العولمة امتداد للحداثة أم نقيض لها
محمد دياب
مجلة العربي
1 سبتمبر 2009
شهد
العقد الأخير من القرن العشرين بروز ظاهرة «العولمة»
كعنوان للحقبة الجديدة نوعياً
في تطور المجتمع البشري. ففيها تتجسّد أغلبية التحولات العلمية
والمعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية، المتسارعة بصورة
مذهلة، والتي لم يعرف لها العالم مثيلاً من قبل.
لقد كُتب الكثير عن هذه
الظاهرة، عن جذورها وظروف نشوئها وخصائصها وتجلياتها، وعن مداها
وتأثيراتها العميقة على مختلف جوانب حياة الدول والشعوب. ولكن
السؤال المطروح بإلحاح هو: هل العولمة ظاهرة جديدة كلياً؟ أم أنها
امتداد لعمليات وتفاعلات وتطورات شهدها العالم خلال حقبات سابقة؟
وما مدى علاقاتها بـ«الحداثة»؟ هل هي وليدتها وإحدى تجلياتها؟ أم
أنها نشأت على أساسها ثم تجاوزتها؟ أم أنها مختلفة عنها كلياً
وتأتي كنقيض لها؟ أي: هل العولمة هي «نهاية للحداثة» أو أنها
«حداثة جديدة» للقرن الحادي والعشرين؟ أم أنها تطور نوعي جديد في
تاريخ البشرية يختلف كلياً عن كل ما سبقه؟ تلك أسئلة كثيرة تشكل
مادة خصبة للنقاش والجدل.
من «الحداثة».. إلى «ما بعد الحداثة»
سادت في خمسينيات وستينيات
القرن العشرين النظريات الكلاسيكية للحداثة، والتي تقول بشمولية
النموذج الغربي للتطور، وترى فيه سبيلاً وحيداً للشعوب الأخرى
الراغبة في ولوج رحاب الحضارة المعاصرة. لقد افترضت تلك النظريات
أن البرامج الثقافية للحداثة على النحو الذي تطورت فيه في أوربا،
وكذلك المشروعات المؤسساتية الأساسية التي واكبت ذلك التطور (أي
اقتصاد السوق الحرة والتجارة الحرة فيما يتعلق بالتنظيم الاقتصادي،
ونظام الدولة - الأمة أو الجمهورية الدستورية فيما يتعلق بالنظام
السياسي)، سوف تسود في نهاية المطاف في كل المجتمعات الحديثة
والسائرة على طريق التحديث، وهي مع اتساع نطاق الحداثة سوف تعم
العالم أجمع.
لقد كانت الحداثة بالنسبة
للمجتمعات غير الغربية نوعاً من التحدي، أو المحفز للسعي إلى
الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث. وأخذت الحداثة
بهذا المعنى أشكالاً مختلفة: استعمار، «تغريب»، محاولات تماهي مع
النموذج الغربي، نماذج للتنمية بهدف اللحاق بالغرب.. إلخ.
بعد الحرب العالمية الثانية،
تعاظم تأثير الغرب ونمط الحضارة الغربي.
وكان أن التحقت ألمانيا
واليابان المهزومتان في الحرب بسيرة الحداثة، وبدأت عملية إزالة
الاستعمار في البلدان المستعمرة، وما رافقها من حماسة ورهان على
قدرة الشعوب المستقلة حديثاً في تطبيق الحداثة وفق النموذج الغربي.
ولم تشذ عن هذه القاعدة سوى دول قليلة اختارت طريق التطور
الاشتراكي لاعتقادها بأن طريق الحداثة يمر عبره.
لقد افترضت نظريات الحداثة
وجود مسار عام سوف تضطر المجتمعات كافة لسلوكه، ولو في أوقات
مختلفة. بيد أن الواقع أظهر، خصوصاً ابتداء من سبعينيات القرن
العشرين، عدم صواب هذه الافتراضات. إذ إن التطورات الفعلية
للمجتمعات التي سلكت طريق التحديث كانت في حالات عدة بمنزلة نفي
لهذا «التنميط»، ورفض لهيمنة برنامج الحداثة الغربية. فقد انتهت
مسيرة التحديث في معظم بلدان العالم الثالث في تلك الفترة بالفشل،
بحيث إن حجم تدمير ثقافاتها التقليدية كان أكبر من مدى اكتسابها
أسس المجتمع الحديث حسب المفهوم الغربي.
إن إخفاقات بلدان العالم
الثالث، سواء عن طريق الحداثة الغربي، أم على طريق «الخيار
الاشتراكي»، بددت بسرعة أوهام وأحلام مرحلة الاستقلال. فتصاعدت في
تلك البلدان موجة العداء للحداثة. وظهرت نظريات «ما بعد الحداثة»
أو «تعددية الثقافات»،
كتعبير عن سياسات تؤكد خصوصية الهوية والانتماء الثقافي وتتجه نحو
فضاءات اجتماعية وسياسية وثقافية جديدة مستقلة ذاتياً.
لقد كان هدف حركة «ما بعد
الحداثة» التي برزت في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، استيعاب
مسيرة الحضارة الغربية، التي تأسست منذ عصر التنوير، والعمل على
تجاوزها من خلال إجراء مراجعة نقدية لها، والتأسيس لوعي حضاري جديد
أساسه التنوع الحضاري أو «تعدد الحداثات»، ونسبية المعرفة واحترام
الفوارق بين الثقافات، والتعددية السياسية والثقافية. إذن، بالرغم
من أن الحداثة هي في الأساس ثمرة التطور الغربي، فقد تكونت مع
الوقت «حداثات» متنوعة. وقد اكتمل تنوع الحداثات قبل كل شيء من
خلال الاستعمار والهيمنة السياسية العسكرية والاقتصادية للغرب،
والتي تحققت بفضل تفوقه التكنولوجي والاقتصادي والعسكري.
من الحداثة إلى العولمة
ظهر مصطلح «العولمة» للدلالة
على دخول الرأسمالية طور الرأسمالية فوق القومية. ويمكن تعريف
ظاهرة العولمة بشكل عام على أنها «اندماج أسواق العالم في حقول
التجارة والاستثمارات المباشرة ضمن إطار رأسمالية حرية الأسواق،
على نحو يقود إلى اختراق الحدود القومية وانحسار سيادة الدولة إلى
حد بعيد. وتلعب الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقوميات الدور
الرئيسي في هذه الظاهرة». من هذا التعريف يتبين أن النشاط
الاقتصادي يمارس اليوم على مستوى فوق قومي عابر للحدود والمجتمعات،
بحيث غدت الدولة - الأمة «شفافة» أمام النظم المالية والمعلوماتية،
الأمر الذي أمن التفوق لمن نجح قبل غيره في ولوج الثورة
التكنولوجية والمعلوماتية، ومن ثم المعرفية. والعولمة تعني إلى حد
كبير أولوية حرية حركة رأس المال والحرية الإعلامية على المصالح
القومية. لقد تصدّع نظام الدولة - الأمة (أحد المشروعات المؤسساتية
الأساسية للحداثة)، الذي كان يشكل أساس النظام العالمي على امتداد
350 عاماً، وطرأ تبدل جوهري على مفهوم الديمقراطية (وهو أيضاً أحد
المكونات الأساسية للحداثة)
كمؤسسة عالمية.
إن المرتكزات الرئيسية
للعولمة تتلخص في العوامل الثلاثة: العامل المعلوماتي والتكنولوجي
والاقتصادي. ويمكن اختصارها أيضاً بالعامل المعلوماتي
- الاقتصادي والعامل
المعلوماتي - التكنولوجي. في عام 1982 عدّد جون ينسبيت عشرة
اتجاهات عالمية جديدة هي: الانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع
المعلوماتي، ومن التقنية المتطورة إلى التكنولوجيا الراقية، ومن
الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد العالمي، ومن المهمات القصيرة المدى
إلى المهمات البعيدة المدى، ومن المركزية إلى اللامركزية، ومن
المساعدة المؤسساتية إلى المساعدة الذاتية، ومن التراتبية إلى
الشبكات، ومن الشمال إلى الجنوب، ومن إمكان الخيار بين بديلين إلى
تعددية الخيارات.
لقد شكّل هذا التوصيف استشرافاً مبكراً
للعولمة. ومع اختراع الكمبيوتر، ومن ثم شبكة الإنترنت وإدخالهما في
النشاط الاقتصادي وفي مجمل جوانب حياة المجتمع تسارعت كل هذه
العمليات على نحو لا مثيل له، وتبدّلت بصورة نوعية. وحدث الانفتاح
في تكنولوجيا المعلوماتية التي حققت اختراقاً هائلاً، فصار
بالإمكان بواسطة شبكة الإنترنت الاطلاع علي كل الاختراعات
والابتكارات التكنولوجية. وأصبحت الفرص التكنولوجية في متناول كل
مَن هو مؤهل للاستفادة منها.
فضلاً عمّا له علاقة بثورة
المعلوماتية، يشكل انخفاض الحواجز الجمركية إحدى أهم سمات العولمة.
وقد ساهم انخفاض التعريفات الجمركية في تسارع انتقال السلع ورءوس
الأموال عبر الحدود. فضلاً عن ذلك حصل ما يشبه فقدان النقود
وظيفتها القومية.
ففي بداية التسعينيات كان رجال الأعمال
يحتاجون إلى موافقة حكومات بلدانهم للحصول على طلبيات كبيرة من
الخارج، أو لإبرام صفقات كبيرة في بلد آخر. أما اليوم فقد زال هذا
العائق، حيث أصبحت السوق، المالية والتجارية، فوق القومية أمراً
واقعاً، ولم يعد بإمكان الحكومات إغلاق حدودها في وجه التدفقات
المالية (والسلعية بصورة نسبية)
وصارت عاجزة عن التحكم خصوصاً بحركة
الأسواق المالية العالمية، التي تجاوزت عاملي الزمان والمكان.
وتتمثل إحدى السمات الرئيسية
للعولمة في هيمنة السوق المالية على سوق السلع. لقد صارت النقود
تخلق نقوداً بصورة شرعية. ولكن الأهم من النقود إنما هي
التكنولوجيا التي باندماجها، المعلوماتية يمكن أن تؤمن إنتاج سلع
وخدمات معرفية جديدة بكلفة أقل، وأن تمد السوق العالمية بمنتجات
جديدة لا مثيل لها. وتلك هي إحدى أهم سمات الاقتصادات المعولمة،
المرتبطة باقتصاد المعرفة. وقد تطورت تكنولوجيا التأثير في الوعي
الاستهلاكي الجماهيري، فنشأت صناعة كاملة لتصميم صور السلع
والتخطيط لبيعها، وصار الإعلان وسيطاً أساسياً بين الثقافة
الاستهلاكية والإنتاج.
في ظل العولمة صار العالم بلا
حدود اقتصادية، أو هكذا يبدو على الأقل.
فقد غدت النظم الاقتصادية،
خصوصاً بعد انهيار النموذج الاشتراكي، متقاربة ومتداخلة.
ولم يعد بوسع بلد ما الانغلاق
على نفسه، والبقاء في منأى عن تأثيرات العمليات الجارية على صعيد
الاقتصاد العالمي. فالنظام الاقتصادي العالمي اليوم نظام واحد
تحكمه آليات وقوانين عالمية مشتركة، وتديره وتتحكم به مؤسسات دولية
وشركات عملاقة عابرة للقوميات والحدود، بصورة مستقلة عن الحكومات
وعلى حساب الاقتصادات القومية في غالب الأحيان. وصارت الأسواق
المالية والتجارية العالمية موحدة غير خاضعة لإرادات الدول
وحكوماتها. وهكذا، فإن تقلص دور ونفوذ وسيادة الدولة القومية، أي
الدولة -
الأمة التي هي أحد أهم إنجازات مرحلة الحداثة، أصبحت إحدى
أهم سمات العولمة. إن العولمة هي الرأسمالية في أعلى وأرقى مراحل
تطورها. إنها الشكل المتقدم لـ«رسملة»
العالم، وهي تعميم لخصائص هذه
الرأسمالية، السلبية والإيجابية على حد سواء. فالدول الغنية تزداد
غنى، والفقيرة تزداد فقراً. وتتسع «الهوة المعرفية» بين الدول.
ما الذي جعل هذه الهوّة
تتعاظم مع بداية العولمة؟ لقد وفرت الاقتصادات المتطورة على
المستوى المعرفي للبلدان المتفوقة أفضليات ومزايا لا مثيل لها. وقد
أدى ذلك إلى جعل التبعية الكاملة من جانب الدول الموجودة خارج
«نادي النخبة» أشد ضراوة وخطرا. إنها اليوم تبعية «مركبة»،
اقتصادية ومالية وتكنولوجية ومعلوماتية ومعرفية. وهذا من شأنه أن
يقضي على الآمال بظهور ما يسمى «حداثة لاحقة»، أي التحديث الذي
يتيح اللحاق بالبلدان المتطورة التي قطعت شوطاً هائلاً على درب
الحداثة، وتجاوزتها إلى العولمة الراهنة.
امتداد أم نقيض؟
ونصل هنا إلى السؤال الأساسي:
هل العولمة هي امتداد للحداثة، أم أنها تجسيد لحالة «ما بعد
الحداثة»؟ أم أنها ظاهرة جديدة كلياً لا علاقة لها بهما؟
لعله من المفيد في معرض تناول
هذه الإشكالية العودة إلى ما جاء في مقالة بعنوان «العولمة -
جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها»، للدكتور عبدالخالق عبدالله
في مجلة «عالم الفكر»، المجلد 28، 1999. إذ يقول في هذا الصدد: «..
من المشروع الاعتقاد بأنها (أي العولمة) قد برزت مع بروز موجة
الحداثة، وتطورت مع تطور الرأسمالية الحديثة على الصعيد العالمي.
لقد أعادت الحداثة ترتيب النظام العالمي، وأسست بعد ذلك لحركة دمجه
وصهره في اقتصاد عالمي واحد. لذا، فإنه من المشروع الاعتقاد بأن
العولمة أطلت على العالم من أوربا في بدايات القرن الثامن عشر،
وأخذت تمتد اقتصادياً وثقافياً في كل الاتجاهات، وأثرت تأثيرات
بليغة وعميقة في المجتمعات غير الأوربية. وبرزت على إثر ذلك فكرة
النظام العالمي الواحد، والذي كان في جوهره نظاماً اقتصادياً
قائماً على أسس رأسمالية، مركزه الدول الصناعية وهامشه الدول
النامية والمصدّرة للمواد الأولى.
العولمة، إذن، تمثل امتداداً
طبيعياً للحداثة. ولكنها في الوقت نفسه تشكّل تجاوزاً لها. بل
لعلها أقرب إلى مرحلة «ما بعد الحداثة» التي قامت فكرتها على
الانطلاق من تجربة الحضارة الغربية، ومن ثم إجراء مراجعة نقدية
لها، وتجاوزها والتأسيس لوعي حضاري جديد أساسه تنوع الثقافات
والتعددية السياسية والحضارية. وقد تزامن بروز اتجاه «ما بعد
الحداثة» مع صعود ظواهر جديدة تمثلت في انتقال الرأسمالية إلى طور
الرأسمالية العابرة للقوميات، وظهور وتطور مراكز رأسمالية عالمية
جديدة ومتنافسة، وانتشار النتائج العظيمة للثورة العملية
التكنولوجية الثالثة، وبروز طبقات اجتماعية جديدة.
وبما أن العولمة هي تجسيد لكل
هذه التطورات، فإنها ترتبط بمرحلة «ما بعد الحداثة» أكثر من
ارتباطها بمرحلة «الحداثة». فخلافاً للحداثة، تفترض العولمة القفز
فوق الحدود الجغرافية التي شيّدتها الحداثة، وجعلت منها مسلمات لا
يمكن المساس بها. كما أنها، أي العولمة، تهز أحد أسس مفهوم الحداثة
المتمثل بالدولة -
الأمة،
وتجعل مسألة السيادة الوطنية مسألة نسبية. لذلك لا يمكن وضع علامة
مساواة بين العولمة والحداثة. إذ إن للعولمة سمات تجعلها مختلفة عن
الحداثة، ولها شروطها ومكوناتها. وهي تستند إلى كون العالم أصبح
أكثر ترابطاً وتشابكاً واندماجاً من أي وقت مضى. إن عالم العولمة
يختلف عن عالم الحداثة في كونه عالماً أصبحت فيه حركة الأفراد
والسلع والخدمات والمعلومات ورءوس الأموال أسهل وأسرع بما لا يقاس.
إنه عالم تقلصت فيه المسافات، وصار عالماً بلا حدود، على عكس عالم
الحداثة الذي يقدّس هذه الحدود.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - العولمة