Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوحدة العربية القائمة أبداً

 

 

مطاع صفدي*

جريدة القدس العربي - 12 فبراير 2008

إذا كانت السياسة العربية حرمت علي رجالها، من حكام وأتباع وإعلاميين، كلَّ تعامل مع مفردات الخطاب الوحدوي، فقد يكون الأغرب من هذا أن يمنع المثقفون العرب عقولَهم من التفكير وحدوياً، في أي شأن من شؤون الساعة العائدة إلي المصير العام سواء علي المستوي القطري أو القومي.

فالعصر الانحطاطي السائد قد يكون هو المسؤول الأول عن فقدان الذاكرة العربية لثوابتها التاريخية. فمن سمات الانحطاط هو إمعان الجسد المريض المُصاب به، في التحلل العضوي أو البنيوي. وفي علم الاجتماع السياسي يبرز منهج البحث القطاعي الذي يركز الجهدَ في فهم ظاهرة معينة يجري عزلها افتراضياً علي الأقل، عن بقية النسيج العام الذي يحيط بها ويتجاوزها. لكنه عزل مؤقت لا يلبث أن يعيد إدراج النتائج المحصلة تحت مظلة الرؤية الشاملة للحالة الاجتماعية العامة، بما يزودها بمعلومات تفصيلية دقيقة. وهذه بدورها قد تدخل تعديلات غير متوقعة أحياناً علي النظرة الكلية، وتغيّر من معايير الأحكام التي ستطلق عليها. فالسياسة في العالم العربي، وإن كانت من احتكار الحكام وأجهزتهم، ودون أن يكون للمنظمات المدنية أية آثار تُذكر في قراراتها أو مسالكها اليومية، إلا انها تظل مع ذلك هي الشاهدة الأبرز علي تحولات مجتمعاتها. أنها من نوع الشهادة الصماء التي لا تبوح بمكنوناتها إلا تحت ضغط الانتقادات العنيفة التي تتلقاها من قبل صنف المعارضة إن توفرت لها

بعضُ أسباب التعبير العلني والتحرك الجماهيري حولها أو معها. فالأقوال المأثورة عن طبيعة هذه السياسة الفوقية، وهي بمثابة انتقادات متواترة في معظمها، تتلاقي دائماً في الحكم عليها كونها مناهضة لأبسط مبادئ السياسة المتعارف عليها حضارياً، المنطلقة أساساً من هذا التعريف وهي أنها فنُّ التدبير العقلاني للشأن العام، أو ما يعبَّر عنه تداولياً بمصطلح المصالح الكلية لغالبيات المجتمع. فحين يجري التخلي عن العام يصبح الخاصُّ معيارَ كل شيء. لكن السياسي الحقيقي هو الذي يجعل من مصلحة الآخرين أساساً لمصلحته الشخصية التي لم تعد سوي الجزء القليل والأخير من هذه المصلحة العامة عينها. من هنا تجيء هذه الصفة لرجل السياسة أنه شخصية عامة. ولنا مثال راهن في النقد المتصاعد إعلامياً وجماهيرياً ضد الرئيس الفرنسي ساركوزي. إنهم يأخذون عليه أنه يدأب علي القيام بـ (استعراض) حياته الخاصة، أي أنه يأتي بالمخالفة المضادة لكونه صار رمزاً للجمهورية كرئيس لجميع مواطنيها. فحياته الشخصية لم تعد شأناً يخصه وحده: علي الرمز الأعلي ألاّ يفعل إلا ما يمكن أن يغدو مقبولاً عند غالبية الجمهورية، وإلا افتقد شيئاً من مشروعيته الرئاسية.

يجري ذلك في دولة كبري عريقة في تجاربها الديمقراطية كفرانسا. فكيف الأمر بالنسبة لنموذج الحاكم العربي الذي يترجم معيار الكلي إلي العدد الكمي، مجرداً عن الكيفيات. فهو الذي عليه أن يجمع كل السلطات في يده، وأن يسيطر علي مفاتيح الثروات أو مصادرها كلها في بلاده، وأن يكون السيد المطلق علي كل أحد في شعبه. وأن يكون الحاكم الأعلي لكل محاكم الدولة كما هو السجَّان الأعظم لكل سجونها. هذا عدا عن أن يكون فارس اللذات والشهوات الأول، كلها طبعاً. أما الخصائص الأخري في خانة الكيفيات، فلا شأن للحاكم العربي له فيها إلا بما يتعلق فقط بأصنافها الاستهلاكية البراقة المتداولة. لن يكون هو رجل الدولة الأكثر إخلاصاً لمبادئها ودستورها، الأوسع علماً وحكمة وعدلاً، والأنظف يداً من كل رشوة أو فساد، والأقوي علي أهل الرشاوي ومفاسد النفس والجيب. كل تلك الكيفيات والخصائص المستحيلة متروكة لألسنة الإعلام وأقلامها ترددها كالببغاوات تحت أعين ومسامع الجماهير المغلوبة علي أمرها، والمحشورة أجسامها كل ليلة تحت صخب وغضب الشاشات التلفزية وعربداتها اليومية المبتذلة والمتدفقة بخلائط خاطفة مخطوفة، من وجوه الساسة والقوّالين وأجساد المقتولين وخرائب المدن والبيوت العامرة المدمرة، ومعها إعلانات المأكولات والصباغات والمنظفات والسيارات الفاخرة وكذلك مجازر الإنسان وكوارث الطبيعة. إنها إعادة إنتاج كل العالم في كل الصور.. مع هذا الشرط الحداثوي المطلق: أن تكون كل الصور خاطفة مخطوفة، في مسلسل من العروض الصاعقة والانمحاءات الفورية، حتي لا تبقي علي ذاكرة ما لشيء ما، لوجهٍ لحدثٍ لكلمةٍ.

المجتمع العولمي ينصب علي الدولة العربية، أو العالمثالثية. يُقولب كيانها وشعبها في قالب من العزلة الشفافة. كل من فيها يصير جزءاً من بنيتها، يمارس مشروع عزلته الخاصة. رمال الصحراء التي مهما تجاورت ذراتها لا تتماسك فيما بينها، لا تنفتح علي بعضها. هكذا يجدد مجتمعُ العولمة استبدادَ الدولة المتخلفة. لا يعود الاستبداد رأسياً من القمة إلي القاعدة، لكن كل لُبْنة في جسم القاعدة والهرم، لا تعلم شيئاً عن اللبنة التي تلاصقها. قانون الاضمحلال من الكلي إلي الذاتي، ليس مسألة انحطاط فكري أو سياسي فحسب. إنه إعادة امتصاص الجيولوجيا (التحتية) للسوسيولوجيا الإنسانوية (الفوقية)، بحسب مصطلحات علم البيئة المستحدث. فقبل أن يتطور العقل الجمعي العربي إلي منعطف التحسس بما يسمي بالمفاهيم الجامعة، قبل استشعاره بـ (الكلي)، تحلٍّ صاعقة العولمة، لكنها لا تطيح بهذا العقل الجمعي الغريزي، بقدر ما تضاعف من جبروته وسطوته القديمة بآمرية جديدة نحو التَّذْرية الرمّلية. فإن (ازدهار) الليبرالية اليوم بين مثقفي اليسار العربي السابق يعبر تماماً عن نوع هذه الفردانية الرملية - إن صح التعبير - التي لا تميز بين فرد وآخر بشخصية إنسانية معينة تتطلع إلي مُثُلٍ كلية، بقدر ما تغلق (الشخص) علي حدود غرائزه ومطامحه الذاتية فحسب.

ليبرالية العولمة في المجتمع المتخلف لا تنتج أفراداً أحراراً، يبنون مواطنية مدنية متكاملة بين الواحد المستقل والكل المتضامن. إنها علي العكس: تشكل أخطر فعالية إجهاض لمثل هذه المسيرة المأمولة ما بين تفتح الشخصية الحرة للفرد واغتناء الشخصية الإنسانية العامة لجماعة الأفراد الأحرار. فالعولمي الليبرالي يطرح ثقافة الاستسلام لمرآوية الإعلام الآتي كبديل وهمي عن الواقع الحقيقي المأزوم للجماعة والفرد معاً. حريته هي في الاختيار بين معروضات الأفكار المقولبة سلفاً، والمنتمية كلياً إلي نوع الوهم الواحد، ومفرداته الطيارة في أقرب فضاء ملامس للعين والأذن، دون القلب والوجدان.

العولمي الليبرالي يستعيض عن العقل النقدي بمنظار السائح الأجنبي الذي يري إلي نكبات مجتمعه ومفاسده من حوله كتنويعات فولكلورية تخص مشاهدها المؤسفة وحدها. قد تستحق منه أحياناً بعض الإشارة أو الاهتمام السلبي. وإذا ما اضطر إلي سرد بعض فظائعها، فإنه يستثني عقله من البحث عن أسبابها، ويمنع خياله الخصب عن تصور حلول لها. وفي الآن عينه ينكر علي الآخرين حق الالتزام بالصالح العام. إذ لم يعد لهذا الصالح ثمة وجود عيني أو اعتباري بالنسبة لصاحب العقل الإنكاري، الذي يصير هو كذلك إنساناً إنكارياً وليس عقله فحسب. إنه لا يكتفي بوضع نفسه خارج الالتزامات السياسية ذات الطابع الكلي فقط؛ لكنه ينكر عليها حق الوجود في ذاتها، كما ينكر علي الآخرين حق الاعتراف بها. وهنا لا يعود الإنكار مجرد رأي أو موقف شخصي. فقد يتحول إلي حقل ألغام جماعية، متفجر بأيديولوجيات مستنبتة بفعاليات مضادة حتي لأبسط المسلمات الوطنية العادية، أو الأخلاقية الموروثة. فالإنكاري ليس هو المعارض، بل النموذج المعاكس له تماماً. الإنكاري ينصبُّ دائماً علي نفي الوجود سواء للحقيقة أو الخطأ. بينما يحصر المعارض همه في فك التشابك بين الحقيقة والخطأ، وتبرئة الأولي من وعثاء الثاني وانعكاساته المظلمة عليها. والإنكاري لا يأتي عبر مسيرة النهضة الصعبة، إلا في لحظة التيه بين مرحلة ملتبسة وأخري مستعصية من جدليتها الحضارية. أما المعارض فهو القائم بأدوار الشاهد الملتزم بأصول النهضة في مختلف مراحلها. ولا تبرز وظيفة الإنكاري إلا كمحاولة إلغاء لأدوار المعارض والتشويش علي نصاعة أهدافها وبداهتها.

قد تكون الأهداف الكلية التي تسعي إليها كل المجتمعات الواعية بصورة عضوية أولاً ثم بطرق منهجية إفرادوية، صعبة التحقيق. لكن هذه الصعوبة لا تبرر إنكار الهدف ومشروعيته العقلية علي الأقل. فالليبرالي العولمي الذي يتخلي عن ثقافة العدالة والحرية بحجة التعامل مع معطيات الواقع السياسي المباشر، لا يلغي إمكانية التغيير فحسب، بل يكرس أعطال هذا الواقع المريض جاعلاً منه نموذجه الأخير. وعلي هذا الأساس يقف الإنكاري علي طرف نقيض تماماً من المعارض. يتحول إلي حليف موضوعي لكل المستفيدين من هذه الأعطال والحارسين لمؤسساتها المنخورة. فالليبراليون الجدد في المجتمعات المتخلفة يُراد لهم أن يحلّوا مكان المعارضين الحقيقيين. وبالتالي فهم الشركاء المحتملون لأرباب السلطة إن لم يكونوا أمسوا من أصحاب هذه السلطة ورموزها الفاعلة اليوم أو غداً. فهم المنكرون لأية أهداف كلية جامعة. وليست لديهم خلافات جذرية مع طبقة الحكام التقليديين، سوي مطالبتهم بحصص من السلطة القائمة عينها، دون أية تعديلات إصلاحية جذرية في طبيعة الدولة الموروثة عن حقبة الاستعمار، ومن ثم عن حقبة الحكام التقليديين هؤلاء. فالصراع إذن هو حول التملك من السلطة القائمة كما هي، وليس من سلطة التغيير. فالتناقض الفعلي ليس بين هؤلاء والدولة المتخلفة، بقدر ما هو تناقض فكري ومنهجي مع المعارضة السياسية الجذرية، التي لا تزال متشبثة بالأهداف الكلية، والتي تعتبرها الكفيلة وحدها بتوفير الضمانات الحيوية والأخلاقية للوجود الإنساني المشروع، وليس لمجرد المصالح المجتمعية المتحولة.

وبمناسبة حلول الذاكرة الخمسينية لأول وحدة سياسية في تاريخ النهضة العربية المعاصرة، تبرز النزعة الإنكارية في أوج غرابتها المنطقية وغربتها عن انفعال الإنسان العربي بأهم محركات هذه النهضة وثوابتها التاريخية. فالوحدة العربية قائمة رغم كل آفات التجزئة والتفتيت التي تتناهشها من كل حدب وصوب. بل إن هذه الوحدة إن لم تكن تتجلي في الدولة الكبري المنشودة، فإن العرب موحدون في كل مآسيهم المتشابهة، في كل الأعطال البنيوية الضاربة في مختلف مجتمعاتهم. هم موحدون في الفقر والعوز والقمع السلطاني والغزو الأجنبي. ولكنهم موحدون دائماً في ثقافتهم ولغتهم وتاريخهم الماضي والحالي والآتي. والإنكاريون ينكرون علي هذه الأمة وحدة آلامها وآمالها. إنهم متوافقون مع أعداء هذه الأمة علي حرمانها من الشكل السياسي الموحد، وفي الرهان علي الإبقاء علي هذا الحرمان كأهم علة لحرمان الأمة من كامل شروطها النهضوية الأخري في القوة مع الكرامة والحضارة مع الحرية.

وفي عصر المجاميع الأممية الكبري، فإن العرب من دون كل العالم، هم المتملكون من كامل مداميك الوحدة العضوية، لكنهم هم الممنوعون الأوائل من دون البشرية كلها، في أن يكونوا ذاتَهم ووطَنهم ومستقبلَهم. ولقد عرف العرب كل أسياد الاستبداد العالمي المنكِرين عليهم أبسط حقوقهم في الاستقلال والوحدة. وها هم اليوم يواجهون الصنف الأحدث من الإنكاريين التابعين من بين أهلهم، بل من بين طلائع الأهل. إنهم من طائفة الليبراليين العولميين الذين آلوا علي أنفسهم أن يكونوا المبشّرين بثقافة الخطأ تحت اسم الحقيقة، بالتعجيز الإرادوي تكريساً للعجز المزعوم. وللفردانية المريضة كبديل عن المجتمعية المبدعة.
أما الوحدويون العرب فهم ليسوا الأبرياء تماماً من أخطاء الانفصاليين وأخطارهم، ولكنهم علي الأقل يعترفون بطوائف الإنكاريين علي أنهم الأحدث في قافلة الانفصاليين؛ وربما الأدهي والأصعب، لأنهم من أهل الهيكل ومن مدمريه كذلك.

* مفكر عربي مقيم في باريس


 

عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - سؤال الهوية