الإنسانيات في عصر العلم
د. أحمد أبو زيد
مجلة العربي الكويتية - الأول من نوفمبر 2004
هل يؤدي التقدم العلمي والتكنولوجي البارز في هذا العصر إلى تهميش البحث في الإنسانيات?، هذا ما يناقشه هذا المقال.
يشعر كثير من المفكرين والكتاب والأكاديميين في الخارج بالقلق إزاء الوضع الحالي للإنسانيات ومدى قدرتها على الصمود في المستقبل أمام التقدم العلمي الجارف الذي يبدو أنه لن يتوقف عند أي حدود, وتوجيه الدول في العالم المتقدم معظم اهتمامها إلى تحقيق مزيد من الإنجازات التكنولوجية المتقدمة والمعقدة, والانصراف بشكل واضح عن الاهتمام بالبحوث والدراسات الإنسانية ما أدى إلى تراجعها وعدم إقبال الأجيال الجديدة على التخصص في مجالاتها المختلفة, على عكس ما كان عليه الحال في النصف الأول من القرن الماضي, ما قد يكون له آثار سلبية في المستقبل على العلاقات الإنسانية, وتفاقم المشكلات الاجتماعية التي بدأت تطفو بالفعل على السطح بكثرة, وتقض مضاجع المسئولين أنفسهم نتيجة لغياب القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية التقليدية, التي تعتبر الركيزة الصلبة التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني. ويتساءل هؤلاء المفكرون والكتّاب والأكاديميون الذين يرصدون الأوضاع الحالية عما إذا كان التقدم العلمي والتكنولوجي يقتضي بالضرورة تهميش الإنسانيات بالشكل الذي عليه الأمر الآن, إذ إنه رغم وجود اختلاف أو حتى تعارض بين العلم والتكنولوجيا من ناحية, والإنسانيات من الناحية الأخرى من حيث المناهج وأساليب التحليل والتفسير, فالمفروض على المستوى النظري أنها جميعا تؤلف وحدة متكاملة تهدف في آخر الأمر إلى تحقيق صالح الإنسان والمجتمع. وربما كان أكثر ما يقلق بال المهتمين بالإنسانيات في هذا الصدد هو الاعتقاد بأنه في الوقت الذي تهتم فيه الدراسات الإنسانية بالتغلغل في أعماق التكوين البشري للكشف عن أسراره النفسية والعقلية, فإن كثيرًا من الإنجازات العلمية والتكنولوجية الحديثة, وبخاصة في مجال الاتصال الإلكتروني تكاد تسلب العلاقات الاجتماعية (إنسانيتها) على اعتبار أن الاتصال يتم من خلال الأجهزة أو الآلات الصمّاء بدلا من التواصل المباشر الذي يؤدي إلى التفاعل والتفاهم. والواقع أن الحديث حول هذه المشكلة قديم نسبيا حيث سبقت الإشارة إليها في كثير من الكتابات العلمية والإبداعية في القرن الماضي, ويكفي أن نشير هنا إلى المثال المشهور الذي يستشهد به في العادة وهو رواية جورج أورويل (1984) التي صدرت عام 1948, كما أن الثمانينيات شهدت هي أيضا ظهور عدد كبير من الأعمال الروائية وبخاصة في أمريكا, وكلها تعبّر عن الموقف نفسه والنظرة نفسها إلى العلم والتكنولوجيا, وإن لم تصل في شهرتها إلى ما وصلت إليه رواية أورويل. ثم شهدت التسعينيات بعد ذلك صدور كتابات ودراسات علمية رصينة عن المشكلة ذاتها, وعن الدور السلبي الذي يلعبه الإنترنت في العلاقات السليمة والصحيحة بين الناس, وانعزال الفرد عن المجتمع نتيجة لما أصبح يطلق عليه اسم ظاهرة إدمان الإنترنت, وما سوف يترتب على استفحال هذه الظاهرة من اختفاء, بل وتدمير قيم المجتمع التقليدية المتوارثة أو التي ظلت متوارثة عبر الأجيال حتى عهد غير بعيد.
وليس من شك في أن الإنترنت يفرض كثيرا من
التحديات التي ينبغي مواجهتها مع الاعتراف في الوقت ذاته بأهمية الدور الذي
يلعبه في مجال المعرفة والانفتاح المعلوماتي على العالم وذلك رغم افتقاره
لكثير من العناصر التي تساعد على تحقيق التواصل الكامل أثناء التراسل أو
التخاطب مثل تعبيرات الوجه, وحركات اليد ونبرة الصوت والتلامس أحيانا بين
أطراف العملية التواصلية. ومع ذلك فالذي لاشك فيه هو أن الرسائل
الإلكترونية تبرز قوة الكلمة المكتوبة وفاعليتها في استمرار العلاقات بشكل
أو بآخر بين الأطراف المعنية بما يطلق عليه ميكائيل داي اسم (حركة التسلسل
الإلكتروني) وذلك في مقال نشره عام 1993 في أحد الأبحاث التي قام بها مجلس
الإنسانيات في جامعة جنوب كاليفورنيا, وكشف فيه عن أن سهولة الاتصال عن
طريق الرسائل الإلكترونية تخفف من وطأة العزلة, وإن كانت لا تحل بطبيعة
الحال محل المقابلة المباشرة رغم كل ما يمكن أن يصاحب هذه الرسائل الآن من
(صوت وصورة) حسب التعبير السائد.
وهذا يعطي بعض الأمل للمشتغلين
بالدراسات الإنسانية وبخاصة في مجالي الفن والأدب في أنه قد يأتي اليوم
الذي يستطيعون فيه أن ينشروا على أوسع نطاق إنتاجهم وأعمالهم الأدبية
والفنية عن طريق الإنترنت بعد تطويعها بما يتناسب مع هذه الوسيلة, بل وأن
يستعينوا به في تدريس مواد كالتاريخ والفلسفة ومناقشة قضاياها ونقدها على
نحو ما يحدث الآن بالنسبة للعلوم الطبيعية. وهذا ما يقوم به الآن بالفعل
على نطاق محدود عدد من الجامعات الأمريكية في التعريف بإبداعات أعضاء هيئة
التدريس, بل والطلاب أيضا في بعض فروع الإنسانيات باستخدام ما يعرف باسم
طريقة (الأبعاد المتعددة الاستخدام) على أساس تعدد وتنوع الأطراف التي
يمكنها المشاركة في تقديم المادة أو مناقشتها ونقدها وتعديلها.
الإنسانيات
والعلوم: تباعد أم تقارب?
ويبدو أن الإنسانيات بالمعنى التقليدي المعروف
سوف تواجه في المستقبل القريب كثيرا من الصعوبات التي سوف تتزايد وتتضخم إن
لم يغير المفكرون والباحثون (الإنسانيون) من أساليب وطرق البحث والتحليل
التقليدية التي ظلوا يتمسكون بها طيلة العقود الكثيرة السابقة, ويوسعوا من
نظرتهم إلى المجالات التي ينبغي عليهم ارتيادها, والروافد المتنوعة التي
تصب فيها. أي أن الصعوبات التي سوف تقابلها الإنسانيات ليست كلها راجعة إلى
تركيز الحكومات على الاهتمام بالعلوم الفيزيقية والرياضيات على حساب
الإنسانيات بقدر ما ترجع إلى ظهور أساليب جديدة لدراسة وفهم النظم
الفيزيقية ذاتها والأنساق الاجتماعية, وقيام أنماط جديدة من التفكير والبحث
في مشكلات الفكر مما يستوجب إعادة النظر في الافتراضات والدعاوى الأساسية
التي كانت تؤخذ كقضايا مسلّم بها على ما يقول جون بروكمان في مقال عن
(الإنسانيين الجدد The New Humanists) نشره في 24 أبريل 2004 من خلال مؤسسة
Edge التي يشرف عليها. وتتمثل هذه المستحدثات في ظهور بيولوجيا جديدة عن
(العقلMind ) وتحقيق تطورات مهمة تعتبر بمنزلة طفرات واسعة في ميادين
البيولوجيا العصبية والهندسة الوراثية وكيمياء المواد وغيرها من الإنجازات
العلمية التي تؤلف تحديا للافتراضات القديمة عن الطبيعة البشرية وعن (معنى)
الإنسانية. والمهم في هذا كله - على ما يقول بروكمان - هو أن الإنسانيات
والعلوم بدأت تتقارب من جديد بعد طول تباعد وانفصال, وتتحد معا لتؤلف ثقافة
واحدة شاملة يطلق عليها اسم (الثقافة الثالثة) ويقصد بها الإشارة إلى أن
مركز (الفعل العقلي) - حسب تعبيره - أصبح في الوقت الحالي في أيدي العلماء
وبعض المفكرين الإنسانيين ذوي الميول العلمية, وهؤلاء هم الذين يؤلفون
(الإنسانيين الجدد). فالعلم هو إذن مركز الثقل في الثقافة الجديدة على عكس
ما كان عليه الوضع في الماضي غير البعيد.
الثقافة الثالثة
الواقع أن هذه النظرة إلى الأمور كانت قد بدأت تغزو ذهن بروكمان منذ عام 1992 حين نشر مقالا بعنوان (الثقافة الثالثة البازغة), وفيه يشير إلى أن مجال الحياة العقلية في أمريكا أخذ يتحوّل بخطى واسعة عن مساره المألوف, بحيث أصبح التفكير التقليدي مهمشًا إلى حد كبير, ولم تعد معرفة الشخص لآراء مفكرين كبار من أمثال فرويد وماركس أو الإحاطة باتجاهات الحداثة مؤهلا أومسوغا كافيا لاعتبار ذلك الشخص مثقفا لأن هذه ثقافة (لا أمبيريقية) تغفل العلم الذي هو سمة العصر, بل إنها على أفضل الأحوال مجرد شروح على شروح, أو تعليقات على تعليقات سابقة, ولا تكاد تأخذ في اعتبارها عالم الواقع والحقيقة. فهي إذن ثقافة حفرية في سبيلها إلى الزوال والاندثار كي تحل محلها هذه الثقافة الثالثة البازغة التي يبشر هو نفسه بها. وبعد أن كان مفكر مثل سي.بي.سنو يتكلم عن (الثقافتين) وهما ثقافة المفكرين العقليين, وثقافة العلميين, فإن هذه الثقافة الثالثة الجديدة تضم رجال العلم في المحل الأول, والمفكرين الإنسانيين الأمبيريقيين الذين بدأوا من خلال كتاباتهم يحتلون المكان, أو المكانة التي كان يشغلها الإنسانيون التقليديون من حيث محاولة كشف المعاني الحقيقية للحياة البشرية, وإعادة تفسير وتعريف الإنسان نفسه في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة وهكذا. ولا تقتصر مهمة مفكري الثقافة الثالثة على تداول الأفكار والآراء فيما بينهم, ولكن رسالتهم سوف تمتد إلى الفئات والجماعات المثقفة أيّا كان موضعهم واتجاهاتهم الثقافية الخاصة لكي ينقلوا إليهم آخر ما توصل إليه الفكر البشري في مجالات البحث العلمي المختلفة مثل البيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية وتكنولوجيا النانو والذكاء الصناعي والحياة الصناعية والشبكات العصبية والتنوع البيولوجي والجينوم البشري وغيرها من الموضوعات التي يمكن أن يسهم فيها الباحثون العلميون والإنسانيون لأنها تتصل اتصالا مباشرا بحياة الإنسان في المجتمع المعاصر. وقد عاد بروكمان إلى هذا الموضوع نفسه وعالجه بشكل أكثر تفصيلا في كتاب تحت عنوان (The Third culture: Beyond The Scientific Revolution ) (وقد عرضت مجلة (العربي) هذا الكتاب عرضًا وافيًا بقلم عزت عامر في عددها الصادر في نوفمبر 2003).
ويدرك المشتغلون والمتخصصون في الإنسانيات,
وكثير من المفكرين والمثقفين في الخارج بالذات عمق الأزمة التي تمر بها
الإنسانيات الآن, كما يدركون في الوقت نفسه أن هذه الأزمة ليست وليدة
اليوم, وإنما ترجع إلى الخمسينيات الماضية نتيجة للأوضاع السياسية المتغيرة
والصراع السياسي والتنافس العلمي بين الدول الكبرى أو على الأصح بين
القوتين الكبريين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. فقد كان لهذا
الصراع السياسي - العلمي - العسكري أثره في انحسار الاهتمام بالإنسانيات,
وإعطاء أولوية تكاد تكون مطلقة للعلوم الفيزيقية أثناء الحرب الباردة,
وبخاصة بعد أن نجح الاتحاد السوفييتي في إطلاق مركبة الفضاء الشهيرة سبوتنك
عام 1957, وأدركت الولايات المتحدة مدى تخلفها النسبي عن الاتحاد
السوفييتي, وشعرت بضرورة إعادة النظر في سياسة البحث العلمي وتوجيه
الجامعات والدراسات العليا بالذات نحو البحوث العلمية التي يمكن أن تضمن
لها التفوق في المجالات المتعلقة بسلامتها وأمنها وتحقيق هيمنتها المطلقة
على أقدار العالم سياسيا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا. ووجهت أمريكا بناء
على ذلك معظم التمويل الخاص بسياستها البحثية إلى العلوم الطبيعية والبحوث
العلمية بوجه عام, وبدأت الفجوة تظهر ثم تتسع ويزداد اتساعها بمرور الوقت
بين العلوم والإنسانيات. وقد ساعد على انصراف الدول الغربية وبخاصة
الولايات المتحدة عن الإنفاق بسخاء على البحوث في الإنسانيات اهتمام
الإنسانيات ذاتها بموضوعات ومشكلات بعيدة عن مجال اهتمامات الدولة, بل كانت
على العكس من ذلك تماما تسبب القلق والتعب للإدارات والأجهزة الحكومية مثل
مشكلة العلاقات العرقية وضرورة المساواة في الحقوق بين الأعراق المختلفة
ومشكلات السلام وحقوق المرأة, وتعديل الاتجاهات نحو العمل ومشكلة الأسرة,
والتماسك العائلي في مجتمع سريع التغير ومشاكل البيئة وما إليها, وبدا كما
لو كان التقتير الحكومي في تمويل البحوث في مجال الإنسانيات هو نوعًا من
العقوبة التي توقعها الحكومات على المفكرين والباحثين الذين يثيرون لها
المتاعب بتوجيه الأنظار إلى تلك المشكلات الشائكة, وتصادف ذلك مع الفترة
التي شهدت فيها الأوساط الأكاديمية حركات الاضطراب وثورة الطلاب الشهيرة في
الستينيات.
موضوعات جديدة للإنسانيات
وقد تضافرت هذه العوامل المناوئة كلها مع تقدم البحوث العلمية وفتح مجالات العمل للمتخصصين في العلم والبحث العلمي في إبعاد الدارسين عن الالتحاق بأقسام الإنسانيات في الجامعات, وتراجع هذه الدراسات بالتالي. ففي الخمسينيات من القرن الماضي, كان الدارسون للإنسانيات في الجامعات الأمريكية الكبرى يمثلون 40% من مجموع الطلاب بتلك الجامعات, ثم هبطت هذه النسبة في التسعينيات إلى حوالي20% فقط, وهو نقص خطير في رأي الكثيرين من المهتمين بالعملية التعليمية بوجه عام, وبوضع الدراسات الإنسانية ومستقبلها بوجه خاص. وتتضح حقيقة خطورة الموقف حين نعرف أن معظم هؤلاء الطلاب يقبلون على أقسام الدراسات الإنسانية نظرا لأنها أصبحت تقدم مقررات جديدة ومشوقة لم تكن معروفة في الإنسانيات التقليدية مثل الدراسات النسوية والعلاقات العرقية ومشكلات الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة, كما أن هذه المقررات الجديدة تتم معالجتها من منطلقات تكاملية ومتعددة الجوانب والمداخل, بل وقد يشارك في تقديمها أساتذة ينتمون إلى تخصصات مختلفة ومتنوعة, بل وقد تبدو متنافرة لأول وهلة, ولكنها تلقي على المشكلة موضوع الدراسة أضواء عدة من مختلف الزوايا, وهو اتجاه جديد يختلف عمّا كان يحدث في العقود السابقة, وعلى ذلك فلو أخذنا هذا البعد الجديد أو المستحدث في الاعتبار, فسوف نجد أن الإنسانيات التقليدية لا تستطيع أن تجذب بمفردها سوى حوالي 10% فقط من مجموع الطلاب, وهي نتيجة مأساوية ومفزعة بعد أن كانت الإنسانيات تؤلف المجال المحوري في معظم الجامعات القديمة, بل إنها كانت هي النواة الأولى التي نشأت حولها تلك الجامعات في الأصل, فأصبحت الجامعات الآن تتبارى فيما بينها لجذب الطلاب الجدد بالإعلان عن المناهج والمقررات التي تقدمها في مجالات العلوم والرياضيات دون أدنى إشارة في الأغلب إلى الإنسانيات.
وليس من شك في أن الاعتبارات الاقتصادية كانت - ولو إلى حد معين - وراء البدء بإنشاء الكليات والمعاهد (النظرية) التي تعنى بتقديم الإنسانيات على الكليات (العملية) التي تعنى بتدريس العلوم الطبيعية والتي يتطلب وجودها وأداؤها لرسالتها على الوجه الأكمل توافر أموال ضخمة لتغطية إنشاء المعامل والمختبرات وتوفير الأجهزة والأدوات الكثيرة المعقدة القابلة للتلف من ناحية, والتي كثيرا ما تفقد صلاحيتها وفاعليتها نتيجة لظهور أجهزة جديدة أكثر تطورا وكفاءة, فضلا عن تكاليف شراء المواد الخام التي تجري عليها التجارب وهكذا, وهي كلها أمور لا تعرفها الدراسات الإنسانية التي لا تفقد أدواتها وأجهزتها - إن صح التعبير - جدواها وأهميتها بسهولة أو بسرعة, فالعمل الأدبي الجيد أو النظرية الفلسفية المتكاملة أو التحليل التاريخي المنطقي العميق يمكن الرجوع إليه والاستشهاد به لسنوات أو عقود طويلة دون الحاجة إلى تجديده أو استبدال نظريات وتحليلات أخرى جديدة به طوال الوقت, لأن مادته تدور حول موضوعات إنسانية أصيلة تحظى بدرجة عالية من الثبات والاستمرار, بل إن الجهاز الأساسي الذي تعتمد عليه الدراسات الإنسانية - وهو الكتاب - لا يحتاج إلى تبديله وتغييره بعد كل استخدام, وإنما يمكن تداوله عبر أجيال عدة إذا أحسن استعماله والمحافظة عليه, وهو ما لا يصدق على العلوم الطبيعية. ومن هنا يجيء البدء بالكليات والمعاهد (الإنسانية) في إنشاء الجامعات إلا إذا اقتضت الأوضاع غير ذلك, أو تراجع الاهتمام بالدراسات الإنسانية أمام التقدم العلمي والتكنولوجي كما عليه الحال الآن.
ويعتبر هذا التراجع في الاهتمام بالإنسانيات
خسارة فادحة للمجتمع الإنساني في عصر تتعرض فيه القيم الاجتماعية لهزات
عنيفة نتيجة للتغيرات المتسارعة الناجمة عن التقدم التكنولوجي الباهر
وازدياد التوجهات نحو العولمة, وسقوط الحواجز بين الثقافات المختلفة, وما
ترتّب على ذلك كله من تفكك العلاقات الأسرية وضعف التماسك العائلي
التقليدي, ونهوض شرائح وقطاعات اجتماعية جديدة لها سلوكياتها وقيمها
وأنشطتها, بل وثقافتها الخاصة التي تختلف في كثير من الجوانب عن المقومات
الأساسية للثقافة التقليدية, ويحتاج التعامل معها إلى النظر في أنماط
تفكيرها, وذلك في الوقت الذي يتقلص فيه تمويل البحوث والدراسات الإنسانية
مع أن دراسة وعلاج هذه المشكلات كلها يدخلان في نطاق الإنسانيات, وليس في
نطاق العلوم الفيزيقية أو البيولوجية, وحسب ما يقول الأستاذ فالد جودزيتش
أستاذ الأدب الإنجليزي المعاصر في الكلية الجامعية في جنوب كاليفورنيا في
أسلوب لا يخلو من التهكّم إن الذين يمكنهم ويجوز لهم الحديث في ماهية
الإنسان ومشكلاته هم علماء الإنسانيات, وليس علماء البيولوجيا الذين يزعمون
أننا لو تركنا الأمر لهم فسوف يستطيعون استنساخ كائنات بشرية جديدة خالية
من كل هذه الأمراض, وبذلك ينقلون المشكلة برمتها إلى مجال الإنتاج الصناعي
للبشر, فالإنسانية أكبر وأعمق وأكثر تشعبًا من هذا التصور.
توازن مفقود
ولا يعني هذا أن المشتغلين بالإنسانيات ينكرون أهمية البحوث العلمية أو التقدم التكنولوجي فهم يدركون تماما أهمية إسهام كثير من هذه البحوث في فهم وتفسير أسرار الكون, والكشف عن مبادئ الوجود الإنساني, وإنما هم يعترضون على غياب التوازن بين ما تنفقه الدول المتقدمة وبخاصة الولايات المتحدة على البحوث العلمية, وما تخصصه للبحث في مجال الإنسانيات الكثيرة المتنوعة, وما قد يؤدي إليه ذلك من أن يفقد المجتمع (الإنساني) الشعور بإنسانيته وأن يفقد الفرد (الإنساني) روح الإنسانية المميزة لوجوده. وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى ما ذكره سي.بي.سنو عن أن الإنسانيات والعلوم تؤلفان نوعين متمايزين من (الثقافة) وأن المتخصصين في الإنسانيات أصبحوا أقل أهمية بالنسبة للمجتمع الحديث من العلماء, وأنه ينبغي ردم الهوّة التي تفصل بين هذين النسقين المتعارضين من التفكير, وأن يتم ذلك على كل المستويات الذهنية والعملية لأن زيادة الافتراق أو اتساع الهوّه والتباعد سوف يؤدي إلى تراجع المجتمع الذي يمكنه التفكير بعقلانية وحكمة وروية إن لم يكن اختفاؤه تماما في آخر الأمر.
وقد أدى الشعور بتزايد الأخطار التي قد يواجهها مجتمع الغد من جراء إغفال الدراسات الإنسانية إلى الدعوة إلى إعادة النظر في السياسات البحثية التي تنتهجها الدول المتقدمة, وضرورة إعطاء الإنسانيات ما تستحقه من عناية واهتمام للمحافظة على إنسانية الفرد والمجتمع. وهذه دعوة قديمة بعض الشيء, وقامت كنوع من رد الفعل على تركيز الولايات المتحدة الأمريكية على العناية بالعلم والتقدم التكنولوجي بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي لمركبته الفضائية على ما أشرنا, وبذلك نشأت وكالة قومية للإنسانيات في أمريكا عام 1965 لتمويل البحوث في مجال فروع الإنسانيات المختلفة, والدعوة إلى الاهتمام بتدريسها في كل مراحل التعليم وإعداد المدرسين والمناهج والمقررات الدراسية الجديدة التي تأخذ التقدم العلمي في الاعتبار, وتعمل على المزاوجة بقدر الإمكان بين العلوم والإنسانيات, والاهتمام بمشكلات المجتمع العلمي, وتنفيذ مشروعات بحثية مشتركة في ميادين أخلاقيات العلم, وبخاصة الطب لاتصاله الوثيق بالإنسان, وكذلك في الأركيولوجيا وتاريخ فلسفة العلوم واللغويات والتكنولوجيا الرقمية والدراسات البيئية وغيرها من المجالات المشتركة, والتي لم تكن متاحة من قبل للإنسانيات التقليدية. ويعتبر هذا التقارب والتعاون كسبا حقيقيًا للطرفين من ناحية, وإحياء جديدا للإنسانيات التي كانت بدأت تحتضر بمقاييس البحوث الأمبيريقية, وطفرة حقيقية نحو تكوين وإعداد أجيال جديدة تجمع بين الثقافتين, وتحقق حلم جون بروكمان نحو قيام مجتمع الثقافة الثالثة.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي بين الشرق والغرب - المعرفة العلمية