منير شفيق: الطريق إلى الحداثة يبدأ بانتقادها!
إسلام أونلاين 11/03/2004
جواد الشقوري
|
منير شفيق وطه عبد الرحمن في ملتقي الحكمة للمفكرين بالرباط |
في بداية مداخلته التي كان عنوانها "الحداثة والعلوم الإنسانية"، والتي أقيمت في كلية العلوم بالرباط (27/2/2004)، أشار الأستاذ منير إلى أنه عندما يقال يجب أن ندخل الحداثة أو أن نصبح حداثيين المقصود أن نتمثل بالأنموذج الغربي في كل المناحي الحياتية.. بهذا المعنى لا تصبح الحداثة فقط فلسفة الأنوار وما يقوله مفكروها، إنما تصبح أيضا النظام نفسه القائم في الغرب ونمط الحياة الاقتصادي والاجتماعي والإنساني..
ومن خلال هذا التحليل فإن الاستعمار -في رأي منير- بكل مراحله والهيمنة الخارجية وما عرفته هذه الحضارة من ألوان العنصرية؛ ابتداء من إبادة الهنود الحمر في الولايات المتحدة، والتمييز العنصري الذي مورس ضد السود وضد شعوب كثيرة يجب إدراجه في الحداثة، ويؤكد شفيق أن الحداثة يجب أن تقرأ من كل جوانبها وألا تجزأ؛ وهذا في تصوره مدخل رئيسي لفهم الحداثة.
بين حداثتين
ما سبق ذكره هو الذي قاد منير شفيق إلى تقسيم الحداثة إلى حداثة مهيمنة ومسيطرة وحداثة تابعة ومقلدة؛ والسبب الذي يبرر هذا النوع من التقسيم هو أن الغرب بطبيعة نظامه غير قابل للتعميم؛ إذ تعميم الرأسمالية وإنتاجها يؤدي إلى دمار هذا العالم.. فالعالم لا يحتمل هذا النمط من الحداثة إذا أدرجنا فيه نمط الاستهلاك والإنتاج الرأسمالي ونمط الحياة العامة الموجودة في الغرب.
وعن الذين يعتبرون أن الديمقراطية أو حرية الرأي أو حرية الفرد يمكن تعميمها، يقول لهم منير: إنها لا يمكن أن تنتزع من إطارها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي القائم في الغرب، وبالتالي النماذج التي تخرج منها هي بالضرورة نماذج تابعة.
من هذا المنطلق كان من الضروري أن نأخذ موقفا نقديا بداية من هذا النظام الرأسمالي العالمي الذي قسم العالم إلى هاتين الحداثتين.. وهذا ينطبق على المؤسسة الاقتصادية وعلى الدولة في العالم الثالث، وعلى الجامعة، وعلى السوق، وعلى أنماط الحياة.. ولفت منير شفيق الأنظار إلى أن الصراع العالمي الذي تمثله الحداثة ليس فقط مع العالم الإسلامي، ولكن مع العالم كله، وبالتالي يجب أن نرى أن جوهر مشكلتنا موجود في العالم.
وفي هذا الصدد تطرق منير إلى الحديث عن الحداثة الاشتراكية التي تعتبر من بين الاتجاهات النقدية للحداثة الغربية، والتي حاولت أن تنقد الحداثة الرأسمالية. وتوقع المحاضر -مع نمو مناهضة العولمة في داخل الغرب- أن تبقى هنالك تيارات داخل الغرب تكافح ضد الحداثة في محاولة لنقدها. بمعنى أن هناك أيضا إشكالات من داخل الحداثة نفسها في الغرب وصراعات حقيقية، خصوصا أن هذه الحداثة سائرة ليس فقط إلى إلحاق دمار كبير بحياة شعوب كما حدث حتى الآن، وإنما سائرة بفلسفتها إلى تدمير البيئة. وهذا ما سيضاعف القوى والأوساط التي ستلعب دورا معارضا ومناقضا للحداثة..
بل حتى ما يسمى "ما بعد الحداثة" والحديث عن غياب المعنى و"اللامعنى" مؤشر على أن فلسفة الأنوار آيلة إلى الانهيار.. وبالتالي -كما يقول منير- لا بد أن تنشأ من داخل الغرب نفسه تيارات تجدد مرة أخرى نفسها لمواجهتها. ويرى أن التيار الماركسي/الاشتراكي يحاول أن يجدد نفسه مرة أخرى منذ ثلاث أو أربع سنوات؛ ليعود إلى الساحة من جديد. ويعتقد منير بأن هذا التيار سيكون واعدا أفضل من التيار الذي سبقه.
الطريق إلى الحداثة
والطريق -والكلام لشفيق- كي ندخل في نمط من أنماط الحداثة المناقضة لهذه الحداثة هو شن نضال عالمي ضد العولمة والنمط الحداثي الذي تريد أن تفرضه.
ولم يفت شفيق أن يشير إلى أن الحداثة الجديدة فيها رائحة صهيونية واضحة، يتجلى هذا في اتجاهات السياسة الأمريكية التي تتزعم هذه الحداثة العالمية بكل أوجهها في هذه المرحلة.. وأشار منير إلى أنه الآن أصبحت هناك محرمات في هذه الحداثة التي تفتخر بحرية التفكير والديمقراطية وحرية الرأي؛ إذ أصبح من الممنوع علينا أن نتحدث عن السياسات الإسرائيلية بذريعة "محاربة السامية"! إن هذه الحداثة -في تصور منير- تدخل طورا خطيرا ينسف كثيرا من القيم الحداثية التي بشر بها الكثيرون؛ فالديمقراطية في الغرب/أمريكا دخلت مأزقا، على الأقل منذ ثلاث سنوات.
وأشار منير إلى أنه ينبغي أن ننظر إلى الأكاديمية الغربية والعلوم الإنسانية والجامعة كجزء من هذه المنظومة بمقاييسها المسيطرة التي أشير إليها.. وذكر منير أن إدوارد سعيد في "الاستشراق" قام بنقد حداثي للأكاديمية الغربية في مجال من مجالات العلوم الإنسانية وهو مجال الاستشراق.. إلى حد أظهر أن كل هذه الهيبة وتلك السيطرة الثقافية لمدرسة الاستشراق أصبحت ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، وأنها قامت على أسس واهية من الناحية المعرفية ومن الناحية العلمية.. حتى إن البعض ذهب إلى القول بأن مدرسة الاستشراق التي تحدث عنها إدوارد لم تعد موجودة، وبدلا منها هناك ما يسمى بالدراسات الإسلامية في الغرب.
وفي تصور منير شفيق فإن نفس الشيء يجب أن يمارَس على مستوى كل العلوم الإنسانية وكل ما بين أيدينا في الأكاديمية الغربية يجب أن تنزع عنه هالته.. وأن يتجرأ العلماء الشرفاء على نقد هذه الحداثة بما فيها فلسفة الأنوار نقدا صارما وعلميا، وعلى أسس دقيقة بديلة؛ لتكون عندنا مناهج ومدارس جديدة في علم الاجتماع، وفي علم النفس، وفي اللسانيات، وفي القانون، وفي الفلسفة، تكون بديلا لهذا النقد؛ نفس هذه العملية -يقول منير- حاول ماركس أن يمارسها في كتابه "رأس المال" عندما قام بنقد النظام الرأسمالي.. وهذا الكتاب يشكل -في نظر منير- نموذجا لنمط النقد الذي يعنيه للحداثة الرأسمالية الليبرالية أو الحداثة المهيمنة.
قراءة جديدة
ومن بين الأمثلة التي ذكرها منير في هذا الصدد: البنك في العالم الغربي؛ إذ رأى أنه يجب ألا ينقد فقط من زاويته الربوية وإنما أيضا من داخله، وأن تدرس آلياته، وأن يرى أخطبوطا يمسك بكل شرايين المجتمع ويمسك بالأفراد وبحياتهم ويقرر إلى حد بعيد أنماط حياتهم وأنماط الاقتصاد؛ حيث إن المشكلة في مبدأ البنك المسيطر والأخطبوط العالمي.. ووجه منير الدعوة إلى الأساتذة والطلبة ومعدي الدكتوراة كي يصرفوا سنوات طويلة من حياتهم، ويكدوا كدا حقيقيا في البحث والتنقيب حتى يخرجوا بنقد علمي دقيق صارم لهذه المؤسسة..
نفس الشيء يجب أن يطبق على علم الاجتماع، وذكر الأستاذ منير أن بعض كبار علماء الاجتماع يتحدثون عن النظام الأبوي في المجتمع العربي، ويصفونه بالنظام البترياركي، وأن معظم كليات علم الاجتماع راحت تتكلم عنه، دون أن تقوم بدراسة دقيقة لمكونات العائلة، بكل جوانبها وبكل مركباتها وتعقيداتها؛ لتقدم لنا نمط العائلة على ضوء دراسة واقعية موضوعية، وليس بنقل مسلّمة تعتبر علمية وتلبس إلينا تلبيسا.. وعندما تأتي لتطبقه على عائلاتنا تجد أن العائلة العربية المسلمة لا ينطبق عليها هذا الوصف ومحدداته!!
فعلوم الاجتماع والعلوم الإنسانية الغربية بما في ذلك الفلسفة الغربية -والكلام لمنير- ليست بالقوة والهالة، حتى من الزاوية العلمية المعرفية التي تتمتع بها، ولولا السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية والمالية العالمية لما صمدت.
وعمليا لا بد -كما يقول شفيق- أن نشجع علماء من بيننا عندهم استعداد أن يقضوا عمرهم من أجل أن يخرجوا بدراسة بديلة لعلم الاجتماع وعلم اللسانيات وعلم الاقتصاد وعلم القانون... ويصبح لها السيطرة العلمية المطلوبة. وهذا الأمر يحتاج إلى نوع من الشجاعة والتخلص من هذه الهيبة المهيمنة على العقول، وأن يكون محصلة جهود سنين وتعاون بين عدة أشخاص.. وأن نهتم بترجمة الأعمال العلمية إلى الإنجليزية مثلا أو الفرنسية؛ فإدوارد معتبر في الأكاديمية الأمريكية؛ لأنه نشر بالإنجليزية.
ويضيف شفيق أنه لو كتب نفس الكتاب أستاذ في عالمنا العربي باللغة العربية لما اهتم به، وما كانت له نفس الهيبة؛ فلا مناص -في تصور منير- من تشجيع الأساتذة والطلبة على خوض غمار هذه التجارب العلمية والدخول إلى عالم الإبداع وليس فقط التقليد؛ إذ طريقنا للدخول في الحداثة يتم من خلال نقدها..
ويؤكد منير على هذه الفكرة قائلا: الذي يريد أن يدخل في الحداثة لا يمكن أن يدخلها مسيطرا عليه مقلدا ضائعا، وإنما يجب أن يدخلها ندا ناقدا مقدما جهدا حقيقيا، وهذا الجهد حتى يكون له تأثيره يجب أن يتمتع بدرجة من القوة والسطوة العلمية، وهذا يتطلب المشاركة والدعم والتكامل.
ولم يفت منير أن يشير إلى ضرورة استعمال الوقف في ترجمة ونشر أعمال علمية ذات قيمة فعلية تقرأ وتقدم على مستوى لغات أخرى، وإلى لغات لمخاطبة شعوب العالم الثالث؛ لأن مثقفيها يدخلون إلى الثقافة من خلال هذه اللغات. وإذا كنا نتحدث عن إبداع معرفي فلا بد أن نهيئ له أسبابا اجتماعية من المجتمع تكون مستقلة.
حضارة اللامعنى
ومن بين ما يحفزنا على الإسراع في إنجاز ما سبق وجود أرضية ناضجة على المستوى العالمي؛ إذ هناك حراك في أمريكا اللاتينية وفي الغرب.. ومناقشة لما يجري في هذه الحضارة التي ستوصلنا إلى اعتبار أن أهم قيمة هي "اللامعنى"؛ وحتى العلوم والتقنيات التي تجري في هذه الحداثة -كما يذكر الأستاذ منير في تحليله- تسير بلا هدف وبلا غاية محددة؛ فالذي لعب دور العمود الفقري في التطور العلمي والتقني والصناعي في الغرب كان المؤسسة العسكرية وبرعاية البنتاجون..
ومن الأمثلة التي ذكرها منير الهاتفُ الجوال الذي كان موجودا عند الجيش قبل عشرين سنة، وظروف الحرب الباردة كانت تمنع خروجه.. وأيضا بالنسبة للكمبيوتر والإنترنت.. كل هذه التقنيات ذات الاتصالات العجيبة، يقول منير: لا تنزل إلى عالم الاستهلاك والإنتاج المدني إلا بعد أن تكون قد تقادمت 10 سنوات لبديل آخر موجود!! وفي هذا الإطار يتساءل الأستاذ منير: كيف يستقيم أنه حتى في مجال التطور التقني والعلمي وتطور الأدوية ألا يكون هدفها الإنسان والغالبية الساحقة من شعوب العالم، وألا يكون هدفها الحفاظ على الطبيعة ومستقبل أولادنا؟!
لا يجوز أن يبقى فقط الهدف هو السيطرة والقوة العسكرية، والوصول إلى الصاروخ والطائرة والقنبلة الذرية والقنابل الجرثومية... هل يجب أن يكون الهدف السرعة الهائلة لاكتساح الآخر، وألا نضع لاتجاه تطور العلوم والتقنيات أهدافا أخرى أكثر إنسانية.
ولم يفت الأستاذ منير شفيق أن يرد في المناقشة على الذي يعتقدون بأن الغرب حقق التقدم بفضل تخليه عن الدين وانخراطه في التقدم العلمي.. وبين الأستاذ أن العلمانية الفرنسية ربما حاولت أن تقيم سدا منيعا بين الدين والحداثة أو التقدم، ولكن في الثقافة الأنجلوساكسونية لا نلاحظ مثل هذا التصور للدين، ولا أحد يقول عن بوش وتياره الراجع بصورة مشوهة للتوراة أنه خارج عن الحداثة!!
الانفصال عن الواقع
ويعتقد منير أن النقاش الفكري ومناقشة القضايا من الزاوية الفلسفية والمفاهيمية والفكرية يبتعد كثيرا عن مناقشة واقع العالم المعطى، وكأننا خارج المعارك الحقيقية الدائرة، سواء على المستوى الدولي بين الدول الكبرى في داخل ما يسمى بالحضارة الغربية أو على المستوى العالمي..
وعن الذين يقولون إن الغرب تقدم بسبب العقل العلمي والتخلص من الأساطير والتحرر من الماضي، وفصل الدين عن الدولة.. رأى منير أن هذا لم يكن السبب الرئيسي وراء تقدم الغرب.. ويقول منير شفيق بأنه ليس من المدرسة التي لا تقرأ المفاهيم والأفكار عبر التاريخ وعبر الوقائع والإستراتيجيات الدولية. فالذي حرك الفكر الذهني عند الغرب، وجعله يتخلص سواء من الحكم المطلق أو من نفوذ الكنيسة كان انفتاح الآفاق على الغرب للتوسع، وحاجة الأسطول لفتح العالم من جديد. ويدعونا منير إلى ملاحظة أن كل ما حدث من نهضة وتطورات فكرية تم بعد "اكتشاف أمريكا"، وبعد "اكتشاف رأس الرجاء الصالح"، وبعد تدفق الثروات الضخمة على أوربا في ذلك الوقت!
والذين يقولون: كيف يمكن أن يكتشفوا كل ذلك إذا لم يكن عندهم تطور علمي؟! يقول لهم شفيق: هذا التطور العلمي الذي قاد كولومبوس كان معتمدا على تطور العلوم البحرية عند العرب والمسلمين، حتى إن ماجلان لما كان في اكتشافاته كان هناك بحارة لعبوا دورا أساسيا في قيادة السفن في ذلك الوقت... وعندما بدأت الثروات تتراكم، وبدأ الأسطول يلعب دورا أساسيا في التوسع وفي مراكمة هذه الثروة أصبحت هناك ضرورات لتطوير العلم والوضع الاقتصادي والوضع السياسي. ولم يكتفِ منير بتقرير هذه المسألة، بل ذكر أن الديمقراطية هي نتاج هذه العملية التاريخية.
إن الذين يقولون: إن الغرب تقدم لأنه فصل بين الدين والدولة، هم يريدون فقط -يقول منير- أن يبعدوا موضوع الإسلام، والرؤية الإسلامية لموضوع الدولة.. ويضيف: إذا جاءت دول وفصلت بين الدين والدولة فلا تظنوا أنها ستتقدم، ولا أنها ستخترع الذرة، وستكون لها أساطيل، وسوف تستطيع أن تتحدى!
وبيّن الأستاذ أنه في كثير من بلدان العالم الثالث فصلت عمليا بين الدين والدولة، ولم تتقدم بالمعنى العلمي والقوة العسكرية كما حدث في الغرب!!
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - الحداثة في عصر التعددية الثقافية