنتاج علمي أو تكنولوجي أو فكري خارق، تستفيد منه البشرية جمعاء.
الإنتاج غير موجود لأن وسائل الإنتاج غير موجودة، وهنا يجب أن نستحضر القهر الغربي وما فعله لمنع وقوع ذلك. نذكر جيدا أنه في الخمسينيات والستينيات كان هناك منع مطلق للتكنولوجيا علي العالم الثالث بأسره بما فيه العالم العربي، وحتي إذا ما أعطوا شيئا فهم يعطون مؤسسة بالمفتاح حتي لا يتسرب أي معطي علمي لدولة من هذه الدول، ولذلك يجب أن نعلم بأن هناك ظروفا قاسية وليست بالسهلة.
من الملوم؟
كأنني أشعر، أو أفهم، أنك تلقي باللائمة، في هذا التخلف الذي نعاني منه، علي الآخر اكثر مما تلقيه علينا كشعب فشل في تحقيق نهضته مما أدي إلي وصولنا إلي هذا الوضع المأساوي الماثل في مختلف أرجاء الوطن العربي، ولا سيما في فلسطين والعراق ، في وقت نهضت فيه بلدان آسيوية أخري، كانت تعاني من التخلف أكثر من مثيلاتها في الوطن العربي، قبل أربعة عقود، علما بأن جميع بلدان النمور الآسيوية، لا تملك من الثروات الطبيعية شيئا يذكر.
طبعا، إن دور الآخر لا يمكن أن يُنكر في إعاقة مسيرتنا. وأنا هنا لا ألقي اللوم علي الآخر رغبة في تبرئة الذات، ولكننا لا يمكننا أن ننكر دور الاستعمار والمبادئ التي قام عليها والثروات التي نهبها لسنوات طويلة، والتي اتخذها وسيلة لحل المشاكل التي كانت مطروحة عليه. لقد كانت تنبؤات كارل ماركس علمية، حيث ذهب إلي أن تناقضات الرأسمالية ستؤدي إلي نوع من الانفجار في أوروبا، وهذا ما لم يقع، لماذا؟ لأن أوروبا أخذت الأموال من المستعمرات وحلت مشاكل العمال هناك، بإعطائهم حقوقهم. هنا مرة أخري تبرز ثنائية العبد والسيد، وهذا الأخير الذي استعمرنا ترك قسطا من الحضارة، قلدناها علي مستويات عدة، كان أبرزها الفكر. فالبعض درس في فرنسا والبعض الآخر في إنكلترا، فكانت هناك منافذ استطعنا الولوج من خلالها، أشياء لم يكونوا يتوقعونها، وهذا ما سماه هيغل بمكر التاريخ. ففي المغرب مثلا، كان الذين درسوا في فرنسا وكونـَّهم الأوروبيون، أي الرواد الذين دخلوا جامعات أوروبا وارتبطوا بالفكر الأوروبي مبكرا، هؤلاء كانوا هم القوات الوطنية التي قاومت الاستعمار وفاوضته فيما بعد لتحقيق جلاء المحتل عن أوطاننا. وهذا نفسه هو ما وقع في مصر وسورية وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية الأخري. يجب أن لا ننسي، كما قلت سابقا، أن أوروبا قضت ثلاثمئة سنة لتحقيق نهضتها بدون آخر مثبط، بينما المشكل عندنا نحن هو وجود هذا الآخر الذي يري بأن من مصلحته أن نظل علي ما نحن عليه. وحالة الاتحاد السوفييتي خير مثال علي الدور الذي يمكن للمثبـِّط أن يقوم به. فسقوط الاتحاد السوفييتي إضافة إلي العوامل الداخلية التي لا يمكن إسقاطها أثناء عملية التحليل، يرجع كذلك إلي العوامل الخارجية ممثلة في الحصار الذي ضرب عليه وإلي التخطيط من قبل معسكر كامل يضم الكثير من الدول، وأظن أن هذا المثال كاف لتوضيح ما أقصده بلفظ المثبـِّط.
وجود إسرائيل كخنجر مغروس في جسد الوطن العربي، أدي وسيؤدي علي نطاق أوسع إلي كارثة علي صعيد مستقبل هذه الأمة ومصيرها. ففي أفضل الاحتمالات، لو تكرمت إسرائيل وتفضلت بمنح الفلسطينيين ربع أو نصف شبه دولة مزورة، محاصرة ومقطـَّعة الأوصال، وهي تسيطر علي جميع حركاتها وسكناتها، واضطر الشعب الفلسطيني إلي الموافقة علي ذلك، لأن البديل هو ما يحصل له اليوم من أهوال القتل والتشريد والتجويع والقهر؛ في هذه الحالة سيحصل التطبيع مع بقية أزلام الأنظمة العربية المهروِلة والمتعطشة للتعامل مع إسرائيل بأي ثمن. وبذلك تسيطر إسرائيل علي مقدرات الأمة العربية ومصيرها، لأنها تملك أهم أوراق اللعبة: العلم والتكنولوجيا والفكر والاقتصاد المتطور، خصوصا لأنها ستستفيد من الثروات الطبيعية، لا سيما النفط، والبشرية، بما فيها الأيدي العاملة الرخيصة، الموجودة لدي بعض البلدان العربية، التي تتجاوز نسبة البطالة فيها 2 مليون نسمة، بل ربما، وتصريف بضائعها في السوق العربية التي تجذب إليها العقول العربية المتميزة، التي قد تخضع لإغراءات المال والامتيازات التي لا توفرها لها بلدانها. وهكذا يتفجر الاقتصاد الإسرائيلي ويزدهر علي حساب العرب الذين سيحصلون علي الفتات.
هذا الوضع متوقع تبعا للمعطيات السياسية الراهنة. ولكن ليس من حقنا أن نحكم علي ما سيحدث. بعد أربعين سنة قادمة من خلال اللعبة التي تـُلعب الآن. علي أي شيء تستند إذا في استشرافك للمستقبل؟
ألقيت محاضرة قبل عقدين أو يزيد قلت فيها إنني أراهن علي أن دولة إسرائيل ستختفي بعد خمسين عاما. ولكن محمد حسنين هيكل، يقول عكس ذلك تماما؟
ذلك رأيه. أما أنا فرأيي في أن إسرائيل ستنتهي بعد خمسين عاما. وقد كنت أعطيت لمشروع إسرائيل الذي كان يطمح لمد الدولة من النيل إلي الفرات، عشرة أعوام، وأنتم تلاحظون انه لم يعد موجودا الآن.
الله يسمع من حلقك ، كما نقول في العراق، ولكنني غير متفائل إلي هذا الحد؟
أرجو أن نلاحظ أن النظرة إلي التاريخ والمستقبل يجب أن لا تبني علي المعطيات السياسية الجارية الآن من مفاوضات وتطبيع وغيرهما. بل أنا أتوقع للمؤتمر القومي العربي أن يكون نسخة من المؤتمر الصهيوني الذي انعقد قي بازل في عام 1898 حين تأسست الحركة الصهيونية. وأنا أشبه الحركة الصهيونية بحركة القومية العربية. فمع أن اليهود استخدموا جميع طاقاتهم بما فيها علمهم وذكاؤهم وسيطرتهم علي الغرب اقتصاديا وإعلاميا وعلميا واستغلالهم للعوامل الدينية ولحدث المحرقة (الهولكوست). ومع مرور اكثر من مئة عام علي إنشاء هذه الحركة ، فإن إسرائيل ما تزال علامة استفهام. فهي قد فشلت في تحقيق أمنها ولم تحقق حلمها، كما بنت الجدار العازل حولها، ولم يبق لديها إلا البحر. فكما أن إسرائيل حققت هذا القدر من الوجود، أنا اعتقد أن الحركة القومية العربية التي تحلم بتحقيق وحدة عربية ستكون لها بعد قرن فرصة لتحقيق هذا الحلم أكثر مما تحقق لإسرائيل، فحلم إسرائيل انتهي كما أري أن إسرائيل قد انتهت تاريخيا.
أنا أتمني أن أتمكن من ان أحلم مثلما تحلم يا سيدي الكريم، ولكنني أخالفك الرأي. ذلك لأن أحلامي قائمة علي أساس علمي وعلي أساس واقعي. لأن من المستحيل أن نستشرف المستقبل دون أن ننظر إلي الماضي والحاضر لأن ا لحاضر هو امتداد للماضي والمستقبل هو امتداد للحاضر . فإسرائيل لديها، سبع جامعات فقط ،ومع ذلك فهي تفتح فتوحات عظيمة في عالم الفكر والمعرفة والتكنولوجيا، التي تغني الصناعة الإسرائيلية وتذكيها.
أنا لا أتكلم عن إسرائيل في علمها وقنابلها، بل إسرائيل كمشروع سياسي، فهي كدولة وكمشروع سياسي بلغ نهايته، ولا يمكن أن يستمر.
ولكنها جزء من الغرب، بل الغرب نفسه؟
والغرب نفسه بلغ نقطة السؤال: إلي أين؟
سؤالي إذا: هل أنت تعتقد أن الغرب سائر نحو الهاوية؟
نعم، إما الهاوية أو إعادة تكوين. لاحظ أن التاريخ يصنعه الحمقي أحيانا، بمن فيهم بوش والمحافظون الجدد. وقد مرت مرحلة الحمقي، وقد تأتي مرحلة أخري غيرها. لاحظ أن إسرائيل أصبحت ثقيلة علي كثير من الأوساط في أمريكا وأوروبا ولم يعد العطف عليها حقيقيا. بل ظهرت حركات مناوئة لإسرائيل في بعض البلدان الأوروبية ولا سيما ألمانيا وفرنسا، مما يعني أن صبر الغرب قد نفد. ونلاحظ أن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ذكر كلمة حق، في وسط كلام أحمق، حيث قال: إذا كان الأوروبيون ما يزالون يحملون عقدة الذنب إزاء اليهود، فليستقبلوهم في أراضيهم و يمنحوهم دولة . وعندما سمع الأوروبيون هذه الكلمة اهتزت ذاكرتهم وأيضا عقولهم وضمائرهم.
ولكنني أنطلق في كلامي من واقع قائم اليوم وهو أن العرب اليوم أصبحوا خاضعين للآخر بل أصبحوا أذلاء صاغرين، يأمرهم فيمتثلوا له؟
لا، لا أوافقك في ذلك، بل هناك مقاومة عنيفة، فهناك من يستشهد كل يوم في سبيل طرد الأجنبي، خاصة في العراق وفلسطين. ولم يحصل في التاريخ مثل هذه المقاومة حيث تحول فيها الإنسان إلي قنبلة لا يمكن للآخر أن يحسب لها حساباً. وليس من المهم أن يكون ذلك تحت غطاء الإسلام أو غيره.
حتي لو أوافقك جدلا في أن هناك مقاومة مبشرة، ولكنني أري أن الأمور قد تصبح أكثر سوءا إذا تمكنت هذه المقاومة من طرد المحتل، أو من الاستيلاء علي مقاليد الحكم. وسؤالي إليك هو: إذا فرضنا أن هذه المقاومة العراقية قد نجحت في طرد المحتل، فماذا سيحدث في العراق في أعقاب ذلك؟ وأنا لا أقصد بذلك، معاذ الله، تأييد الاحتلال، بل أريد أن أقول إننا نظل نختار بين شرين أحلاهما مرُّ، أو كالمستجير من الرمضاء بالنار.
أنا أوافق صديقي الدكتور خير الدين حسيب الذي قال لي أمس إنه عاش الحرب الأهلية في لبنان التي انقضت وأصبح لبنان شيئا آخر، والعراق سيصـــبح شيئا آخر حتي إذا حدثت حرب أهلية. ولِـم لا؟
وحين نبهني صديقي الأستاذ الحضري إلي أن الوقت المخصص للحوار قد أزف، قلت معقبا:
مع أن لديّ سيلا من الأسئلة الأخري ، بيد أنني سأكتفي بهذا القدر، علما بأن كثيرا من كتاباتك تستحق الاستيضاح والتعليق، لا سيما وأني ما أزال اقرأ بعض فصول منها، علي الرغم من أنني سبق وأن قرأتها عشرات المرات!!
لا بأس عليك فقد قرأ ابن سينا بعض كتب أرسطو أربعين مرة!
وبهذه العبارة، التي تضمر قياسا مع الفارق، وربما تنطوي عن إطراء مزدوج، قد يستحقه المفكر الجابري، ولا يستحقه كاتب هذه السطور، اختتمنا هذا اللقاء المثير والثرّ.