منظورنا الحضاري الإسلامي: كفى قياسا على النموذج الغربي
شيرين حامد فهمي**
إسلام أونلاين - 24 سبتمبر 2005
وقعت الأمة الإسلامية منذ القرن الثامن الهجري فريسة للأفكار الملتبسة والمشوهة. وأسفر ذلك عن ممارسات مغلوطة كثيرة أدت إلى الإخفاق الحضاري لهذه الأمة، وتحولها من أمة شاهدة عادلة إلى أمة مشهودة بائسة، يشهد على فشلها جميع الأمم والحضارات.
حول الأمراض الفكرية المتواجدة داخل الأمة الإسلامية، أقام برنامج "حوار الحضارات" بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في الفترة من 4 إلى 7 سبتمبر 2005 دورة تثقيفية تحت عنوان (التثقيف الحضاري: من أجل بناء الذات الحضارية والوعي الحضاري) ناقشت الأعراض والأسباب، وطرحت بعض الحلول لاجتثاث تلك الأمراض من العقول المسلمة.
وخلصت إلى ضرورة استنهاض أسلوب جديد
للتفكير يتلاءم مع منظومتنا الإسلامية ورسالتنا الحضارية عبر إعادة تربية
المسلمين سياسيًّا على المفاهيم الأصيلة المُستلهمة من الإسلام، وبناء
الجسور بين العلوم الاجتماعية والتراث الإسلامي وليس الاكتفاء فقط بأخذ
المفاهيم والمنظورات الغربية، والعمل على بناء نموذج حضاري إسلامي في وقت
بات فيه التحليل الثقافي للظواهر الدولية هو السائد والشائع بين باحثي
العلوم الإنسانية على مستوى العالم ككل.
المطبات
المفاهيمية
لفت معظم المحاضرين في
هذه الدورة التثقيفية الأنظار إلى أبرز ما يواجه الأمة الإسلامية، وهو
سقوطها في فخ مفاهيمي، قادها إلى حالة من التخبط في فهم التاريخ وطريقة
النظر إلى المستقبل. فتطرق المستشار "طارق البشري" إلى مفهوم "المعاصرة"
الذي سقط فيه المسلمون بعيد الاستقلال من الاحتلال الغربي، فاستسلموا لحديث
الغرب وللحضارة الغربية، ونظروا إلى أنفسهم من خلال الغرب فقط، بل وقسموا
التاريخ على حسب الحوادث الأوربية لا الإسلامية. فأضحت عصور اضمحلال
المسلمين -بدايةً منذ القرن الثامن الهجري- هي عصور "التنوير" أو "العصور
الحديثة" لأوربا.
إبراهيم
البيومي غانم
وعلى نفس المنوال، أشار د. إبراهيم البيومي غانم إلى سقوط جميع التيارات الفكرية العربية في فخ واحد هو جعل الغرب "النموذج" الذي يقاس عليه، فكانت هناك دائما مقاربة أو مقارنة بالنموذج الغربي. مقاربة تقوم بها التيارات الإسلامية غالبا لتقرب بين أمر كان موجودًا في الخبرة الحضارية الإسلامية وأمر صار موجودًا في الخبرة الحضارية الغربية، ومقارنة تقوم بها التيارات العلمانية بين الحضارتين الإسلامية والغربية لتصب بعدها النقد على الحضارة الإسلامية ذاتها.
وتحدث الأستاذ "شريف عبد الرحمن" عن مفهومين ملتبسين لدى كثير من الباحثين المسلمين تم نقلهما من الفكر الغربي هما "الاستقرار" و"الحل الديمقراطي". المفهوم الأول لا يتوافق مع المنظومة الإسلامية التي يحيا من خلالها الإنسان المسلم في حالة دائمة من التدافع: بين السكون والحركة، بين الشر والخير، بين الموت والحياة. بينما خلط الغربيون المادة بالإنسان، واعتقدوا أن الإنسان كالمادة يكون في حاجة إلى الاستقرار بعد فترة من الزمن. وهذا على عكس المسلمين الأوائل الذين كانوا دوما في حالة من عدم الاستقرار لدى خروجهم الدائم للغزوات والفتوحات في سبيل نشر الدعوة، لكنهم كانوا مطمئنين في داخلهم؛ وهذا هو الفارق بين الاستقرار والطمأنينة، وبين المادة والإنسان.
أما مفهوم "الحل الديمقراطي" الذي صار رائجا في أوساط المسلمين، فهو يسعى إلى إيجاد نماذج تنظيمية على شاكلة الغرب، ويغفل المعنى الحقيقي للديمقراطية كقيمة ولا ينقل سوى الآليات والنماذج فقط دون ربطها بقيمنا الإسلامية الأصيلة.
خلط مفاهيمي آخر تناولته د. هبة رءوف ألا وهو مفهوم "تمكين المرأة" الذي استُخدم لتمكين الدولة القومية في نهاية الأمر، وأنتج ما يمكن وصفه بتأنيث الاستبداد، أي تمكين المرأة في ظل دول استبدادية تدخل المرأة في سباق على المناصب العليا دون أن تدرك المرأة أنها بذلك تمكن الدولة ذاتها.. إنه مفهوم أفرغ من محتواه الحقيقي، وأدى تطبيقه إلى كوارث لم تكن في الحسبان.
فرغم حق الفتاة في التعليم والتثقيف والتوظيف وغيره، فإن مفهوم تمكين المرأة ذاته كانت عوائده خراب بيت المرأة وأسرتها بعد أن استعلت المرأة على وسطها الاجتماعي، وبدأت تسارع في طلب الطلاق من جانب والتفرغ لطلب مزيد مما تتصوره حقوقها من جانب آخر.
وأشار د. سيف الدين عبد الفتاح إلى بعض المصطلحات التي تشيع بين المسلمين وتستخدم لتبرير الأخطاء مثل "عنق الزجاجة" أو ما تسميه بعض النخب "فترة انتقالية" أو المنعرج التاريخي. هذه المسميات تجعل المسلمين دائمًا في حالة ضرورة واضطرار، مما يبيح لهم الأخذ بالمحذورات ويجعل المسلمين أسرى للاعتذاريات والتبريرات والتأجيلات على طول الخط.
ويقول د. سيف: "إن
الضرورة لها أحكامها التي تتعلق بالزمان والمكان والإنسان، وهي أحكام لا
يقرها إلا القضاة والفقهاء الواعون بعمق بالمقاصد الشرعية، وليست كل ضرورة
واجبة، ولا تُطلق على الدوام كما يطلقها المسلمون الآن".
الدكتورة نادية مصطفى
واستنكرت د. نادية مصطفى ذلك التحيز الغريب الذي تصر عليه الجامعات العربية في تدريس النظريات الغربية فقط. فمثلا اعتبر الباحثون المسلمون مفهوم "الدولة" هو وحدة التحليل الأولى والأخيرة في دراسة العلاقات الدولية وجعلوه الأداة المثلى للتفسير والتحليل. بل إن الغرب قد اتجه الآن إلى دراسة الدين والثقافة كمداخل جديدة لتفسير الظواهر الدولية، في حين لا يزال المسلمون عاكفين على دراسة نظريات "الواقعية" و"القومية" النابعة من مفهوم "الدولة" ذاته رغم انتهاء صلاحية هذه النظريات بشهادة واعتراف أصحابها.
لقد أدى هذا التشويش والخلط المفاهيمي
الناتج عن التشدق بالمرجعية الغربية إلى خلق حروب فكرية في أوساط المسلمين،
أسفرت عن تبديد الطاقات وتغييب القوة الذاتية. فهذه الازدواجية المستشرية
في مجتمعاتنا العربية مثل الازدواجية في القضاء (أهلي/شرعي)، وفى الأحياء
(شعبي/غربي)، وفى التعليم (أزهري/غربي).. إلخ، كانت أدوات مساعدة لتأجيج
الصراعات المرجعية التي أعادتنا إلى الوراء وجعلت معظم الإنتاج العربي غير
مفيد؛ لأنه قام بتنسيب المطلق وإطلاق النسبي كما يذكر د. علي جمعة مفتي
الديار المصرية في كتابه "الطريق إلى التراث الإسلامي: مقدمات معرفية
ومداخل منهجية"، الأمر الذي أدى إلى تدمير قدرة الإنسان المسلم على توليد
العلوم المختلفة.
مواجهة المأزق الحضاري
ولمواجهة هذا المأزق
الفكري الذي أدى إلى تراجع قدرة المسلمين على الإسهام المعرفي وغرقهم إما
في التاريخ أو في استنباط نماذج أخرى يصعب تطبيقها على العالم الإسلامي،
خلص المحاضرون بهذه الدورة التثقيفية إلى بعض المحاور التي يمكن العمل من
خلالها في سبيل استنهاض وتفعيل الثقافة الإسلامية من جديد في طريقة التفكير
والتنظير والبحث. وأبرز هذه المحاور:
أولاً: إنشاء الجسور بين
العلوم الإنسانية والتراث الإسلامي: ويعني هذا الاقتراب من مداخل العلوم
التراثية الإسلامية بهدف التعرف عليها والوقوف على الفجوة الماثلة بينها
وبين مداخل العلوم الإنسانية، ومن ثم السعي وراء تجسير هذه الفجوة. فعلى
الباحث المسلم أن يجدد منهجيته طبقًا لنموذج معرفي إسلامي يقوم على فهم
وإدراك العقلية التراثية الإسلامية، ومعرفة طرق التفكير لدى الفقهاء
القدماء والتي لم تخرج عن ثلاث آليات: الفهم، ثم التجريد، ثم الاستنباط.
فالفقهاء -كما يقول "البشري"- فاقت جهودهم جهود الفلاسفة، ومن الخطأ قصر
الجهد الفكري على الفلاسفة فقط.
ثانياً: انفتاح واعٍ على الغرب:
يقوم على الهضم والانتقاء. الهضم الحضاري للآخر، وانتقاء ما هو نافع لنا
كمسلمين ثم ربطه بمرجعيتنا. فالمهمة هي الفصل بين النموذج التنظيمي الغربي
وبين مرجعيته الغربية، ثم ربطه بمرجعيتنا الإسلامية. فالبرلمان الإنجليزي
مثلاً لا اعتراض عليه من حيث الهيكل والبنية والتنظيم، إلا أنه من حيث
المرجعية عليه اعتراضات كثيرة، وعلى من يأخذ بهذا النموذج أن يطوعه إلى
المرجعية الإسلامية.
ويرتبط بذلك مسألة ضرورية هي تجديد الخطاب الديني ليصب في صالح الإسلام. وأيضا الفهم الواعي للمعاصرة بما يستجيب لمشاكلنا الخاصة وليس لمشاكل الآخرين. ولا ينفي ذلك احتياج المسلمين إلى نقل بعض الأمور الهامة من الغرب، مثل فنون الصنائع وعلوم الإدارة.
إن على المسلمين بناء
الجسور مع الغرب بأنفسهم كما فعلوا في العصرين الأموي والعباسي حين أخذوا
المشترك الإنساني بين حضارتهم وحضارة الغير تاركين خصوصية حضارة هذا الغير.
وهذا لا بد أن يكون أساس التفاعل الواعي وحوار الحضارات بين المسلمين وغير
المسلمين بما يقود إلى تفكيك الالتباسات المغلوطة من كل طرف تجاه الآخر.
ثالثاً: إعادة هيبة العلم وتفعيله في المجتمع: ويبدأ ذلك بحل المشكلات
المرتبطة بخصخصة التعليم، وفقدان الحميمية بين الطالب وأستاذه، واختزال
العملية التعليمية في الكتب والملازم دون الروح والصبغة، وغياب البيئة
العلمية الناضجة التي تدعم التعاون بين الباحثين.
ولن تتم إعادة هيبة
العلم في الأمة الإسلامية دون أن يصبح طلب العلم "هوس" دائم يشغل أولي
الأمر والمسلم العادي، حيث إن أمة الإسلام هي في النهاية أمة الخير للبشرية
كلها. وهذا يستلزم التوعية بأهمية العلم الذي يأمر به الإسلام وهو العلم
الذي يرد إلى الواقع، وأن يكون للعلم ما أطلق عليه د. حامد ربيع أستاذ
النظرية السياسية "الوظيفة الكفاحية للعلم".
الدكتور
سيف الدين عبد الفتاح
رابعاً: التربية على السنن والتفكير بالمقاصد: يرى د. سيف عبد الفتاح
أن ثمة سبعة شروط للنهوض بالأمة الإسلامية هي: العقيدة الدافعة، والشريعة
الرافعة، والقيم الحاكمة، والأمة الشاهدة، والحضارة الفاعلة، والسنن
القاضية، والمقاصد الحافظة.
ويركز على "المقاصد الحافظة" التي يجب أن تتجه نحوها الأمة الإسلامية. فالأمة قبل كل شيء من الأم، والأم هو القصد. وفي الإسلام توجد خمسة مقاصد يجب على الأمة الحفاظ عليها: الدين، النفس، النسل، العقل، المال.
وهي إما تُحفظ حفظاً سلبيًّا من خلال دفع المضرة؛ وإما تُحفظ حفظاً إيجابيًّا من خلال جلب المصلحة. وبين الاختيار بين دفع المضرة وجلب المصلحة لا بد من فهم الواقع وجمع المعلومات حول هذه المقاصد الخمسة، ثم يسأل فيها الفقهاء والقضاة للوصول إلى التوازن المرجو.
وحول السنن، أوصى
الأستاذ "شريف عبد الرحمن" بالنظر إلى الظواهر على المستوى الكلي. ويعتمد
ذلك على دراسة السنن التي تمثل القاعدة الحاكمة للعلاقة بين الفعل الإنساني
وعاقبته. أي التحلل من المنطق السببي إلى المنطق الارتباطي، حيث يكون
التفسير معتمدا على الربط بين الفعل الإنساني وعاقبته، وليس على العلاقة
السببية. فهذا مفتاح التحرك الناضج لفهم التاريخ وبناء نموذج حضاري واعٍ
للأمة الإسلامية.
خامساً: استدعاء مفهوم الأمة كوحدة أساسية
للتحليل: تدعو د. نادية مصطفى الباحثين المسلمين إلى البدء في تدشين علم
عالمي للعلاقات الدولية ينطلق من منظور حضاري يرتكز أساسا على مفهوم الأمة
كوحدة تحليل لتفسير العلاقات الدولية، والتخلص من ذلك التيار السائد الذي
يقول: إن الرابطة القومية لا تعلوها رابطة عقدية؛ لأن الاستمرار في النظر
إلى العلاقات بين الدول الإسلامية من منظور "الواقعية" و"القومية" لن يجدي
ولن ينقلنا إلى مستوى الأمة تنظيريًّا أو واقعيًّا.
ويعني استدعاء مفهوم "الأمة" أن يقوم علم العلاقات الدولية على الأخذ بالتفسيرات الثقافية والدينية إلى جانب الأبعاد السياسية والاقتصادية، وإلى الوقوف عند التحليل الثقافي ووضع مفاهيمنا في مقابلة مفاهيم الغير.. التدافع تجاه الصراع، الأمة تجاه النظام العالمي، مقاومة المحتل تجاه الإرهاب، التحرير والتنمية هما مفتاح مشكلة الإرهاب وليس عقيدة الإسلام.
وترى د. نادية أنه قد
تم بالفعل تفعيل هذا المنظور الحضاري من خلال عدة إصدارات لمركز "الحضارة
للدراسات السياسية"؛ وهي إصدارات "موسوعة الأمة في قرن" التي تناولت المرأة
المسلمة بين قرنين، ومستقبل التجديد الإسلامي؛ وكذلك إصدارات "حولية أمتي
في العالم" التي تناولت القضايا التالية: العولمة والأمة، العلاقات البينية
والأمة، 11 سبتمبر والأمة، الحدث العراقي والأمة.
وأخيرا..
ثمة ضرورة حيوية إلى
الأخذ بهذه الحلول وتطويرها، خاصة أن الدين قد بات مقترنا بالسياسة سواء
كان مؤدلجا أو مسيسا. فبعض الأدبيات الغربية تصف الأيديولوجيات الوضعية على
كونها دينا، مثل "دين العولمة". ومن ثم فعلى الباحثين المسلمين إدراك أهمية
الثقافة والدين في التنظير والواقع، وأنهم -وفي قلب هذه التفاعلات
السياسية- إما أن يدرسوا أنفسهم بأنفسهم وفق منهجيتهم النابعة من منظومتهم
الإسلامية، أو أن يتركوا أنفسهم أسرى لدراسة الباحثين الغربيين وفق
منهجيتهم النابعة من منظومتهم الغربية.
**باحثة دكتوراة بكلية
الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي بين الشرق والغرب - المعرفة العلمية