العرب والثقافة العلمية - حتى لا نخلط الدين بالعلم
د. حامد عمار
مجلة العربي الكويتية - أول إبريل 2006
يقول الحق تبارك وتعالى: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين أذكر هذه الآية الكريمة بالذات, وفي خلفية تفكيري, ما قد يراه البعض من أن ثمة تعارضًا بين العلم وثقافته وبين الدين وشريعته. وهم في تصورهم الخاطئ يظنون أن المشتغلين بالمجال الأول هم علمانيون أو ماديون أو منحرفون, أو غير ذلك من المسميات المتحيزة المألوفة. والواقع أننا نؤمن بأن رسالات السماء جميعًا تدعو إلى إعمال العقل باعتباره مناط الاختيار والإرادة والمسئولية, والإسلام خاتم تلك الرسالات يحث في عشرات من آياته على توظيف العقل والسعي في هديه عقيدة وشريعة, وأعتبر ذلك فريضة كما أوضحها مفكرنا العملاق عباس العقاد في كتابه (التفكير فريضة إسلامية). يمتد بي التذكر إلى مقولة رائد الفيزياء الحديثة إنه (لا خير في علم بلا دين, ولا دين بلا علم).
ويأتي إلى خاطري أيضًا ذلك التشوه الفكري الناجم عن الخلط بين المصدر والمنهج في فهم حقيقة كل من الدين والعلم, فالدين الإسلامي مثلاً مصدره الوحي الإلهي وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) من أحاديث وأفعال صحيحة السند. ونصوصه في القرآن والسنّة ثابتة مقدسة, وهي مناط التأويل والاجتهاد الفقهي.
أما العلم. فهو نتاج نشاط عقلي نظري تجريبي بشري, قابل للتغيير والتفنيد والتعديل بصورة مستمرة. بيد أن الملاحظ لدى بعض أصحاب النيات الحسنة ما يقومون به تعسفًا في الخلط بين كل من المصدرين والمنهجين, ومن ثم نعثر بين الحين والآخر على كتابات تستخلص من القرآن ورود آيات علمية فيما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن, كما لو كان هذا الكتاب المقدس من كتب الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء أو الفلك, حاشا لله. إنه في المقام الأول والأخير كتاب هداية للبشر داعيًا إلى التفكير والتأمل في خلق الله وسننه الكونية, ومرشدًا إلى جادة الصواب في معاد البشر ومعاشهم.
وهذا بطبيعة الحال لا يحول دون أن يتطابق النص الديني مع بعض ما تنتهي إليه الاكتشافات العلمية. لكن الخطر والخطأ يتمثلان بالخلط بين المصدرين والمنهجين في المعرفة. وقد يؤدي هذا, كما يقول د.يحيى الرخاوي في إحدى كتاباته إلى (خلخلة مفهوم العلم وطمس معالمه, فضلا عن الاستهانة بحقيقية الدين ودوره الإيجابي... وتُظْهره بمظهر الذي يعاني الشعور بالنقص, فهو يحاول أن يكمل نقصه بما ليس فيه وما ليس له).
وعلى الطرف الآخر من تشوهات الثقافة العلمية في مجتمعنا وجود نفر من الناس ينكرون بعض الحقائق العلمية الأساسية مثل كروية الأرض ودورانها, ومنهم من ينسب للعلم ما ليس من حقائقه كالقول إن الكعبة هي مركز الكون الجغرافي تشريفًا لها. وثمة فريق ثالث يعتبر ما تحدثه الطبيعة وتحركاتها كالزلازل والبراكين من دلائل غضب الله على سيئات القوم. وأقتبس نصًا حديثًا لأحد أقطاب هذا التأويل. (وإن الكوارث الطبيعية غضب على العاصين وابتلاء للصالحين وعبرة للناجين).
وفريق آخر ينكر الصدق الصوري للمنطق الرياضي, ليفرض على التلاميذ في مدارسهم تعبير أن (5+5=10) بمشيئة الله, كما ينكر خواص النمو الطبيعي في الكائنات الحية أو أن هناك أسبابًا موضوعية ومنطقية تعزى إليها بعض الظواهر أو وقوع الأحداث. وقد حرّم الشاعر تلك التوجهات والافتراضات وكفر أصحابها في قوله:
ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفرٌ عند أهل الملة
ورحم الله أبا حنيفة النعمان إمام أهل الرأي في حكمه: (لا يُكفّر أحد من أهل الملة إلا بالشرك).
وأحسب أن لمثل هذه الأفكار والتهويمات
وأضرابها تداعيات ذات خطر في تعويق نشر الثقافة العلمية واقتضاءاتها, بل
إنها تتغلغل بدرجات متباينة في البنية الثقافية, بل السياسية, في نظمنا
العربية, تتجلى أحيانًا في صور متعددة من التأزم الثقافي والسياسي, ومولدة
للخصومات والتشرذم الاجتماعي, وقد تنتهي في حدتها إلى التطرف والعنف
والإرهاب الفكري أو المادي.
التغيرات العالمية والعلمية
وفي استعراضنا للثقافة العلمية واستشراف المستقبل نحن على وعي تام بما يحيط بنا من تلك المتغيرات العولمية التي تؤدي إلى أن كثيرًا من نظمنا المجتمعية آخذة في تقوض وظائفها وشرعيتها التقليدية, وإلى أنها تلفظ آخر أنفاسها, وأن نظمًا جديدة تأخذ في التشكل, يرافقها بل وبفضلها ما يحدث من انعطافات وتحولات فيما يعرف بالثورات العلمية والتكنولوجية والاتصالية والمعلوماتية. وتفرض علينا هذه المتغيرات ضرورة إدراك أن عوامل التغير والتحول قد غدت من السنن الاجتماعية والعلمية, وما يترتب على هذا من توترات في الحياة والمجتمع, كما تؤكد أن التقوقع والثبات ضد حركة العلم والتاريخ بل ضد إمكانات البقاء والنماء.
ولست هنا ممن يلمون بأطراف التطور
والانعطاف في تاريخ العلم ونظرياته, وكل ما أستطيعه الإشارة إلى النقلة من
فهم ما يجري في العالم على أساس قوى خفية أو مجرد مواصفات مجتمعية, إلى ما
أحدثته الرؤية الديكارتية النيوترونية من ترسيخ النظرة إلى العالم على أنه
آلة ميكانيكية عملاقة تحكمها قوانين وعلاقات ثابتة مطلقة. ثم تلا هذه
الرؤية الحتمية الفيزيقية ظهور النظرة التطورية للأرض وما عليها, متمثلة
بقوانين الانتخاب الطبيعي والطفرة والبقاء للأصلح. ويشهد تطور العلم اليوم
تداعيات وانعكاسات النسبية والكوانتم وما ترتب عليها من أن العالم ليس
مجزأ, وإنما هو شبكة معقدة من الأحداث والعلاقات والتفاعلات. وقد تولد عن
هذه الرؤى العلمية الجديدة أن ليس هناك حقائق وقوانين ثابتة مطلقة. وغدت
تقاليد العلم ونظرياته الفيزيقية خاضعة للتغير والتفنيد والمراجعة, وإلى أن
العالم والحياة عمليات دينامية مركبة ومعقدة ومفعمة بالمفاجآت والفوضوية.
والخلاصة أن تدفقات التغيير قد أدت إلى اعتبار الشك واللايقين هو اليقين
الجديد.
جمود العلوم الاجتماعية
أكتفي بهذا القدر من معرفتي بتاريخ العلوم الطبيعية لأنتقل إلى مجال العلوم الاجتماعية, حيث سعت إلى اصطناع مناهج العلوم الطبيعية بغية الوصول إلى قوانين اجتماعية مستخدمة أدواتها الإحصائية والقياسية. وقد تم اعتبارها نوعًا من دراسة (فيزياء المجتمع) واختزال إطارها وأدواتها على مكونات (المجتمع الصلب) متمثلة بأفراده وميكانيكية تفاعلاته المحتومة, كما ادعت المدرسة السلوكية في مناهجها. وتأثرت علوم الاقتصاد والاجتماع والتربية والسياسة بالتصور الفيزيائي بقوانينه التجريبية, وبمنهج التطور في افتراض مراحل التقدم ونمو المجتمعات بصرف النظر عن سياقاتها المكانية والزمانية.
وما يؤسف له أن تلك العلوم قد توقفت عند هاتين الرؤيتين الفيزيقية والبيولوجية, وما انبثق عنهما من تسيد الفلسفة الواقعية والوضعية, وهيمنة منهج التجزئة والتحديد الإجرائي للمواقف والظواهر واعتبار العقلانية الفنية والتخصص الأكاديمي الضيق مبررًا لموضوعيتها وعدم تحيزها. ولم تلتفت إلا أخيرا إلى مجالات العلاقات الدينامية وخصوصيات الزمكنة. وأصابها ما أشار إليه ابن خلدون من (ادعاء الثقة المطلقة والذهول عن المقاصد ووهم التحيز وإخفاء الحقيقة, خوفًا أو تقربًا لذوي الجاه) كما تجاهلت دور الحس التاريخي وإسهامات الحدس والبصيرة والفعل الإنساني. كما أنها بذلك تغاضت عن دور ذاتية الباحث التي التفتت إليها الفيزياء الحديثة. ويقول أحد علمائها في هذا الصدد (إذا ما سألت الإلكترون عن كونه جزيئيًا أعطاك إجابة جزيئي, وإن سألته عن هل هو موجة أو ذبذبة أعطاك إجابة موجة أو ذبذبة).
ويعبر الفيلسوف الإسباني (أورتيجا
كاسيت) عن خطيئة العلوم الاجتماعية في اختزال في (النظر إلى مقدار معين عن
الأشياء التي يجب القيام بها, يتم فيها تقسيم العالم إلى أقسام صغيرة, ثم
يغلق المتخصص على نفسه داخل هذا القسم أو ذاك, ويترك وراء ظهره كل ما يتعلق
بالأجسام الأخرى (وهكذا يؤدي هذا المنظور التخصصي الذي يتنامى يومًا بعد
يوم إلى ما تدعو إليه ثورة المعلوماتية كما يقول أحد فرسانها د.نبيل علي
إلى صعوبة تحقيق (موقف وسط يوازن بين عمق التخصص رأسيًا وشموله النظرة
أفقيًا. وهكذا ظهرت أهمية العلوم البينية التي لم تعد ترفًا أكاديميا بل
ضرورة تفرضها طبيعة المشكلات في عالم اليوم) وبخاصة في مواجهة العلم لظواهر
التعقد وإغفال السياق الأشمل, وإهمال العلاقات التي يتفاعل من خلالها
النظام المعقد من خارجه). وبذلك افتقدت جامعاتنا ومراكز بحوثنا للدراسات
البينية المنظومية وعبر التخصصية في العلوم الاجتماعية, فضلا عن مشكلات
العمل المشترك الفيزيقي الذي تطلبه تلك الدراسات. ويتابع د.نبيل علي الحثّ
على أهمية ذلك المنهج بأنه (لا أمل في التغلب على مسلسل العجز العلمي إلا
من خلال اختراق حواجز التخصص والقفز فوقها والتوحد الإبستمولوجي على
الصعيدين الإخباري والصوري).
أيديولوجية
الموضوعية
وفي رأي المدرسة النقلية التي يتزعمها الفيلسوف التربوي البرازيلي باولو فريري وتلاميذه في الولايات المتحدة بالذات, تمثل البحوث الأمبيريقية بتجزئتها وتحديداتها الإجرائية وادعاء الحياد الموضوعي (إنكار الباحثين دور الأيديولوجيا في عملهم كما أنهم يحاولون أيديولوجيا منع أي خطاب معاكس لهم داخل مؤسساتهم) وهم في محاولتهم التخلي عن النقد الذاتي القابع في مجال المعرفة ذاته يتخلون عن الشك, ولا يمكن أن يقوم العلم دون جرعة من النقد الذاتي والشك والتفنيد, (غير أن الخطاب النقدي والتفنيد يعتبران لديهم في الغالب تلويثًا للموضوعية في العلوم الاجتماعية والتربوية) وهكذا يتابع في نقده للمشتغلين بتلك العلوم بأنهم (يخضعون المجتمع للدراسة كما لو كانوا غير مشاركين فيه. وفي نزاهتهم المحتفى بها, يدخلون إلى هذا العالم لو كانوا يرتدون قفازات وأقنعة واقية حتى لا يلوثوه أو يتلوثوا به).
وهكذا يكاد أن يتطابق نقد خطايا
المناهج الإمبيريقية السائدة في بحوث ورسائل العلوم الاجتماعية في جامعاتنا
مما تؤكده توجهات أنصار عالم ما بعد الحداثة في (أن فعل الكينونة قد أخذ في
الاختفاء, فالواقع في ذاته يجب أن يصطف مع الواقع من أجلنا ومن ثم فإن
الموضوعية تنبع من سياق الحوار والاتفاق والاقتناع الذاتي, وليس من خلال
التناظر مع الواقع) وأضيف: أو من مسلمات (العقلانية الفنية) التي تزعم
الحضارة الغربية امتلاكها منذ القرن السابع عشر, وبما لديها من خبراء بخاصة
في المنظمات الدولية وسدنة العولمة, كما تزعم نشر علميتها المطلقة تبريرًا
لموضوعيتها للاستعمار والهيمنة على مصائر الشعوب (المتخلفة) من أجل تحضيرها
وتحديثها ومقرطتها.
الثقافة العلمية هدف ووسيلة
إن دور الثقافة
العلمية في استشراف المستقبل موضوع متشعب ومجال للحوار العريض والعميق في
هذه الندوة. وكل ما يمكن أن أركز عليه أننا نستشرف تشكيل مجتمع ديمقراطي
يشارك الجميع في قراراته وفي إنجاز مهماته بالعمل المنتج, وبالعدل في تحمل
مغانمه ومغارمه. وينطلق ذلك من اقتناعنا بأن النهج الديمقراطي ونظمه
ومؤسساته قد غدت هدفًا إنسانيًا, وحاجة علمية راسخة. ويستند هذا الاقتناع
أيضًا إلى أن هذا النهج قد اختبره تاريخ الحضارات الإنسانية العالمية فلم
يجد أفضل ولا أعقل منه بعد معاناة طويلة للنظم الاستبدادية والطائفية
والفاشية والنازية. وهو السبيل إلى كرامة الإنسان وإمكانية العيش المشترك
بين كل الشعوب. ويحتل الرصيد العلمي والمعرفي في سياق هذا النهج المجتمعي
موقعًا وموردًا مهمًا في سيرورة المجتمع الديمقراطي وصيرورته, شأنه في ذلك
شأن الأرصدة والموارد المادية. ويعتبر كل من الموردين في واقعنا العربي
المتطور في حاجة ملحة ومطردة للاهتمام به إنتاجًا وإتاحة ونشرًا وتوزيعًا
وتوظيفًا, وهما بذلك هدف ووسيلة في الوقت ذاته لتحقيق تماسك المسيرة
الديمقراطية نحو مستقبل يستحق بذل أقصى الجهد, فكرًا وفعلاً ومسئولية,
نصنعه بأنفسنا ونقبل عليه ونقتحمه قبل أن يجيء إلينا أو يصنعه غيرنا, وتلك
مسئوليتنا ومسئولية الأجيال من بعدنا. ورحم الله الصوفي القائل: (إن لله
عبادًا إذا أرادوا أراد)
بين الناس قَتَلَةٌ لم يسفكوا دمًا قط,
ولصوص لم يسرقوا شيئًا البتَّة,َ وكَذَبَةٌ لم يقولوا إِلاَّ الصحيح.
(جبران خليل جبران)
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي بين الشرق والغرب - المعرفة العلمية