الوعي بالعلم ضرورة ثقافية
هادي نعمان الهيتي
مجلة العربي الكويتية - الأول من مارس 2007
خلال القرون الأربعة الماضية، ظل العلم يقتحم الركائز العتيقة للحضارة، ويحل محلها، حتى أمسى ركيزة جوهرية لبناء المجتمعات الحديثة والمعاصرة، ولتقدمها.
بظهور الفكر العلمي تضاءل دور الأيديولوجيات، وتلاشى دور الاعتباطية، وانحسر دور الحس الدارج Common-sense في هذه المجالات الكبرى، وظلت اليوتوبيات أحلاما وردية في بعض الرءوس فقط . واليوم، صار للعلم دور بارز في الحياة، وفي مجمل تطوراتها الحيوية، وفي مقدمتها تطورات التنمية، وشئون المعلومات، والسكان، والموارد، ومجمل المسائل الاجتماعية والنفسية والطبيعية الأخرى، بما فيها الأزمات والنزاعات، وكل ما يهدد السلام الاجتماعي.
وإذا كانت مجتمعات بعينها، قد سارعت إلى الأخذ بالفكر العلمي في التعامل مع الموضوعات والقضايا، وأحرزت قصب السبق في ميدان التقدم، غير أن مجتمعات أخرى لم تلتفت إلى مسألة المشاركة الفعالة في الحياة العلمية إلا بعد فوات الأوان، لهذا فإن فجوات فكرية ظلت تفصل بين حيوات المجتمعات من بينها الفجوة العلمية، حيث تتصدر بعض المجتمعات الحياة العلمية، ويقف البعض الآخر متفرجًا أو متأملاً بشيء من الحسرة.
ولهذا تعاني الكثير من المجتمعات، من
أزمة في انحسار الفكر العلمي في مستويات ضيقة، إذ يكاد يكون مقصورًا على
مجالات محدودة دون أن يشيع في مضمونه ومنهجه بين أفراد تلك المجتمعات وبين
جماعاتها، وكأن هذا الفكر حكر على مؤسسات بعينها كالجامعات ومراكز البحوث،
في وقت يقتضي فيه سيادة الفكر العلمي في المجتمع، وأن يكون من ذلك الفكر
إطار مرجعي أساسي في التعامل مع المشكلات وفي فهم العلاقات وتفسيرها وتسيير
الموضوعات والظواهر، والتنبؤ بتغيراتها ومآلاتها.
ضعف الوعي
بالفكر العلمي
ويفصح هذا الوضع عن معضلة يعاني منها
الكثير من المجتمعات، اليوم، هذه المعضلة هي ضعف الوعي الاجتماعي بالعلم،
حيث إن درجة التقدم العلمي لا تقاس بأعداد العلماء وحدهم، بل هي تتطلب
انتفاعًا واسعًا من الحركة العلمية، والفكر العلمي مع سيادة الوعي المستنير
بالعلم على مستوى الجمهور عامة، مادام الجمهور يؤلف حضنًا لأي قضية معرفية
في مقدمتها: العلم. إن المشتغلين بالعلم، بالرغم من أنهم يشكّلون نسبة
صغيرة في أي مجتمع، فإن الوعي بالعلم يقتضي أن يتسع اجتماعيًا، بحيث يشمل
المجتمع بأكمله، والسبيل إلى ذلك، هو أن يكون الوعي بالعلم مركبًا من
مركبات الثقافة، أي أن يتسع على نطاق المجتمع، مادامت الثقافة بناء ونشاطًا
إنسانيًا، له جذوره في الماضي، وله وجوده في الحاضر، وله مآلاته في
المستقبل، مثلما له سعة في عناصره ومركباته، وله صفته العامة، إذ يشمل
أفراد المجتمع.
مستويات الثقافة
ومع أن الثقافة نشاط إنساني - له حضور معنوي ومادي - يرتبط بأنماط السلوك والتفكير المشترك السائد في المجتمع، ومع أن العادات والتقاليد الأخرى تشكل جزءًا من الثقافة، فإن الثقافة تتسع لتشمل جوانب فكرية وأدبية وفنية، ومن هنا صارت للثقافة مستويات من بينها الثقافة الرفيعة. وارتبطت الثقافة بالمجتمع وبمؤسساته، وبالسياسات، والكيانات السياسية، وبالتنمية وأهدافها، وبالمشاريع الوطنية والقومية والإقليمية، بل هي ارتبطت بكل فعاليات المجتمع بما فيها نجاحاته وإخفاقاته حتى بلغ الأمر إلى ارتباطها بكل صغيرة وكبيرة في الحياة، بما في ذلك بكائيات الأمة وكركراتها. وإذا كانت للثقافة دلالاتها الانثروبولوجية، فإن لها دلالات مكملة منها تلك الدلالة التي تتمثل في ذلك التعبير الراقي عن الفكر والوجدان والتجسيد المبدع للأفكار والمعاني والقيم والآمال في صيغ أدبية وفنية وإعلامية، وهي بهذا لها صفة نخبوية إضافة إلى صفتها العامة مادام التعبير عنها يتحقق من خلال المبدعين، وبالإضافة إلى هذا فإن للثقافة دلالة تتمثل في السمات الأساسية، التي تسبغ ظلها على حياة المجتمع أو تعطي صورة على «نوعية» حياة المجتمع.
وتحليل الثقافة، في أي مجتمع، ينتهي إلى أنها تتشكل من مكونات صغيرة هي العناصر إلى جانب مركبات ثقافية، ومن بين هذا وذاك تتشكل ثقافات فرعية في داخل الثقافة العامة، وتعنينا الإشارة هنا إلى «الوعي بالعلم» بوصفه مركبًا ثقافيًا ينطوي على منظور اجتماعي إلى الفكر العلمي. وعند تصنيف كل مجموعه متقاربة من العناصر الثقافية يتكون مركب ثقافي يمكن أن يكون ضرورة ثقافية، في هذه الثقافة أو تلك، حيث تستدعي المتطلبات الإنسانية نهوضًا بالحياة والثقافة، ومسايرة لتطورهما. ولكن يمكن أن تشكل مجموعة من العناصر الثقافية تعويقا للتغيير والمسايرة، وذلك حين تأخذ العناصر شاكلة رواسب وعقد ثقافية في ثقافة هذا المجتمع أو ذاك. ويمكن تشخيص عدد كبير من الضرورات الثقافية، وذلك حين يجمع المجتمع على الأخذ بالفكر المرن والمنفتح وبالسلوك المنظم، وبالفعاليات المنتجة.
ومن هنا فإن الوعي هو ضرورة ثقافية مادام الوعي إدراكًا مستنيرًا وسلوكًا يقظًا وبناءً.
وينطوي الوعي بالعلم على ثقة المجتمع بنظرات العلم وقواعده وتوجهاته، مع الأخذ بأسسه في التعامل مع القضايا والمشكلات، والالتزام بضوابطه المنهجية، ذلك أن تلك الشروط تؤلف أسس التفكير العلمي الذي يعد العلم وليدًا له. وإذا وجدنا مجتمعا تكبله المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنظيمية والإنتاجية، فإنه من الممكن الحكم بأن مرجع ذلك يعود - أولا - إلى قصور في حركة العلم، لأن العلم ما وجد إلا من أجل وضع حلول للمشكلات. وإذا كان المشتغلون بالعلم يلتزمون بتفاصيل المنهج العلمي ودقائقه، وبضوابط الفكر العلمي فإن الوعي بالعلم على مستوى الجمهور يفترض أن يسبغ العلم بظله على المجتمع، وأن تسود - في المجتمع - رؤى ومنطلقات العلم.
وقد تسلل مفهوم «الوعي» من المجال
الثقافي والأيديولوجي ودخل مجال العلم أيضًا، وصار أحد مصطلحات العلوم
الإنسانية، بالرغم من أنه لايزال كثير التردد في الخطابين الثقافي
والأيديولوجي، الأمر الذي جعل من دلالته غير محسومة في المجالات كلها، حيث
تتعدد المنظورات إلى «الوعي» غير أنها تجمع كلها على كبر تأثيره في المجتمع
بما في ذلك تحريك المجتمع أو تهيئته للمواقف الكبيرة. والوعي - في معناه
العام - تشكيلة من الأفكار والاتجاهات والمفاهيم والنظرات والصور الذهنية
إزاء الظواهر أو الموضوعات الكبيرة، وهو على أساس ذلك، ينبغي أن يؤلف
مكونًا له أهمية في الثقافة الحديثة، إذ تزداد الثقافة ثراء، ويزداد الوعي
غنى حين يتجسد فيها الفكر العلمي.
متطلبات الوعي
بالعلم
والوعي بالعلم لا يعني إلمام المجتمع أو إحاطته بالمعلومات العلمية، سواء
أكانت تلك المعلومات طبيعية أم إنسانية، لأنه قد يحيط الفرد أو المجتمع
بمعلومات علمية دون أن تتحقق الاستنارة بالعلم. ومن هنا يتطلب الوعي بالعلم
ألا تكون العقول خزائن معلومات، إذ لا بد أن يتحقق سلوك ملتزم بالفكر
العلمي بما في ذلك منهجه، فقد نجد من يحفظ عن ظهر قلب، معلومات كثيرة في
العلوم دون أن يتضح الوعي بالعلم، لذا يترتب أن يكتسب الوعي بالعلم صفات
قيمية تشكل النظرة العلمية التي تعد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة، إذ هو يدخل
ضمن القيم والتصورات والأفكار والاتجاهات، وتقود هذه كلها في تحديد السلوك
وتوجيه التفكير، ويظل الوعي بالعلم مستقلا عن العلم.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي بين الشرق والغرب - المعرفة العلمية