أخلاقيات المستقبل العلمانية الرشيدة
أحمد أبو زيد
مجلة العربي 1 يوليو 2004
قد تتعدد المصادر التي تنبع منها النظم الأخلاقية, وقد تختلف في شكلها, ولكنها دائما وفي كل العصور لا غنى عنها لمجتمع حيوي ومنتظم.
في الوقت الذي يعتقد فيه بعض المفكرين النظريين, من أمثال دانييل بل, وغيره من المهتمين بمشكلات التحديث أن التنمية الاقتصادية تؤدي بالضرورة إلى حدوث تغيرات ثقافية جذرية قد تختفي من جرائها بعض الملامح الأساسية للمجتمع التقليدي يذهب مفكرون نظريون آخرون من أمثال صامويل هنتنجتون إلى أن القيم الثقافية والاجتماعية تتمتع في العادة بقدرة هائلة على الصمود في وجه عوامل التغير ومقاومة التغيير, وأن هذه القدرة على الاستمرار والاحتفاظ بالمقومات الأصيلة المتوارثة هي واحدة من أهم أسباب التفاوت والتباين بين المجتمعات وغالبا ما تؤدي إلى نشوب ما يطلق عليه الآن ظاهرة الصدام بين الحضارات. والمعروف أن هنتنجتون استخدم هذا التعبير في محاولته التدليل على أن الصراعات الكبرى في عصر ما بعد الحرب الباردة ستكون بين مناطق ثقافية ترتكز أساليب الحياة وأنماط التفكير فيها على الدين الذي يعتبر على أي حال أحد المكونات الأساسية في معظم ثقافات العالم.
ويثير عمق واتساع نطاق التغيرات التي تتعرض لها ثقافات العالم, وبخاصة ثقافات العالم الثالث نتيجة للتقدم المذهل في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والعلوم الفيزيائية, قلق الكثير من المفكرين خشية أن تختفي أنساق القيم الأخلاقية المتوارثة, دون أن تحل محلها أنماط أخلاقية جديدة متكاملة تحفظ لتلك الثقافات ومجتمعاتها تماسكها وهوياتها المتمايزة, خاصة أن هذا التقدم العلمي والتكنولوجي سوف يهدم كثيرا من الحواجز والعوائق التي كانت تفصل بين الشعوب, ويعمل بدلا من ذلك على التقريب بينها, ولكن على حساب ثقافاتها وقيمها الخاصة. وقد كان ذلك دافعا للتفكير في نوع العلاقات التي ينتظر أن تسود في مجتمع الغد والمبادئ الأخلاقية التي سوف تحكم هذه العلاقات ومدى اختلاف هذه المبادئ عن الأسس التي تقوم عليها الروابط الإنسانية في الوقت الراهن ومدى اتساع الفجوة الثقافية التي سوف تفصل إنسان الغد عن الأجيال الحالية التي تكافح من أجل الصمود أمام تيارات التغيير الجارفة وتعمل جاهدة على توريث قيمها ومبادئها الأخلاقية والدينية للأجيال الصاعدة في محاولة مستميتة للإبقاء على الهوية الثقافية والاجتماعية من الضياع والاندثار.
فمشكلة البحث عن أخلاقيات للمستقبل تفرض نفسها إذن على المفكرين والكتاب, بل وعلى كثير من العلماء, لأن التقدم غير المحسوب في مجالات العلم والتكنولوجيا والذي لا يخضع لأي قيود وقلما يأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي قد تنجم عنه مشكلات إنسانية خطيرة يتضاءل أمامها كل ما يمكن لهذا التقدم تحقيقه من فوائد ومكاسب, مادية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية. وليس من الضروري في رأي كثير من هؤلاء المفكرين والكتاب أن يكون الدين هو المصدر الوحيد, أو حتى المصدر الأساسي, لهذه الأخلاقيات المستقبلية مثلما كان عليه الحال خلال معظم فترات التاريخ. فالدين يتراجع الآن بشكل ملحوظ ويحتل مرتبة ثانوية بالنسبة للكثيرين في الغرب (على الأقل), أمام الزحف العلمي والتحديث التكنولوجي المتواصل والميل المتزايد نحو الاتجاهات العلمانية والتفكير العقلاني الوضعي (الرشيد), وانحسار الثقافات التقليدية تدريجيا أمام هذه المتغيرات الجديدة. والواقع أن هذه المشكلة كانت قد بدأت في الظهور منذ منتصف القرن الماضي إن لم يكن قبل ذلك ولكنها لم تحظ حينذاك بمثل ما تحظى به من اهتمام في الوقت الحالي. ففي الخمسينيات الماضية على سبيل المثال ألقت مارجريت نايت أستاذة الفلسفة في إحدى الجامعات البريطانية سلسلة من الأحاديث أو المحاضرات في الإذاعة البريطانية ضمن برنامج المحاضرات التذكارية السنوية لتخليد ذكرى اللورد ريث Reith أول مدير لتلك الإذاعة, وكانت أحاديثها بعنوان (أخلاق بغير دين (Morals Without Religion بشرت فيها بظهور مبادئ أخلاقية دنيوية أو علمانية مستمدة من حقائق الحياة الواقعية وتتولى تنظيم العلاقات بين الناس ورسم قواعد السلوك وبذلك تحل محل الدين بالمعنى المعروف للكلمة. وقد أثارت تلك المحاضرات كثيرا من النقد والجدل وقت إذاعتها; فقد كانت بريطانيا لا تزال متمسكة حينذاك بتقاليدها وقيمها الأخلاقية والدينية, وكانت الكنيسة تتمتع بمكانة عالية في نفوس الناس, وكان لها تأثيرها القوي في المجتمع والدولة على السواء. وقد تراجعت هذه المكانة خلال نصف القرن الأخير تراجعا كبيرا.
والسؤال الذي يسيطر على أذهان الكثيرين الآن في هذا الصدد هو مدى إمكان قيام مبادئ أخلاقية عامة أو (أخلاقيات كوكبية) - حسب التعبير المستخدم الآن - تستطيع أن تفرض على المجتمع الإنساني بأسره ضرورة توفير حد أدنى من الحب والاحترام اللذين يسموان فوق عوامل التفرقة والتنافر والتباعد, وما ينشأ عنها من صراعات تهدد وحدة الجنس البشري بل وقد تقضي عليه تماما. فالذي يشغل بال هؤلاء المفكرين إذن هو البحث عن أخلاقيات تضمن تحقيق السلام العالمي القائم على الفهم والتسامح والاعتماد المتبادل وتحفظ للفرد كرامته الإنسانية كما تعمل على الارتقاء بمستوى نوعية الحياة.
الكرامة الانسانية
والواقع أن مطلب توفير الكرامة الإنسانية ومراعاتها في مجتمع الغد أصبح من المطالب الأساسية التي يتردد ذكرها بكثرة في المحافل الدولية, وبخاصة في الندوات والمؤتمرات التي تعقدها اليونسكو, وفي النداءات الصادرة عنها. ففي الجلسة الافتتاحية لمؤتمر اليونسكو التاسع والعشرين على سبيل المثال ذكر فدريكو مايور - مدير عام اليونسكو حينذاك - أمام المشاركين الذين وصل عددهم إلى حوالي 1300 عضو أن أخلاقيات المستقبل سوف تقوم على التعاون من أجل السلام وتحقيق الأمن والتنمية وتحديد المسار نحو الديمقراطية والقضاء على الفقر والتهميش اللذين يزدادان بدرجة ملحوظة, ليس فقط في مجتمعات العالم الثالث بل وأيضا في كثير من الدول القوية, وأن كوكب الأرض يعاني من كثير من المواقف المتفجرة والأوضاع القابلة للانفجار, وكلها أمور تحاول اليونسكو التغلب عليها بطرق مختلفة, وهو ما يتطلب التركيز والإلحاح على الدور الفكري والأخلاقي للمنظمة (اليونسكو), باعتبارها (ضمير الإنسانية) - حسب تعبيره. ثم يواصل حديثه بقوله (إنه مما يدعو للأسى أننا على استعداد للدفاع عن حدود أوطاننا, ولكننا لسنا على استعداد للدفاع عن الكرامة الإنسانية), مما يستدعي - في رأيه - ضرورة الوصول إلى إعلان عن مسئوليات الأجيال الحالية نحو أجيال المستقبل, ولذا يتعين علينا الآن وفي الحال - حسب تعبيره أيضا - وضع أسس أخلاقيات المستقبل التي دونها لن نستطيع إقرار السلام ودعم التنمية في القرن الواحد والعشرين, وأنه إذا كان من الصعب تحقيق السلام والديمقراطية في الحال أو بعد فترة وجيزة من الزمن فلا أقل من التوكيد عليهما دائما, وفي كل لحظة لأنهما يحتاجان إلى الالتزام الدائم والمستمر والمتجدد وأن نعمل على تحقيقهما على أرض الواقع وليس فقط مجرد الكلام.
فالمستقبل يضع إذن أمام الحاضر كثيرا من التحديات المتعلقة بوجه خاص بنوعية التوافق والتناسق التي يجب أن تسود العالم. وتتوقف نتائج مواجهة هذه التحديات على تصرفات البشر أنفسهم وسلوكياتهم والعلاقات التي تقوم بينهم والقيم التي يتمسكون بها والتي توجه هذه العلاقات. وسوف تلعب تكنولوجيا الاتصال دورا مهما في التقريب بين الناس وتوفير فرص التفاهم المتبادل وإدراك المعنى العميق لقيم وأخلاقيات الشعوب المختلفة, ولكن هذه التكنولوجيا ذاتها سوف تؤدي في الوقت ذاته إلى اختفاء كثير من القيم والمعايير الأخلاقية التقليدية الخاصة والمتوارثة لدى كل شعب من هذه الشعوب, حتى يمكن توفير أرضية مشتركة من القيم والأخلاقيات الكوكبية العامة على ما يقول بروس مري الأستاذ بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
وقد اهتمت بعض مراكز البحوث في الخارج بتعرف الاتجاهات العامة نحو نوع القيم التي تعطيها بعض الفئات الاجتماعية أهمية خاصة, ويودون استمرارها في المستقبل. ففي أكتوبر عام 1996 وبمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي لمنتدى (حالة العالم) في سان فرنسيسكو أجرى (معهد الأخلاقيات الكوكبية) بأمريكا استطلاعا لرأي 272 من المشاركين في المنتدى, وكلهم على درجة عالية من الثقافة والمستوى الاقتصادي حول خمس عشرة قيمة أخلاقية, وترتيبها حسب الأولوية بالنسبة لكل منهم وبالنسبة للأهمية التي يرون أنها سوف تحتلها في مجتمع الغد. واحتلت قيمة الصدق المركز الأول, وجاء بعدها على الترتيب قيم التعاطف فالمسئولية فالحرية فتقديس الحياة فالعدالة والإنصاف فاحترام الذات فالمحافظة على البيئة فقيمة التسامح فالسخاء والعطاء ثم التواضع فالتجانس الاجتماعي فالشرف فالإخلاص وجاء احترام كبار السن في ذيل القائمة.
قيمة الصدق
وليس من شك في أنه لو أجري هذا البحث بكل أبعاده على أشخاص من المستوى الثقافي والاقتصادي نفسه - ولكن في مجتمعات وثقافات أخرى - لجاءت النتيجة مختلفة, لأن لكل ثقافة أولوياتها الخاصة. ولكن الذي يسترعي الانتباه في هذا البحث هو إعطاء أولوية تكاد تكون مطلقة لقيمة (الصدق). فللصدق أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية في المجتمعات المتقدمة تتجاوز العلاقات الشخصية والتعامل بين الأفراد, لأن (الصدق) كقيمة أخلاقية يتضمن المصداقية التي ينبغي أن تتوافر في مجتمع المستقبل في جميع المجالات, بما في ذلك علاقة المواطن العادي بأجهزة الحكم وفي إدارة الأعمال والخدمات العامة التي تقدم للجماهير كما يقتضي سهولة الحصول على المعلومات الصحيحة والدقيقة مما يعني توافر درجة عالية جدا من الشفافية, وبالتالي مراعاة حقوق الفرد أو المواطن العادي بكل ما يتيحه له ذلك من القدرة على مواجهة السلطة بحقائق الأمور وهو ما يعبر عنه أحيانا بالقدرة على مجابهة القوة بالحقيقة والواقع أو حسب التعبير الإنجليزي Speaking truth to power. وستكون هذه سمة أخلاقية رئيسة في مجتمع المستقبل.
وفي السياق نفسه أصدر الأستاذ جيرالد لارو Gerald Larue عام 1998 كتابا بعنوان (قيم إنسانية للقرن الواحد والعشرين) وصف فيه هذا القرن بأنه القرن الذي سوف يبلغ فيه النمو العلمي والتكنولوجي مستوى لم يعرفه تاريخ الإنسانية من قبل, ولكنه يلاحظ أن هذا (النمو) قد يؤدي إما إلى الفوضى والخلل والتفكك والحروب وانتشار المجاعات والأوبئة وإما إلى الدخول في عصر من التعاون الإنساني والتنمية والتقدم والسلام; وأن ذلك يتوقف إلى حد كبير على نوع القيم التي سوف يختارها البشر أنفسهم ويعملون على تنميتها واستمرارها وترسيخ مشروعيتها. وعلى ذلك فإنه يتعين أن يحسن الناس اختيار القيم التي يرون أهميتها بالنسبة لمستقبل المجتمع الإنساني ككل, وأن يتم ذلك الاختيار أو الانتقاء بطريقة عقلانية رشيدة واعية ومتعمدة وهادفة, وألا يتركوا الأمر للمصادفة أو للظروف الطارئة. ويذهب جيرالد لارو إلى أن هذه القيم الأخلاقية سوف تكون بالضرورة وحتى يتحقق الهدف منها قيما علمانية كوكبية وعائلية في وقت واحد, وهو يأخذ كلمة (عائلية) هنا بالمفهوم الواسع الكلي الشامل الذي يتضمن (العائلة البشرية) وذلك على اعتبار أن البشر جميعا تحدروا من أصل واحد وأن شعوب الأرض كلها ليست سوى فروع مختلفة لشجرة واحدة. ومن هذه النظرة الشاملة التكاملية سوف تنبثق أخلاقيات المستقبل كما سوف تختفي الاختلافات والفوارق بفضل الاتجاهات العلمانية والتفكير العقلاني الرشيد الذي يقضي على المشاعر والانفعالات اللاعقلانية, التي كثيرا ما تؤدي إلى الصراع بين الشعوب. وسوف تؤدي هذه الأخلاقية الثلاثية التي ترتكز على مبادئ العلمانية والكوكبية والعائلية, إلى احترام التنوع البشري, كما تتيح الفرصة في الوقت ذاته لانطلاق القدرات الفردية بغير عوائق أو قيود. فالأخلاقية الثلاثية تكفل إذن الحرية للجميع بما يحقق الاحترام المتبادل وقيام المجتمع الديمقراطي التعددي الذي يعترف بحقوق الإنسان ويرفض التحكم واستعباد الآخرين, كما كان عليه الحال في القرون الخالية وحتى الوقت الراهن, وإن اختلفت صور الهيمنة والتسلط والاستبداد. وبهذا وحده يمكن أن يعم السلام كل ربوع كوكب الأرض وتتحقق أهداف التنمية, ويضمن الجنس البشري لنفسه البقاء والاستمرار في الوجود, حيث يمكن أن تختفي تماما وبعد فترة قصيرة نعرة الحديث عن أسلحة الدمار الشامل التي تبث الرعب والفزع في قلوب الناس.
وقد تكون هذه نظرة مغالية في التفاؤل, ولكن جيرالد لارو يرى أن الأوضاع العالمية المتغيرة كفيلة بتحقيق هذه القيم الإنسانية أو (الهيومانية) خلال القرن الواحد والعشرين. فالعالم يتحول بالفعل إلى مرحلة جديدة تسود فيها الديمقراطية العلمانية التعددية, التي تنتشر بين جميع الشعوب وإن يكن بسرعات مختلفة, كما بدأ يتحقق على أرض الواقع ما يسميه لارو (الأساس المشترك من التهذيب الأخلاقي) الذي يتميز باحترام الآخر والميل نحو التضامن, وإقرار الحرية والعدالة والأمان والتعاطف, وهي كلها مبادئ علمانية ولكنها تجد ما يماثلها في الأديان المختلفة, وبذلك لن يكون هناك تعارض بين الدين ومبادئ العلمانية, حتى وإن كانت هناك أديان وعقائد تقوم على أسس التمايز والتفرقة الحادة الصارمة بين أتباعها وأصحاب الأديان الأخرى. ولا ينسى جيرالد لارو أن يقول مفاخرًا إنه يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبدا أننا الجيل الأول في تاريخ الإنسانية الذي أمكنه أن يشاهد من الفضاء الخارجي كوكب الأرض الذي نعيش فوقه, وهذا يجعلنا ندرك تفرد هذا الكوكب الذي يدور حول نجم آخر صغير هو الشمس في الكون الواسع العظيم الممتد بلا حدود, كما يجعلنا نشعر بأننا - في حدود المعلومات المتوافرة حتى الآن - الكائنات العاقلة الوحيدة التي تملك القدرة على التفكير. وقد تكون هناك أشكال أخرى من الكائنات العاقلة المفكرة تعيش على كواكب أخرى, ولكننا لم نأخذ على أي حال علما بها حتى الآن. ولذا فإن نسق القيم الذي نؤمن به يجب أن يتعدى ويتجاوز كل الحدود, بحيث تسود أخلاقيات كونية إنسانية تشمل العالم بأسره وتعمل على توحيده حتى وإن اتخذت أشكالا متعددة, وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تسود روح التسامح بين البشر. فالتسامح هو المؤشر الموضوعي الوحيد على احترام التنوع الثقافي وقبول الأنماط الثقافية المغايرة.
الآلات المفكرة
وفي عام 1998 أيضا أصدر راي كورزويل Ray Kurzweil كتابا طريفا بعنوان ( عصر الآلات المفكرة) يعرض فيه تصوراته عما ستكون عليه معالم مجتمع الغد, ونوع الأخلاقيات التي سوف تسود بين الناس حينذاك, وهي صورة يعترف بأنها مثالية أو (طوباوية) قد لا تتحقق بحذافيرها, وإن كانت كل الدلائل تشير إلى أن العالم يتجه نحوها بخطى حثيثة. والمعروف أن راي كورزويل هو مخترع أول جهاز قراءة للمكفوفين وأن له نظرة إنسانية شفافة نحو إمكان استخدام الآلات وتسخيرها لصالح الإنسان. ويذهب كورزويل في ذلك الكتاب إلى أن التقدم العلمي قد يصل بالإنسان إلى مرحلة تضمن له ما يقرب من الخلود وذلك عن طريق التوحد مع الآلات والأجهزة (المفكرة) والروبوت على وجه التحديد, ولكنه يعبر في الوقت ذاته عن قلقه ومخاوفه مما قد يلحق بالمجتمع البشري من أذى وأضرار ومتاعب جسيمة, نتيجة للسير المحموم في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.فليس من المتصور أن يستمر وجود المجتمع الإنساني بالصورة التي ألفناها خلال القرون الطويلة الماضية إذا تمكنت الآلات (المفكرة) من أن تحل محل الإنسان, بل وأن تنجز الأشياء بطريقة أفضل مما يستطيعه هو بإمكاناته وقدراته البشرية المحدودة, وأن تنفرد باتخاذ القرارات دون الرجوع إليه وبغير تدخل أو توجيه منه إذ سوف يعتبر ذلك قمة العجز البشري أمام الآلة التي صنعها الإنسان لتكون في خدمته فينتهي الأمر به إلى الخضوع لسطوتها والتسليم بقدرتها ودقتها المتناهية والاستسلام (لديكتاتوريتها غير العاقلة). ولكن يبدو أن الإنسان محكوم عليه بأن يجد نفسه قريبا في هذا المأزق الذي صنعه لنفسه بيديه.
وقد أثار كتاب كورزويل كثيرا من الجدل على صفحات الجرائد والمجلات المتخصصة في الدراسات المستقبلية ومن أهم هذه المقالات عرض للكتاب بقلم بيل جوي Bill Joy ظهر تحت عنوان: (لماذا لن يحتاج إلينا المستقبل?) وفيه يصف ذلك الكتاب بأنه مثال رائع (للموضة) الفكرية, التي انتشرت في أواخر القرن العشرين والتي يتنبأ المشاركون فيها بما سوف يكون عليه الوضع الإنساني في القرن الجديد وما بعده. وتغلب على المقال سمة من الكآبة والتشاؤم حول مستقبل المجتمع البشري الذي سوف تتحكم فيه تلك (الأجهزة المفكرة), التي لن تكون متاحة بطبيعة الحال إلا لفئة محدودة ومتميزة من الأشخاص الذين سوف يسخرونها لتحقيق أغراضهم ومصالحهم الخاصة ويمكنهم عن طريقها الاستغناء تماما عن العمل البشري الذي يقوم به في الوقت الحالي أعداد هائلة من الأيدي العاملة, وبذلك يتم تهميش كل هذا القدر الكبير من البشر الذين سوف يمثلون في هذه الحالة عبئا ثقيلا على المجتمع فضلا عن حرمانهم من الإحساس بإنسانيتهم, وهو الإحساس الذي يستمده المرء من العمل الذي يدرك أن المجتمع في حاجة إليه.
التحكم في الطبقات الفقيرة
والأخطر من ذلك في رأي بيل جوي هو أن هذه الفئة القليلة المتميزة سوف تلجأ إلى كل ما من شأنه التحكم في معدلات الخصوبة لدى الطبقات الفقيرة, نظرا لعدم الحاجة إلى الأيدي العاملة وبذلك سوف تنقرض هذه الجماعات وتفقد المجتمعات الإنسانية جانبا كبيرا من أحد عناصرها, التي لعبت دورا مهما في إرساء قواعد الحضارة الإنسانية. وعلى العموم فإن ظهور هذه الأجهزة والآلات المفكرة سوف يترتب عليه تدهور القدرات الذهنية لدى الغالبية العظمى من الناس في كل المجتمعات, بحيث يحتلون مرتبة لا تختلف كثيرا عن تلك التي تشغلها (الحيوانات الأليفة) - حسب تعبيره - وهو موقف أخلاقي خطير لا يكاد الكثيرون يعطونه ما يستحقه من اهتمام على الرغم من توقع ظهور هذه الآلات أو الكائنات الآلية المفكرة حوالي عام 2030.
وواضح هنا أن الفقراء هم الذين سيدفعون الثمن, وهذا يعود بنا إلى آراء مالثوس Malthus حول عدم تشجيع الطبقات العاملة والفقيرة على الإنجاب, وإن كانت القضية تستند الآن إلى مبررات أخرى تحت وطأة التقدم العلمي والتكنولوجي والتوقعات حول ظهور الآلات والأجهزة المفكرة. وربما لم يكن أصحاب الدعوة إلى قيام أخلاقيات كوكبية مستقبلية تقوم على مبادئ العلمانية والعقلانية يتوقعون أن يصل التفكير في المشكلة إلى هذه النتائج اللاأخلاقية التي ينبه إليها مقال بيل جوي, كما أن الكثيرون لا يزالون يستبعدون تماما إمكان تجرد الإنسان والمجتمع في المستقبل من كل المشاعر الإنسانية, التي قد تتعارض مع متطلبات العلم, وهم يستشهدون في ذلك بما حدث لأوبنهايمر أبي القنبلة الذرية. ففي نوفمبر عام 1945 وبعد ثلاثة أشهر من قصف اليابان بالقنابل الذرية الأمريكية التي أزهقت أرواح مئات الآلاف من البشر أعلن أوبنهايمر وهو في نشوة الانتصار بنتائج بحوثه العلمية, ومدافعا في الوقت نفسه عن حيادية العلم, أنه من المستحيل أن يكون المرء عالما دون أن يؤمن بالقيمة الخالصة للعلم في ذاته بالنسبة للإنسانية, وأن العلماء على استعداد دائما لأن يتحملوا مسئولية نتائج بحوثهم, فكأنه كان ينكر محاولات إخضاع العلم للتقويمات الأخلاقية. ولكنه لم يلبث أن نادى مع غيره من العلماء بضرورة وضع استخدام القوى الذرية تحت إشراف مؤسسة أو مفوضية دولية وعدم ترك الأمور في أيدي الدول وحدها. وفي عام 1948 اعترف بأن (علماء الفيزياء يشعرون بالذنب, وأن هذا الشعور لن يفارقهم أبدا).
ولكن الظاهر أن الدعوة إلى ضرورة مراعاة العلماء الأبعاد الأخلاقية والإنسانية في بحوثهم هي مجرد صرخة في واد, ولا تكاد تجد من يستمع إلى صداها. وهذا وضع يدعو إلى الإحساس بكثير من الأسى والإشفاق على مستقبل (الإنسانية) رغم - أو ربما بسبب - كل ما سوف يحققه البحث العلمي من اكتشافات في ارتياده كثيراً من المجالات التي لاتزال مجهولة والتي تخبئ وراءها كثيرا من المفاجآت. وسيكون الخاسر في نهاية الأمر هو (إنسانية) الإنسان.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - العلمانية