جهاد فاضل
جريدة الرياض
25 أغسطس 2005
قد يضع قارئ الكتب الثلاثة الصادرة حديثاً في بيروت للدكتور عبدالله العروي تحت عنوان «خواطر الصباح» في باب الكتب الرديئة.. ذلك أنها عبارة عن خواطر سياسية في الأعم الأغلب، أو تعليقات له على ما يسمعه في الراديو أو يقرأه في الصحافة، أو يشاهده في الفضائيات.. وهذه الخواطر، أو التعليقات، مضى زمن طويل عليها (من عام 1967 إلى عام 1999) ولا يمكن أن تؤدي خدمة تذكر لقارئها، وأكثرها من نوع: «الجيش الإسرائيلي على مشارف بيروت» أو «روسيا لا تتحرك لإنقاذ العراق ولا سوريا ولا الفلسطينيين، لكنها تعمل جادة لمساندة الجزائر في النزاع حول الصحراء»، أو «طلبت تونس ثم الكويت عقد اجتماع طارئ لمجلس الجامعة، ولم يرد أحد»..
وقد يلحق هذا القارئ «خواطر الصباح» بروايات العروي التي تعذر على كثيرين الحاقها بعالم الروايات، وإعطاء صاحبها صفة الروائي، دون أن ينكر هذا القارئ على العروي أنه مؤرخ مغربي كبير ومفكر مغربي كبير.. ولكن «خواطر» العروي مع ذلك، لا تخلو أحياناً من ملاحظات فكرية أو أدبية أو ثقافية جديرة بأن يتمعن فيها القارئ، وأن يقرأها بعمق لأن صاحبها من عُمد دولة الفكر في بلاده.. وعلى الرغم من الروح النرجسية التي لا يصعب على القارئ التماسها في فقرات، أو في يوميات، كثيرة في الأجزاء الثلاثة من الكتاب، فإن مما يُحمد للعروي أنه يورد فيها أحياناً ملاحظات قاسية وجهها إليه آخرون، وإن كان يعتبر هذه الملاحظات بمثابة تجرؤ عليه، لا اعمالاً بسيطاً أو طبيعياً للناقد المتجرئ.
فقد ذكر انه عندما استدعاه عميد كلية الآداب في جامعة صفاقس ليناقش مع الأساتذة والطلبة الباحثين ما جاء في كتابه «مفهوم التاريخ» قبل الدعوة «على غير عادته».. وما كان له أن يقبلها لو توقع أن الجلسة ستكون مفتوحة للجميع، وانها ستتحول إلى مجابهة بينه وبين المفكر التونسي هشام جعيط.
المهم انه يورد بعض ما دار في تلك الندوة: «شارك في النقاش المغربي طه عبدالرحمن الذي يدرّس المنطق في جامعة الرباط.. سألني متجرئاً: هل أنت واع بمسلماتك الكثيرة وغير الدقيقة؟ هل التاريخ يسير بدافع ذاتي أم بقوة الغلبة والسلطان؟ هل التاريخ هو نظرية التاريخ؟ هل القطيعة أمر ممكن؟
ويعلق العروي على ملاحظة طه عبدالرحمن المتجرئة قائلاً: من يطرح مثل هذه الأسئلة يشهد على نفسه أنه لم يقرأ كتبي، أو لم يفهمها لأني لم أكتب إلا في شأنها.. ويضيف: «وطبعا الطلبة المبتدئون (إسلاميون) التدين شجعوه بتصفيقاتهم هم أقل اطلاعاً منه.. يقول انه يدرسه المنطق في حين انه يتقن صناعة المناظرة كما أرسى قواعدها المتكلمون بهدف قمع الفكر النقدي (إذا أورد.. نقل..) المهم في عين هؤلاء ليس تلمس الحق بل التشكيك.. يتظاهر البعض بهم التأصيل في حين ان الهدف الحقيقي هو احتواء الفكر الحديث.. كيف يدرك جعيط هذا الأمر البديهي؟»..
ولا يغفر لطه عبدالرحمن هذا التجرؤ، فيعود إليه في «صباحيات» أخرى..
يتحسّر المرء وهو يقرأ كتاب طه عبدالرحمن حول تجديد تقييم التراث إذ يتحقق أن مر السنين لا يزيد المثقفين العرب الا تقهقرا رغم ما يطالعونه من مؤلفات أجنبية وما يتلقفون من أفكار ينعتونها بالمستوردة.. لا يزيدهم الاطلاع إلا انكفاءً وانغلاقاً..
يقول المستشرقون بنوع من التشفي: لا إصلاح في الإسلام إلا بتجديد السنة بكل مكوناتها الفكرية والسلوكية والأخلاقية.. وبما أن التجديد تمنع، أو يعتبر بدعة وكل بدعة في النار، فالإصلاح بمعناه الشمولي ممتنع. من المؤسف أن يذهب المنطق بطه عبدالرحمن إلى أن يقف على الأرضية نفسها إذ يقول ان الإصلاح هو اكتساب آليات تكوين السنة ولا حاجة إلى ما سوى ذلك.. الفرق الوحيد بينه وبين المستشرقين هو انه يحوّل إلى مزية ما يعتبرونه هم نقيصة.. بل يجعل من المعادلة التي يقترحها عقيدة، بها يحكم على أقوال الناس، قدامى ومعاصرين، هل هي أصيلة أم منقولة.. عود على بدء، وحق التأسف!
ويعود إلى الثناء على الذات في فقرات كثيرة منها هذه «الصباحية»:
«يكتب هشام جعيط في رسالة له أنه قرأ في مجلة اليونسكو مقالي عن فون غرونباوم ورد غبريللي الذي لا يمثل في نظره التيار الغالب اليوم في صفوف المستشرقين».. ولابد لنا من جهة أن نُسمع صوت الثقافة العربية الإسلامية المتميز، ونعطي الدليل على اننا أدركنا سن الرشد.. لكن من جهة ثانية لا يمكن أن نهمل جمهور المستشرقين الذين يتابعون اعمالنا باهتمام، وفي حالات كثيرة يتفهمون اغراضنا اكثر مما يفعل مواطنونا.. اشاطرك الحرص على محاورتهم بلباقة ومرونة».
ويعلق العروي على رسالة جعيط بهذه الجملة: نعم يعرفك من لا يحتاج إليك، وينكرك من قد يستفيد منك..
على أنه يوقّر كثيراً المفكرالمغربي محمد عزيز الحبابي. فعند رحيله كتب في احدى «صباحياته»: «التحقت بكلية الآداب في الرباط وهو عميد فيها، أول عميد مغربي. رأيت عن كثب ماواجه من صعوبات وما بذل من جهد ليجعل من الكلية مؤسسة مغربية عصرية في وقت كان معظم أساتذتها إما فرنسيين وإما عرب مشارقة. يريد هؤلاء أن يحولوها الى «مدرسة» أزهرية، ويريد أولئك أن تظل فرعاً تابعاً لجامعة بوردو. لا يشك منصف انه اذا وجدت اليوم جامعة مغربية متميزة في بعض ميادين المعرفة، فالفضل في ذلك يعود إلى ارادة وتصميم المرحوم عزيز الحبابي».
وذكر ان الحبابي طرح جملة أسئلة: ماذا يميز الإنسان المسلم؟ المروءة كما يقول عرب الجاهلية ومعهم ابن خلدون؟ العبودية كما يدعي المتكلمون أعداء المعتزلة؟ الطاعة كما يؤكد الفقهاء والأدباء وعامة كتاب الدواوين؟ الغناء كما يسرّ أهل التصوف؟ التوكل كما يردد شيوخ الزوايا ويعتقد العوام؟ لقد نظر الحبابي في هذه الأجوبة بجدّ وتمعن، مولياً كل جواب ما يستحق من اعتبار، ثم انتهى الى الخلاصة التالية: ان اولى مسلماته (الإنسان، أي إنسان، شخصية) تفرض ألا يجدّ الإنسان إلا بالحرية، لا بصفتها حكماً شرعياً، أو منّة أو كشفا، بل بصفتها قوة كامنة في الفرد ملازمة له. لذا فضّل في آخر مراحل فكره أن يتكلم في فلسفة الغد. قال أحدهم إن الحكمة هي النظر في الحال لا في المآل. فدقق الحبابي العبارة قائلاً: الحكمة نظر في المآل حالاً. استطاع في النهاية أن يتشبع بما اتسمت به الماركسية والوجودية معاً من حيوية وابداع، وفي الوقت نفسه ظل وفياً لتراثه القومي ولعقيدته الموروثة والمعقولة في آن.
ويتحدث عن طه حسين: «قابلته مرة فقط. كان ذلك سنة 1961 بالقاهرة وهو عجوز في حاجة إلى رعاية دائمة. كنت آنذاك اشتغل كمستشار ثقافي لدى سفارة المغرب، وتم اللقاء في رحاب الجامعة العربية. تقدمت إليه فقال لي كلمة واحدة بحضور موظفين مندهشين: لا تفرطوا في الفرنسية»!.
فإذا انتقل الى بعض المعاصرين وجدنا له ملاحظات كثيرة محكمة أحياناً. فهو ينقل عن الأب قنواتي قوله: «اقرأ افتتاحيات حسنين هيكل كما أقرأ روايات الخيال العلمي».. ويعلّق عليها: إن ما يكتبه نوع من الخيال السياسي. نعم! هيكل ساحر نعوّم، يدغدغ عواطف من؟ رئيسه أم شعبه أم الأعداء؟
ومن ملاحظاته حول التعريب في بلاده: يقول بعضهم: التعريب هو التقهقر، العودة الى القرون الوسطى، هو تحجيب النساء، هو التخلف الاقتصادي، هو التقوقع الثقافي.. الخ.. الخ.. في هذا الكلام الكثير من الحق وكثير من الباطل. لقد سبق لي ان قابلت انا ايضاً الاغتراب بالاعتراب، واصبحت لا اتكلم عن التعريب فقط، بل أقيده بالتحديث، مميزاً بين التعريب اللغوي والتعريب الفكري والثقافي. ما أطالب به هو لغة توحدنا حتى ولو ميّزتنا عن اخواننا في المشرق. من هنا الدعوة الى التبسيط واصلاح الرسم والاملاء الا ان من يقود الحملة ضد التعريب، وأكثرهم من كبار الموظفين، لا يريدون التوضيح، مصلحتهم في التعتيم الذي هو أصل الداء.
كتب عبدالله العروي ملاحظاته هذه في أمكنة كثيرة: في المغرب، في أوروبا، في أميركا. تقول خاطرة له في أميركا: «زارني عبدالباقي الهرماسي التونسي المقيم الآن في جامعة بركلي ترافقه فتاة جميلة شقراء سكندينافية الشكل. كلّمني عن كتابي الأيديولوجيا العربية المعاصرة. قلت له: إن البلد الوحيد الذي كان مستعداً ذهنياً لتقبل فحوى الكتاب هو تونس. ربما بسبب تجذر الحركة الاصلاحية فيها منذ عهد خير الدين. ثم غيّرت فجأة مجرى الكلام وأطنبت في مسألة الأخلاق العمومية. قلت: ظن الناس انني قسوت على العرب، وبخاصة على المثقفين. وهذا غير صحيح. اكتفيت بفضح خلل فكري وسكت عن الخلل الأخلاقي وهو أخطر. انظر الى سلوكنا جميعا، كبارا وصغارا، رجالا ونساء.. أين الأمانة؟ أين الصدق؟ أين الجرأة؟ أين الاستقامة؟ كانت ثورة غضب غير مقوقعة مني، قد يكون باعثها ما أقرأ عن الشرق الأوسط وما ألاحظ حولي من مسؤولية ومن وعي بالواجب»..
ومن ألطف ما يلاحظه حول اسبانيا، جارة المغرب أنها انغمست في أوروبا متناسية كل ما كانت تتأسى به من فرادة وأصالة وستر ورسالة لقد طلقت الشعر واعتنقت بشغف لغة الأرقام..
ولكنه يلاحظ من جهة ثانية ان الأندلسيين المعاصرين هم غير القاطالونيين. لماذا؟ لأنهم يعلمون أنهم أفارقة في عين سائر مواطنيهم. همّهم الأول أن يُعترف باسبانيتهم، بأوروبيتهم، في الداخل أولاً، ولاحقا في الخارج..
ملاحظات كثيرة، مفيدة أو ممتعة، أو الاثنتان معاً، يعثر عليها قارئ «خواطر الصباح» للمفكر والمؤرخ المغربي الكبير الدكتور عبدالله العرومي، تتصل بالفكر والثقافة على الخصوص، من مثل رأيه بكتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» أو بجان بول سارتر، أو بسلمان رشدي، أو بميلان كونديرا، أو بكتاب دستويفسكي الشهير: «الاخوة كراموزوق» ولكن هذه الملاحظات قابلة لأن تضيع في بحر من الملاحظات السياسية على الخصوص، التي تشغل أكثر صفحات كتاب من ثلاثة أجزاء، والتي لا قيمة لها، ولا فائدة منها، لا للمؤرخ ولا لسواه. لذلك كان يمكن أن يوضع هذا الكتاب للعروي في باب الكتب الرديئة، لولا هذه الملاحظات الفكرية والثقافية التي أشرنا الى بعضها فيما تقدم.