صحيفة الحدث
سعيد بوخليط
9 فبراير 2021
رحل عن عالمنا أخيرا، خلال شهر أغسطس الماضي، المفكر محمد وقيدي (1946 - 2020)، الذي يعتبر من أساتذة الجيل الثاني، الذين أرسوا معالم أفق فكري مغربي، يلاحق متواليات الحداثة الكونية، تبعا لتطورات روافدها السياسية والثقافية والاجتماعية.
مشروع معرفي شخصي أساسه، يقصد المحلي والوطني في إطار السعي نحو النهوض بمرتكزات الدولة ووصلها حتما بالتطور التاريخي المنشود، ومن خلال ذلك، المجال القومي ثم الكوني. من أجل تحقيق مبتغاه، اشتغل وقيدي على ثلاثة روافد، كما الشأن دائما بالنسبة للميادين التي شكلت هاجسا إجرائيا، لدى رموز الحداثة المغربية، من أجل إبداع النظرية، ثم اختبارها وطرحها كي تجابه النظرية –النقيض، المتمثل أساسا في المشروع اللاتاريخي المطروح رسميا من طرف المنظومة الحاكمة ومن يدور في فلكها.
أقصد بالحقل التجريبي، وورش التفكير، المنتديات الثلاث التالية:
*التدريس الجامعي؛
*التأليف النظر الصرف، في إطار هاجس علمي أكاديمي؛
*الإصغاء إلى أسئلة التطور المجتمعي، ومتابعة مستجدات الشأن العام، من خلال المساهمة في فهم النقاشات السياسية الجارية، ثم محاولة صياغة نظرية أو نظريات فلسفية عميقة، تتوخى سبر أغوار ما يجري واستخلاص البرامج، القابلة لبناء الكيان المغربي تبعا لسياق الكونية.
هذه الخطاطة الثلاثية، التي أرسى خيوطها الأولى جيل الرواد والمؤسسين، المتمثل أساسا في أسماء محمد عزيز الحبابي وعابد الجابري وعبد الله العروي، الذين وصلوا الجامعة والوعي المغربيين بمرتكزي أفق الفكر المعاصر عبر إشكالات المجتمعي، يمثلها أيضا محمد وقيدي، المنتسب طبعا إلى الجيل الثاني، منذ التحاقه أستاذا للفلسفة، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، بعد قضائه سنوات قبل ذلك في أسلاك التعليم الثانوي.
مسار جامعي في غاية العطاء والثراء، توثقه حصيلة عناوين مؤلفات مهمة جدا، قاربت خمسة عشر كتابا أنجزها محمد وقيدي، ومثلت بجانب باقي أطروحات رواد حداثة الزمان المغربي، إضافات نوعية، جعلت الفكر المغربي، يتبوأ بكيفية لا جدال فيها، طليعة المتون العربية، التي اشتغلت من جديد على سؤال النهضة والحداثة.
إن كتابات من عيار مضامين العناوين الآتية:
فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار (1980)/ ما هي الابستمولوجيا (1983)/ العلوم الإنسانية والإيديولوجية (1988)/ حوار فلسفي: قراءة في الفلسفة العربية المعاصرة (1985)/ التاريخ الوطني (1990)/ أبعاد المغرب وآفاقه (1998)/ التعليم بين الثوابت والمتغيرات (1999)/ التوازن المختل: تأملات في نظام العالم (2000) / مكونات المغرب وسياسات (2001)/ لماذا أخفقت النهضة العربية؟ (2002)/ بناء النظرية الفلسفية: دراسات في الفلسفة العربية المعاصرة (1990)/ البعد الديمقراطي (1997)/ جرأة الموقف الفلسفي (1999)/ الابستمولوجيا التكوينية عند جان بياجي(2007)/ الابستمولوجيا التكوينية في فلسفة العلوم (2010).
أقول، هي مؤشرات عتبات نصية، توضح بأن وقيدي، شغله بقوة هاجسي الابستمولوجي والإيديولوجي، ثم الاجتهاد بهدف عثوره على نواة مفصلية بناءة وخلاقة تجمع بينهما بكيفية سجالية ومبدعة، دون السقوط في مستنقع الإيديولوجية الصماء، القاتلة لذكاء الفكر، ولا أيضا الاستكانة فقط إلى ما هو معرفي محض دون قالب إيديولوجي، يعكس بتوازن خريطة النَّفس المجتمعي، وفق نزوعاته وتوجهاته البشرية. وأعتقد بأن طبيعة المسارات التي وجهت اشتغالات رواد الحداثة المغربية، أنهم نجحوا وقد تطلعوا بقوة قدر استطاعتهم نحو الحفاظ على حوار لا يتوقف بين المنحيين الابستمولوجي والإيديولوجي.
في هذا الإطار، وضع محمد عابد الجابري اللبنة الأولى بتأليفه لكتاب: ''مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي" الصادر سنة (1976)، بحيث قارب المحاور الكبرى التالية: الابستمولوجية وعلاقاتها بالدراسات المعرفية الأخرى، تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، تطور الأفكار في الفيزياء، نظرية النسبية، الثورة الكوانتية…
يقول، ضمن فقرات مقدمته لهذا العمل: "تكتسي الدراسات الابستمولوجية –التي تتناول قضايا المعرفة عامة والفكر العلمي خاصة –أهمية بالغة في الوقت الحاضر. بل يمكن القول إنها الميدان الرئيسي الذي يستقطب الأبحاث الفلسفية في القرن العشرين… ونحن هنا في الوطن العربي مازلنا متخلفين عن ركب الفكر العلمي، تقنية وتفكيرا، ومازالت الدراسات الفلسفية عندنا منشغلة بالآراء الميتافيزيقية أكثر من اهتمامها بقضايا العلم والمعرفة والتكنولوجية، الشيء الذي انعكست آثاره على جامعاتنا ومناخنا الثقافي العام. هذا في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى ''تحديث العقل العربي" و''تجديد الذهنية العربية" وغني عن البيان القول بأن وسيلتنا إلى ذلك يجب أن تكون مزدوجة متكاملة: الدفع بمدارسنا وجامعاتنا إلى مسايرة تطور الفكر العلمي وملاحقة خطاه والمساهمة في إغنائه وإثرائه من جهة، والعمل على نشر المعرفة العلمية على أوسع نطاق من جهة ثانية"(1).
وكما هو معلوم، فقد استلهم الجابري فيما يتعلق بحفره المنهجي لتشريح العقل العربي، مفاهيم إبستمولوجية شتى تعود أصولها إلى باشلار وفوكو وريجيس دوبري وبياجيه وكانغليم ولالاند، إلخ. أذكر فقط على سبيل التمثيل المقتضب: العقل المكوَّن، العقل المكوِّن، النظام المعرفي، اللاشعور المعرفي، العائق الابستمولوجي، القطيعة الابستمولوجية...
يضيف محمد وقيدي، في ذات السياق: "تستوجب الحالة الراهنة للعلوم الإنسانية في العالم العربي قيام نقد إبستمولوجي للإنتاج القائم في مجالها… النقد الابستمولوجي عندنا يمكن التعبير عنه في مرحلة أولى بأنه عودة للإنتاج العلمي في مجال العلوم الإنسانية إلى ذاته، من أجل أن يمارس على ذاته تحليلا نقديا، دون أن يتوقف مع ذلك عن نموه التراكمي الضروري. إن هدف النقد الابستمولوجي المنشود هو العودة إلى الإنتاج العلمي في العلوم الإنسانية من أجل إبراز المشكلات المعرفية المرتبطة بهذا الإنتاج. ينبغي أولا إبراز القيم الابستمولوجية التي أدى إلى بروزها إنتاج علمي قائم منذ عقود من السنوات. وينبغي ثانيا التوقف عند مظاهر التعطل والنكوص في الممارسة العلمية في مجال العلوم الإنسانية في العالم العربي، من أجل معرفة العوائق الابستمولوجية التي تؤدي إلى مظاهر التعطل والنكوص تلك''(2).
جدلية الابستمولوجي والإيديولوجي، باعتبارها خلفية نظرية للعلاقة بين النظري والواقعي، بدت أيضا بنفس الزخم المنهجي، ضمن محددات كتابات محمد وقيدي، من خلال روافد:
*الانكباب على الدرس النظري الفلسفي؛
*الاهتمام بموضوعات الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان، والعولمة؛
* المساهمة في نقاش مشكلات المغرب، وعوائق النهضة، وكذا بعض قضايا العالم المعاصر.
هكذا، تمحورت موضوعات تأويلات وقيدي، بين مجالات الابستمولوجية والفلسفة والسياسة والاجتماع، ضمن إطار الجمع بين الاجتهاد النظري الذي يقتضي التسلح بعدَّة معرفية تقارب الإشكاليات المتبناة، وفق مناهج تستدعي بالدرجة الأولى مقومات العقل العلمي بكل منهجيته الاستدلالية، ثم الانفتاح في ذات الوقت على القضايا التي تفرزها الصيرورة المجتمعية عبر تشكلاتها القيمية، حتى لا يبقى الأكاديمي ورجل الفكر منعزلا عن كنه السياقات المتحولة حسب قوانين الشرط المجتمعي، التي تحكمها أولا وأخيرا، التوجهات الإنسانية، من هنا دواعي دراساته وأبحاثه التي اهتمت بموضوعات: الإعلام، الاجتماع، العنف، الإرهاب، الديمقراطية، الهيمنة السياسية، سياسات الهيمنة، مكونات المغرب وسياساته، ثم حقوق الإنسان عبر تفكيكه هذا السؤال الحضاري المفصلي إلى عناوين فرعية، انصبت على مناقشة مكونات حقوق الشعوب والأمم، منطق حقوق الإنسان، حق الإنسان في الحرية، حقوق الإنسان بين الوضع الدولي والمسؤولية الدولية، حقوق الإنسان بين الشخص والمجتمع والدولة، حقوق الإنسان والديمقراطية.
منظور وأفق، يلزمهما عمق فلسفي، بهدف تخليص هذه الإشكالات من مختلف انزلاقات الدوغماطيقا والتبرير والتلفيق والتضليل وكذا التأويلات الشوفينية المرتبطة وفق مصالح ضيقة، لذلك احتاجت إلى رؤيا استشرافية متكاملة تستحضر باستمرار روحها المتسامية والمجردة، التي هي عين هويتها وسر تميزها وريادتها،لكنها في ذات الوقت تحتاج إلى التفاعل بكيفية من الكيفيات مع تلك الأسئلة الفورية والمباشرة،التي يبلورها المصير البشري وعلاقته بالمحيط الخارجي.
بناء على ذلك،آمن محمد وقيدي،بضرورة ارتباط الفلسفة ومن خلفها طبعا نسق ألفيلسوف بأسئلة الواقع :"نرى بهذا الصدد أن الفكر الفلسفي يتأسس ويتطور في الشروط المجتمعية التي يسودها حوار فكري عام.فالفلسفة لاتنشأ ولاتتطور في انعزال عن الوضع الفكري العام في المجتمع، والمجتمعات متفاوتة في هذا المستوى من حيث درجة تطورها، ومن حيث نوعية المشاكل المطروحة عليها، ومن حيث الوعي بهذه المشاكل في كل عناصرها وجوانبها وامتداداتها، ومن حيث وضع هذه المشاكل موضع حوار فكري شامل. لذلك، فالتساؤل عن الفلسفة في مجتمع ما يمس في الوقت ذاته الوضع الفكري العام في هذا المجتمع''(3).
بيد أن وقيدي يظل رغم كل الإشارات الكبرى السابقة، المتعلقة بمتنه، أقرب كثيرا إلى صفتين ارتبطتا به، نظرا لما ميز إطارهما لديه، من جِدَّة وجدية وتأصيل وتراكم، أقصد البحث باستفاضة في ماهية الحقل الابستمولوجي ثم الاهتمام بدقائق عقلانية غاستون باشلار. بل، لازال يعتبر غاية اللحظة، بمثابة مرجعية أولى لاغنى عنها، بخصوص فهم واستيعاب جانب مهم من تراكم مباحث الابستمولوجية على مستوى تاريخ المفاهيم والمدارس والأعلام والمناهج والنتائج. ثم، بالموازاة التركيز على الابستمولوجية الباشلارية عبر بوابة البناء العلمي الجديد الذي أرساه باشلار.
هكذا، لم يعد يُذكر اسم وقيدي، سواء في المغرب وكذا على امتداد العالم العربي، دون أن ينط إلى الذهن مباشرة ومنذ الوهلة الأولى، مرجعين لا محيد عنهما بالنسبة للفكر المعاصر، أي الابستمولوجية وكذا العقل العلمي الباشلاري. من هنا ريادته في هذا المضمار، ارتباطا بحقبة تاريخية، وسياق سوسيو- معرفي سادتهما التوتاليتارية الايديولوجية بقوة تبعا لأبعادها المعيارية والوثوقية، مقابل ضمور الاهتمام بالجانب المعرفي المتسائل، مادامت موضة الفترة لوحت تماما بالشرعية والقصدية الايديولوجية.
يوضح وقيدي: "ينبغي أن أشير إلى أن اختياري للإبستمولوجيا قد عبّر عن نفسه بشكل واضح منذ أن اخترت باشلار موضوعاً لبحث الدراسات العليا. فقد كان باشلار واحداً من الإبستمولوجيين الذين يمكن دراستهم، ولهذا اخترته. إذن فهو اختيار داخل اختيار"(4). ويستطرد قائلا "بعد كتابي عن باشلار، بدأت أفكر مباشرة في موضوع يليق بدراسات أخرى ففكرت في العلوم الإنسانية، لأني أردت أن أدرس العلوم الإنسانية في العالم العربي، وقمت بالكثير من الأبحاث التي تضمّنها كتابي "العلوم الإنسانية والأيديولوجيا" حيث أدركت أن العائق الأساسي للعلوم الإنسانية هو الأيديولوجيا" (5). إذن، التسلح بعلمية الابستمولوجيا قصد رصد طبيعة العناصر الإيديولوجية في التفكير، وقد قدم له ابن خلدون، بهذا الصدد، نموذجا إجرائيا فعالا وخصبا.
هذه الورقة التقديمية البسيطة، لمشروع محمد وقيدي التي حاولت إعادة التذكير بالخطوط العريضة لأوراش الرجل، أعتبرها فقط مجرد تأبين على طريقتي الخاصة لروح أستاذ، لم يسعفني الحظ،جراء ظروف موضوعية أكثر منها شخصية، كي أدرس عنده في مدرجات كلية الرباط، بل تعرفت عليه منذ بداية التسعينات بفضل الاطلاع على كتبه، ومقالاته التي كانت تؤثت آنذاك، على فترات متباعدة أو متقاربة، الملاحق الثقافية للصحف المغربية والعربية. وأضيف، بأن مصدر اهتمامي بباشلار، لا سيما ما يتعلق بجانبه الأدبي والشعري، يعود إلى تأثير قراءتي لكتاب وقيدي: فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار.
*هوامش:
محمد عابد الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي. مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثامنة، بيروت فبراير2014 ،ص 11- 12 .
محمد وقيدي: كتابة التاريخ الوطني. دار الأمان، الطبعة الأولى، سنة 1999، ص13- 14 .
محمد وقيدي: جرأة الموقف الفلسفي. أفريقيا الشرق 1999،ص 13- 14 .
حوار مع موقع العربي الجديد، 06 ديسمبر 2016 .