تساؤلات أفرزتها العولمة
بن عبد الفتاح دحمان
مجلة العربي
1 أكتوبر 2002
شهدت الإنسانية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين تغيراً من حيث الاهتمام والتوجه, سواء على مستوى منظومة القيم السياسية, أو منظومة القيم الاقتصادية, ناهيك عن القيم الاجتماعية, إذ إن العالم كان يسير وفق قوتين إحداهما غربية (رأسمالية) والأخرى شرقية (اشتراكية), منذ السنوات الأولى للقرن العشرين.
ما يستوقفنا في نهاية هذا القرن هو ما يمكن اعتباره تشييع جنازة إحدى هاتين القوتين والمتمثلة في القوة الشرقية, إثر سقوط الاتحاد السوفييتي سنة 1991, ومن حينها ظهر العالم وكأنه يسير وفق دعامة واحدة ممثلة في القوة الغربية الرأسمالية, ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية وعرفت الساحة الفكرية حينئذ ما يسمى بنظام قيم موحد يشمل الجوانب المختلفة السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية, عن طريق رفع الحدود والحواجز التي ساعد فيها التطور التكنولوجي والمعلوماتي الاتصالي, ليعبر عن هذا الطرح بما يسمى بظاهرة العولمة.
وعلى إثر ذلك توالت الكثير من التساؤلات والاستفهامات حول هذه الظاهرة: ما حقيقتها؟ وما تأثيراتها؟ هل العولمة تاريخية أم قدر يجب التسليم به وله؟ وهل العولمة هي أيديولوجية أوصلت التاريخ إلى نهايته؟ وتساؤلات أخرى تضعها الدول المغلوبة على أمرها: هل تقف في وضع المتفرج؟ وهل ذلك ممكن؟ أم هل تسمح المعادلة العالمية لهؤلاء بالدخول بصفة المشارك المستفيد؟ أم, أم, أم, هذه التساؤلات وغيرها, شهدتها في الآونة الأخيرة الساحة الفكرية, وعليه سنحاول التطرق إلى بعض الملامح التي تمت بصلة إلى تلك التساؤلات.
اختلفت الرؤى والأطروحات حول ظاهرة العولمة, إذ نجد من يعدها مرحلة تاريخية نتيجة أفكار ونظم متعاقبة ومتسلسلة, في حين نجد من يراها فكرة قديمة من الناحية العملية, ويكمن الجديد, فيما يبدو, في صك الاصطلاح فقط, وهناك طرف آخر يعتبرها قدراً يجب التكيف معه.
إن الوقوف عند الموقف الأول, يجعلنا ننطلق من أن الفكر الإنساني قد شهد تطورات مختلفة, فعلى المستوى الاقتصادي عرفت الإنسانية ما يعرف بنظام الإقطاع, النظام الإسلامي, النظام الرأسمالي, الأنظمة الاستعمارية المهيمنة, الفكر الاشتراكي, وغيرها من الأنظمة والأفكار, فكل فكر ونظام توافرت له شروطه ودعائمه ساد وسيطر وارتفع شأن منظريه, مادامت تلك الشروط والدعائم باقية, ويختفي ذلك النظام أو الفكر ويغيب بتخلف شروطه, ودعائمه, ومقوماته وبالتالي ابتعاده عن حلبة المنافسة والصمود, وهذا ما يمكن استخلاصه من دراسة تاريخية غير معمقة, إذ نجد فلسفة صعود نظام أو سقوط واضمحلال نظام إنما تخضع للأسباب والدعائم والشروط, وهكذا هي طبيعة الحياة التي نجد لها قوانين لا تحابي أحداً.
وأما عن الرأي الآخر الذي يعتبر ظاهرة العولمة فكرة قديمة لكنها ظهرت في أسلوب اصطلاحي جديد مع نهاية القرن العشرين, ذلك إذا تفحصنا هذا المصطلح في حد ذاته (عولمة) لغوياً لوجدناه يدخل في إطار مصطلح (قولبة), والقولبة إنما تعني الاحتواء والانزواء الكلي تحت شيء واحد, ولا شك في أن مسألة الاحتواء إنما توحي بطرف يَحْوي, وطرف يُحْتَوَى, وعليه يمكن القول إن فكرة العولمة تبعث على نوع من التفاضل (الابتلاعي), فأصحاب هذا الرأي قد يُرجعون الأمر إلى مسألة التفاضل (العراكي) الذي عرفته الآدمية منذ ميلادها انطلاقاً من تصرف ابني آدم وهكذا هي سنّة البشرية قائمة دائما على الصراع والتنافس, وعليه فأصحاب هذا الرأي يرون أن الخيارات جد متاحة وموّفرة, لكنها فقط لمن يعمل ويوفر شروط الخيار ودعائمه, ولا يتحقق الاختيار لمن يتكاسل ويُصر على البقاء في وضع المفعول به وليس الفاعل.
وعن الذين يُعدون العولمة قدراً يجب التسليم به وله, من منطلق مجاراة القوي المعولِم والمحتوِي, حتى لا يُتَخَلّف عن الركب, وبالتالي سيكون تفضيل ركوب القطار أسلم وأفضل من الانتظار, وهذا الطرح قد يكون مدعاة للتعرف على عوامل تفوق الآخر والسعي وراء احتوائه للآخرين, وقد يعزو هؤلاء الأمر إلى الحقبة التاريخية التي قطعها أولئك في ميدان الإنتاج التكنولوجي, الفكري والعلمي, وبالتالي فالانطلاق من البداية كأولئك قد يأخذ وقتاً طويلاً إن لم يقل إنه ضرب من الاستحالة الإنسانية, وعلى هذا فأصحاب هذا الموقف يرون أن عملية الركوب والاحتفاظ بالهوية والثوابت الخاصة مع الاستفادة من هذا الإنتاج والتطور يعد خير بديل, وهذا لأجل إيجاد مكان على الخارطة العالمية, وبالتالي التمكن من التعامل مع المتغيرات والآليات العالمية, وهنا يمكن الإشارة إلى التفريق الواضح بالنسبة لهؤلاء بين العولمة كظاهرة أيديولوجية والعولمة كآليات ووسائل.
لكن ما يجب أن يُنتبه إليه هو أنه يجب إعداد وترتيب البيت من الداخل ومعرفة الذات أولا, ثم الانطلاق بصفة مؤسسة وثابتة وعلى دراية بمواقع الخلل وأماكن القوة, فلا شك في أنه بهذا الفعل يتسنى تحديد الخطوط التي يمكن السير وفقها وكذا تحديد الخطوط الواجب تجنبها.
إن هذه الآراء وغيرها, هي التي حُللت وفقها ظاهرة العولمة, والتي نرى من وجهة نظرنا أنها ظاهرة مركبة, تعني نزع وإزالة الحواجز والقيود عن التعاملات الاقتصادية (حرية تنقلات السلع والخدمات, العمالة ورءوس الأموال), وكذا حرية التبادل الفكري, إضافة إلى التدخل في الجانب الاجتماعي بشيء من التقنين العالمي (كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان) إضافة إلى السعي لتقليص وتحجيم فكرة سيادة الدولة.
إذ إنه في الجانب الاقتصادي, نجد وفرة كبيرة في المؤشرات والمعالم ذات الارتباط الوثيق بالظاهرة محل الدراسة, لذلك ما من محلل لظاهرة العولمة إلا ويربطها بالضرورة بالجانب الاقتصادي, ومن هذه المؤشرات والمعالم, نجد رفع القيود والحواجز الجمركية عن السلع, الخدمات, وكذا الأفكار في تنقلاتها بين البلدان, وقد ساهم في ذلك بشكل كبير تطور الاتصالات بشكل مذهل, ونجد لهذا الأمر تقنيناً في إطار منظمة التجارة العالمية (O.M.C), التي حلت محل الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية. إضافة إلى الصندوق النقدي الدولي (F.M.I), الذي يشرف بصفة أساسية على تسطير سياسات إدارة الطلب للاقتصادات التي تشتكي خللاً في اقتصادها, إذ نجد أن هذه السياسات تتخذ من أفكار الليبراليين الجدد والذين على رأسهم الأمريكي (ميلتون فريدمان) دعامة أساسية في تسطير تلك السياسات وتحديدها, أما عن السياسات الهيكلية المتعلقة بالاستقرار البنيوي والتحتي للبلد, فأمرها موكول للبنك الدولي للإنشاء والتعمير (B.I.R.D), وانطلاقا من ذلك, فهناك من يعتبر المنظمة العالمية للتجارة, الصندوق النقدي الدولي, والبنك الدولي للإنشاء والتعمير بمنزلة مثلث العولمة في الجانب الاقتصادي المؤثر في الجانب الاجتماعي السياسي وكذا الثقافي, إذ إن هذا المثلث يرى أن تحقيق نظام اقتصاد السوق يعد بمنزلة النظام الذي يجعل الاقتصادات تتجاوز تلك الاختلالات والانتكاسات التي يعرفها من حين لآخر.
هدم الدولة
أما على المستوى الاجتماعي, فنجد تحليلات كثيرة حول حقوق الإنسان, إضافة إلى ما يطلق عليه الهوية العالمية على المستوى الثقافي, وإن كانت هذه الفكرة لا تلقى تأسيساً فلسفياً وفكرياً واقعياً وقوياً, الشيء الذي قد يجعل منها فكرة واهية غير ممكنة الحدوث في الوقت ذاته.
في حين نجد على المستوى السياسي, أن فكرة الديمقراطية والتعددية السياسية أصبحت من لوازم الكثير من الأنظمة السياسية التي كانت في وقت مضى وغير بعيد, بعيدة عن هذا المسلك, إضافة إلى الاهتمام بالفساد الإداري من رشاوى وغيرها وربطها بوثيقة الإصلاح والتكييف الاقتصادي التي يدعمها الصندوق النقدي الدولي - وهذا أمر مهم وإيجابي - إضافة إلى الانشغال بفكرة تهديم الدولة الوطنية, أو سيادة الدولة, وهذا ما بدأت بوادره تظهر, إضافة إلى تشتيت وإبعاد ما لا يتماشى وفلسفة التعولم والاحتواء, لاسيما إذا كان هذا العنصر أو الطرف متضمنا داخل أحشاء المركز المعولِم أو قريبا من مركزه وهذا وفقا لمنهجية اختراع وصنع الأسباب التي تنتهي بالاحتواء والابتلاع.
من خلال ما تناولناه نخلص إلى الآتي:
إن ظاهرة العولمة قد لا تسعى إلى إلغاء الاختيار بقدر ما تعد مدعاة للاختيار والبحث عن الأفضل, وعليه فقد تكون فرصة لتشخيص الذات, وتغيير اتجاه أصبع السبابة نحو الذات, إذ إنه بالأسباب, الشروط والدعائم القوية المرتبطة بالتفوق, يتحقق التفوق, وهذا وفق قوانين طبيعية وكونية لا تخالف المنطق والعقل, وعليه فالعولمة كما نراها اليوم, يمكن اعتبار تكونها وتشكلها لم يكن إلا نتيجة لتكاسل طرف من جهة, واليقظة الدائمة لطرف آخر من جهة أخرى.
إن التفوق قد يتحقق بالمشاركة والمساهمة الفعالة, أما التقوقع والانزواء بعيداً عن المنافسة الحقيقية فقد لا يكونان مفيدين, إن لم نقل إنهما غير ممكنين, لكن المنافسة الحقيقية تتطلب نسبياً نوعاً من التقارب في الكثير من المؤشرات والمحددات وعليه فالسعي إلى الدخول في المنافسة الحقيقية لايكون إلا بالأسباب الحقيقية, حتى يكون كلام كنيدي شاملا الكل وليس البعض حينما قال: (عندما يرتفع مستوى سطح البحر سترتفع معه أيضاً جميع السفن الطافية على المياه, وبمقدار الارتفاع نفسه أيضاً). ذلك أن فكرة الاعتماد المتبادل قد تطرح تساؤلات كثيرة: منها, هل الدول كلها في المستوى نفسه؟ أم على العكس من ذلك؟ وأما فيما يتعلق بانتقاص سيادة الدول, فهل هذا الانتقاص سيشمل أيضا كل الدول أم البعض منها فقط؟
يُلاحظ انتشار واسع لثقافة الاستهلاك, آليات الاستعمال والاستغلال التي تشجعها وسائل الاتصال المختلفة من قنوات فضائية, إنترنت... وغيرها, ويكون هذا على حساب آليات وطرق الإنتاج والتصنيع في الدول الناشئة, مما يتيح للقوي, بالأسباب والشروط, فرصة إسماع وإيصال صوته (وماركته) إلى أقصى الأقاصي, في حين يبقى الآخرون بعيدين كل البعد عن معرفة ذواتهم بالرغم مما يملكونه من مكنونات, معارف وأفكار, قد تعد بمنزلة دعائم وأسباب راسية للتفوق والإقلاع.
وبناء على ذلك فالتساؤل الدائر حول: هل نرفض العولمة أم نقبلها كما هي عليه؟ هو تساؤل يحمل في طياته درجة لا بأس بها من السذاجة, وهو يعبر أكثر ما يعبر عن مخلفات ركود فكري لاتزال أفواج من شعوب العالم لم تستيقظ منه بعد.
ما نخلص إليه, هو: إذا كان سهلاً على الفرد والمجتمع ككل التصرف في المتغيرات الداخلية (الآليات والإجراءات), فإن المتغيرات الخارجية (الثوابت) يكون التصرف فيها صعبا, وذا تكلفة أكبر وأعظم, وفي ظل هذا العراك الديناميكي المعولم, الذي قد يُظهر إلى حد الساعة, أن العالم يسير بقدم عرجاء, يجعل التفكير في البحث عن القدم الأخرى لتجاوز هذه الحالة العرجاء أمراً ممكناً وجائزاً.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - العولمة