15 أغسطس 2008
د. عبد الوهاب المسيري
بالتزامن مع ذكرى مرور 60 عاماً على قيام الدولة الصهيونية، وذكرى مرور 41 عاماً على حرب عام 1967، صدر تقرير بعنوان "ثمن الاحتلال... عبء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني: صورة ومعطيات شاملة 2008"، عن "مركز المعلومات عن المساواة والعدالة الاجتماعية" (أدفا)، وهو أحد المراكز البحثية المرموقة في إسرائيل.
ويرصد التقرير، الذي أشرف على وضعه عالم الاجتماع الإسرائيلي "شلومو سبيرسكي"، جوانب مختلفة من الآثار التي تعانيها الدولة الصهيونية من جراء استمرار احتلال الأراضي العربية منذ عام 1967، ويقدم في سياق هذا الرصد صورة قاتمة تتناقض تماماً مع الأجواء الاحتفالية التي صاحبت الذكرى الستين ومع المقولات التي تُجتر عادةً في مثل هذه المناسبات عن "الانتصارات والإنجازات" التي حققتها الدولة الصهيونية بالرغم من التحديات الهائلة التي تواجهها داخلياً وخارجياً.
|
ويبين التقرير، من خلال بيانات وإحصائيات موثقة، أن التجمع الاستيطاني الإسرائيلي دفع وما زال يدفع "ثمناً باهظاً" للاحتلال المستمر، وهو ما ينعكس بشكل جلي على جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعسكرية والسياسية. فعلى المستوييْن الاقتصادي والاجتماعي، مثلاً، يرى التقرير أن استمرار الاحتلال يستلزم تخصيص الجانب الأعظم من الموارد للأغراض العسكرية والأمنية، مما يؤثر سلباً على التنمية الاقتصادية وبرامج الرعاية الاجتماعية، ويؤدي بالتالي إلى تفاقم الفجوات الاجتماعية بين السكان وتزايد حدة الأزمات المعيشية لدى الشرائح الدنيا. ويشير التقرير إلى أن عائلة واحدة من بين كل خمس عائلات إسرائيلية تعيش حالياً تحت خطر الفقر، بينما كانت النسبة في عام 1970 هي عائلة واحدة من بين كل 10 عائلات.
ولا تقتصر الآثار الاقتصادية، التي يرصدها التقرير، على تلك الفجوات فيما بين فئات السكان والقطاعات المختلفة داخل الكيان الصهيوني، بل تمتد لتخلق فجوةً بين الدولة الصهيونية ودول أخرى في المحيط الإقليمي والعالمي. ففي الفترة من عام 1997 إلى عام 2006، بلغت نسبة النمو الاقتصادي في الدولة الصهيونية حوالي 43 بالمئة، وهي نسبة متدنية إذا ما قُورنت بمعدلات النمو في بلدان أخرى في أوروبا وآسيا، حيث بلغت النسبة في بلدان الاتحاد الأوروبي حوالي 68 بالمئة، وفي الهند 139 بالمئة، بينما وصلت في دول الخليج إلى 174 بالمئة، وفي الصين إلى 193 بالمئة.
ويسلط التقرير الضوء على الآثار التي خلفتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) والانتفاضة الثانية (2000) على اقتصاد الدولة الصهيونية، موضحاً المشاكل التي عانت منها القطاعات الاجتماعية والتعليمية والصحية من جراء تزايد الأعباء العسكرية والأمنية. ففي غضون الفترة من عام 1987 إلى عام 2008، تزايدت المبالغ المخصصة لإحكام السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة ومواجهة المقاومة الفلسطينية المتصاعدة، حتى وصلت إلى 35 مليار شيكل (أي ما يعادل حوالي 10 مليارات دولار)، كما بلغت الميزانية المخصصة لتنفيذ خطة "فك الارتباط" عن قطاع غزة في عام 2005 نحو تسعة مليارات شيكل، بالإضافة إلى نحو 13 مليار شيكل لبناء الجدار العازل. وكان من الطبيعي أن تؤدي زيادة المخصصات العسكرية والأمنية إلى تقليص الميزانية المخصصة لقطاعات أخرى حيوية. فخلال الفترة من عام 2001 إلى عام 2005، تقلصت الميزانية المخصصة لرعاية الأطفال بنسبة 45 بالمئة، وميزانية رعاية المسنين بنسبة 25 بالمئة، وميزانية التعليم العالي بنسبة 19 بالمئة، كما خُفضت الميزانية المخصصة لمواجهة البطالة ورعاية العاطلين عن العمل بنسبة 47 بالمئة.
ويرى التقرير أن هذا الخلل المتمثل في زيادة المتطلبات الأمنية على حساب المتطلبات الاجتماعية، أدى باقتصاد الدولة الصهيونية إلى الوقوع تحت وطأة "ركود ثقيل" من المتوقع أن يستمر لسنوات أخرى قادمة. ويكتسب هذا القسم من التقرير أهمية قصوى على وجه الخصوص بالنظر إلى الأصوات التي تتعالى من حين لآخر في الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام العربية، مشككةً في جدوى المقاومة وداعيةً الشعب الفلسطيني إلى الانضمام إلى قوى "الاعتدال" و"التعقل"، وهو ما يعني في نهاية المطاف القبول بالأمر الواقع والرضوخ لهيمنة الاحتلال الصهيوني والتخلي عن الحقوق المشروعة في الحرية والسيادة.
وينتقل التقرير إلى استعراض جانب آخر من آثار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية منذ عام 1967، ويتمثل في الأضرار التي لحقت بالجيش الإسرائيلي وبمكانته وبثقة الرأي العام فيه. ويرى التقرير أن المهمة الرئيسية لهذا الجيش أصبحت تنحصر في إحكام السيطرة على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما ينطوي عليه ذلك من استخدام أبشع أساليب التنكيل والقمع والتدمير والقتل، وهو الأمر الذي أدى إلى زعزعة مكانة الجيش باعتباره كياناً يُفترض أن يحظى بإجماع عام يتجاوز الاعتبارات السياسية والتباينات الفكرية. ويرصد التقرير تنامي الحركات الرافضة لممارسات الجيش الإسرائيلي، من قبيل الاعتراض على الخدمة العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحركة "نساء في السواد" المناهضة للاحتلال، وحركة "السلام الآن" وغيرها.
ويخلص التقرير إلى أن "النزاع مع الفلسطينيين أشبه بحجر الرحى على عنق إسرائيل... فهو يقوِّض نموها الاقتصادي، ويثقل كاهل ميزانيتها، ويحد من تطورها الاجتماعي، ويشوِّش رؤيتها، ويضر بمكانتها الدولية، ويستنزف جيشها، ويفتت ساحتها السياسية، ويهدد مستقبل وجودها كدولة قومية يهودية، بالإضافة إلى أن يؤدي إلى مقتل وإصابة آلاف الفلسطينيين. ومن ثم، فإن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً من جراء استمرار النزاع والتلكؤ في تطبيق حل يستند إلى تسوية عادلة ومتفق عليها".
وتعيد هذه النتيجة إلى الأذهان ما رواه القائد العسكري الفرنسي بوفر، الذي قاد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، من أنه ذهب يهنئ إسحاق رابين بانتصاره العسكري في يونيو 1967، وذلك بعد بضعة أيام من انتهاء المعارك، وكانت القوات الإسرائيلية لا تزال في طريق العودة إلى قواعدها، ولكن القائد الفرنسي دُهش حين وجد رابين يبادره بالسؤال وهو في قمة انتصاره: "ولكن، ماذا سيتبقى من كل هذا؟".
لم تنجح الدولة الصهيونية، إذن، في ترسيخ وجودها بالمنطقة وفي إخضاع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لمشيئتها رغم ما حققته من توسع بقوة السلاح وما قدمته بعض الأطراف العربية من تنازلات في سياق الركض وراء أوهام التسوية. وإذا كانت هذه هي النتيجة التي يسوقها باحثون إسرائيليون بعد ستين عاماً من قيام الدولة، فالأجدر بالعرب المعجبين بالنموذج الإسرائيلي أو الداعين إلى قبوله وعدم التصدي له أن يعيدوا النظر في صحة مقولاتهم، إن لم يكن بدافع من الاعتبارات الوطنية ومصالح الشعوب العربية، فعلى الأقل بدافع الخجل في مواجهة الحقائق الساطعة التي لا ينكرها الصهاينة أنفسهم.
والله أعلم.