هاشم صالح
30 مايو 2007
جريدة الشرق الأوسط
كوكبنا الأرضي أصبح دائرة افتراضية يوجد مركزها في كل مكان وفي لامكان
يتحدث المفكر الفرنسي غي سورمان، في هذا الكتاب عن عصر العولمة المقبل أو الذي دخلنا فيه الآن. وسورمان هو أحد المنظرين للمرحلة الجديدة في الغرب بعد سقوط جدار برلين وانتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشيوعي السوفياتي. وقد أتحف المكتبة الفرنسية سابقا بعدة كتب أهمها: «الثورة الأميركية المحافظة»، «الحل الليبرالي»، «المفكرون الحقيقيون في عصرنا»، «عبقرية الهند»، «اطفال رفاعة رافع الطهطاوي: مسلمون وحديثون»، و«العالم كله قبيلتي».. الخ. والسؤال الذي يطرحه في كتابه الأخير هذا هو: هل سيتحول العالم إلى قبيلة واحدة في عصر العولمة؟ هل ستلتقي كل الانتماءات أو الهويات الخصوصية من لغوية، وقومية، ودينية وثقافية، لكي تحل محلها هوية واحدة: أي هوية العولمة الكونية؟ على هذا السؤال يحاول غي سورمان أن يجيب في كتاب ضخم يحاذي الخمسمائة صفحة من القطع الكبير. وهو منذ البداية يحاول تعريف العولمة قائلا إنها ظاهرة تريد فصل الناس عن انتماءاتهم المحلية من قبلية أو قومية أو مذهبية لكي تدمجهم في مناخ اقتصادي أو تكنولوجي وثقافي مشترك لدى جميع البشر. بهذا المعنى، فإن العولمة تحاول القضاء على الخصوصيات. لكننا نعلم أن كل واحد فينا منشطر على نفسه ما بين اتجاهين متضادين: اتجاه التعصب لقوميته ولغته ودينه وهويته، واتجاه الارتباط بالحداثة العالمية أو الكونية. بمعنى آخر، فإننا نتأرجح باستمرار بين القبلية / والعولمة. ومن المستحسن أن نجد صيغة توفيقية بينهما لكيلا نصاب بانفصام الشخصية. فليس من المستحسن أن نتخلى عن هويتنا وأصالتنا، وليس من المستحسن أن ننقطع عن حركة العولمة الكونية، بل ولا نستطيع أن ننقطع حتى لو أردنا ذلك. وبالتالي، فلا بد من إيجاد صيغة للتوفيق بين هاتين النزعتين المتضادتين اللتين تدخلان الآن في صدام مباشر مع بعضهما بعضاً. انظر بهذا الصدد الكتاب المتشائم الذي اصدره صموئيل هانتنغتون عن «صدام الحضارات». والواقع أن هذا الصدام مبالغ فيه أكثر مما يجب، فحوار الحضارات هو أيضا حقيقة واقعة تجلت على مدار التاريخ. يقول غي سورمان مناقشاً أطروحة هانتنغتون: إن الإنترنت تقرّبنا من التصور الأكثر شيوعا للعولمة الحالية. فعالم الرموز والأشياء حلّ محل عالم اللغة. وكوكبنا الأرضي أصبح دائرة افتراضية يوجد مركزها في كل مكان وفي لامكان. لكن كم هو عدد الأشخاص الذين يستطيعون استخدام الإنترنت أو الاستفادة من ثورتها المعلوماتية؟ في كتابه الصادر عام 1996، عن صدام الحضارات، يدعونا صموئيل هانتنغتون للتفريق بين جماهير الشعب، والنخبة الاقتصادية والمصرفية التي تجتمع كل سنة في «دافوس» بسويسرا. وهذه النخبة هي التي تشكل القادة الحقيقيين للعالم. في الواقع أن هانتنغتون مصيب ومخطئ في آن معاً. صحيح أن الشعوب لا تزال في قسم كبير منها ـ خاصة في بلدان الجنوب ـ عاجزة عن الاستفادة من الإنترنت وثقافتها، وصحيح أنها لا تزال مرتبطة بالثقافات المحلية والطائفية والقبلية، لكن هذه الثقافات لا تزال حية وتحرك الجماهير وتشعرها بهويتها، وبالتالي فلا ينبغي الاستخفاف بها بحجة العولمة، والكونية، والحداثة. الخ. وفي ذات الوقت، نلاحظ أن النخبة في بلدان الشمال، كما في بلدان الجنوب، تستطيع استخدام الإنترنت على هواها، ومن خلالها تستطيع أن توجه مصير الشعوب. ولا أحد يعرف كيف سيُحل هذا التناقض بين النخب المُعولمة / والشعوب المرتبطة عمقياً بخصوصياتها القومية. فالحياة الاقتصادية أصبحت معولمة أكثر فأكثر. هذا في حين ان الحياة السياسية لا تزال محلية في قسم كبير منها. والواقع أن العولمة تحصل اقتصاديا قبل أن تحصل ثقافيا أو سياسيا. فالسلع أصبحت تخترق كل حدود العالم من دون حاجز أو مانع تقريباً. والكوكاكولا، رمز العولمة، أصبحت تُستهلك في كل أنحاء الأرض.. ويرى غي سورمان، أن هذا التناقض لن يتم تجاوزه، لذا فينبغي أن نتعود على كيفية التعايش معه. وهنا يتجلى لنا بكل وضوح جوهر الحداثة ففي المجتمعات القديمة كان الفرد واقعا تحت وطأة الإكراهات الاجتماعية، وكان مجبراً على الذوبان في هوية وحيدة، دينية، واقتصادية، وسياسية وقبلية. أما في المجتمعات الحديثة فقد أصبح حرا في الانتماء إلى عدة هويات في آن معاً. فالإنسان الحديث ينتمي إلى قريته الصغيرة وإلى العالم بأسره أيضاً. إنه بدوي مترحل ومقيم في آن. وبهذا المعنى، فإن العولمة تضيف شيئاً جديداً إلى الإنسان، وبالتالي فلا داعي للخوف منها، إنها إيجابية لا سلبية.
لكن هنا ينبغي أن نتوقف عن استخدام لغة منافقة أو ازدواجية. ينبغي أن نكون صريحين. فالعولمة في معظم الأحيان، ليست إلاّ أمْركة في الواقع. والولايات المتحدة تمارس نوعاً من الإمبريالية أو الهيمنة على العالم بأسره، لكنها ليست إمبريالية اعتباطية أو قسرية كما يشيع البعض، بقدر ما هي هيمنة ناتجة بشكل طبيعي أو عفوي عن القوة الهائلة للولايات المتحدة الأميركية. وهي قوة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. والواقع أن أميركا تتزعم المعسكر الغربي كله: أي أوروبا، وكندا، وأستراليا. وهذا هو عالم العولمة الرئيسي. وهو عالم يبني حضارته على حقوق الإنسان من الناحية الفلسفية والثقافية، وعلى النظام الرأسمالي الديمقراطي من الناحية السياسية والاقتصادية لا ريب في أنه توجد اختلافات بين دول هذا العالم الحر، لكنها اختلافات لا تُلحظ إلا من الداخل، ولا تراها عين الخارج. فالصين تنظر إلى العالم الغربي وكأنه كتلة واحدة ولا تفرق كثيرا بين أوروبا وأميركا. وقل الأمر ذاته عن الهنود، والعرب والمسلمين جميعاً، والأفارقة، وحتى الروس.. الخ. وينبغي أن نعترف بأن هذه العولمة الأميركية ليست شرا كلها كما يشيع البعض هذه الأيام. وهي حتما أقل وطأة مما لو كانت العولمة روسية مثلا. فلو أن الاتحاد السوفياتي هو الذي انتصر في نهاية الحرب الباردة لفرض على العالم نظاما من حديد، وذلك لأنه لا يمتلك وراءه ثقافة ديمقراطية. لكن مع ذلك، فهناك خطر في أن تؤدي العولمة الأميركية إلى حرمان العالم من تنوعه أو تعدديته الثقافية. يعترض بعضهم على ذلك قائلاً بأن ما نخسره في جهة الثقافة يمكن تعويضه عن طريق تحقيق تقدم اقتصادي في ظل العولمة، ثم عن طريق استتباب السلام بفضل القوة الأميركية.
ثم يوضح المؤلف عقيدته الفكرية قائلا: سوف نناضل في هذا الكتاب من أجل عولمة المفاهيم الكونية التي تشجع على حصول التقدم البشري المتمثل بالتعددية السياسية أو حرية المقاولة والتجارة، لكننا سنناضل أيضاً من أجل الدفاع عن التعددية الثقافية في العالم، وبالتالي فنحن ضد التنميط الثقافي، سواء أكان أميركياً أم غير أميركي، وذلك لأنه بدون تعددية فإننا سنصبح كجيوش من النمل! صحيح ان جيوش النمل فعّالة اقتصاديا، وذات مردودية، لكن لا أحد يريد أن يصبح نملة حتى ولو كانت فعّالة اقتصاديا! وإذن فلنحتفظ بحدودنا، أي بالحدود التي تفصل بين بلداننا، بشرط أن نكون أحراراً في تخطّيها، والانتقال من بلد إلى آخر. نعم للعولمة، لكن بشروط.