مجلة العربي الكويتية - أول أكتوبر 2004
إدوار الخراط
ثم اتفاق كبير على أنّ فكرتَيْ الأصالة الثقافية والهوية الوطنية متقاطعتان, تعتمد إحداهما على الأخرى, وتتغلغل إحداهما إلى صميم الأخرى.
لعل الأصالة والهوية تواجهان تحديًا بصعود مذاهب إنسانية يندرج فيها قَدْر من (العولمة) بمعنى التنميط, والتسطيح أي القضاء على الخصائص المميَّزة.
أزعم أن الثقافة يحكمها منظور تاريخيّ, أي زمنيّ, كما يحكمها في الوقت نفسه سلّمٌ من القيم اللازمنية اللاتاريخية.
في سياق ثقافتي الخاصة, أي الثقافة أو (الثقافات), المصرية العربية الإسلامية, أود أن أنفي عنها وهْمَ وحدة صلبة جامدة يفترض أنها تحشد كلّ مقومات وروافد هذه الأمة العربية - أو التي تسمّى أحيانًا بالأمة الإسلامية - في قالب واحد مُصمت تعوزه ظلال التنوع.
ومن ثمّ أبدأ بأن أؤكد التنوع في داخل تناغم شامل, وأنّ هذا التنوع هو عنصر إثراء, وليس, قطعًا, عنصر تشتّت أو تفرقة.
على العكس, فإن العناصر المشتركة واضحة جليّة في داخل ذلك الكيان متباين القسمات إلى أقصى حدّ, فضلا عن تلك العناصر التي نبادر إلى أن نراها عناصر عالمية, أي تلك التي تندرج تحت مظلة مذهب إنساني صاعد, مما يسهم في تأكيد أنّ هذه الثقافة ليست تركيبة منعزلة, مفصولة, مغلقة على التعصب والتحيّز, بل هي مقوّم عضوي متفاعل مع مقوّمات أخرى في كيان كلي.
لا يتوهمنّ أحد أنّ في هذا التأكيد على التنوُّع دعوة إلى انشقاق مزعوم أو انفصالية مفترضة.
وإذا سلّمنا بأننا هنا بإزاء تعددية في (الثقافات) أو في المذاهب الإنسانية الصاعدة, فإننا نشير, على الفور, إلى أن بين هذه الثقافات أو المذاهب الإنسانية قنوات عريضة من التواصل المتبادل, سواء كانت تاريخية أو راهنة, تسهمُ في تخصيب وتكامل روافدها المتنوعة التي تصبّ بالفعل في نهر واسع عريض وواحد.
لا أظنني بحاجة إلى أن أقيم البراهين على فكرة التنوع داخل التناغم في الثقافة أو الثقافات العربية الإسلامية. الأدلة على ذلك كثيرة, من التعددية الإقليمية السياسية, إلى تباعد اللهجات العامية أو الدارجة في اللّغات (الأمّ), والممارسات ثنائية اللغة في المعاملات الرسمية أو في الإبداعات الأدبية والفنيّة, وهكذا.
أقدّر أن أصالتنا الثقافية, لا تُتصوَّر - بداهة - على أنها انتماء عنصري أو عرقيّ, بل أرى أنها تراكمٌ وانصهار للمقومات الموحدة بحيث تتجاوز الحدود السياسية, لكنها مع ذلك تصدر عن منابع متعددة المرجعيات: في مصر مرجعيات فرعونية قبطية إسلامية ومعاصرة, وفي العراق أشورية, وفي لبنان وسورية وفلسطين فينيقية, في المغرب مرجعية بربرية أمازيغية, في السودان والصومال تراث إفريقيا السوداء, ومن ثَمّ فإنها تسهم في صعود مذهب إنسانيّ جديد وتاريخيّ في الوقت نفسه.
ومن المفارقة, ومع ذلك اتساقًا مع طبيعة هذه
الظاهرة الدينامية, فإن تراثًا عربيًا إسلاميًا مشتركًا يذهب شوطًا بعيدًا
في تآلف وتناغم هذه التراثات المتنوعة, وإدماجها في كيان عضويّ مركّب متعدد
الطبقات يمكن أن يشكلّ - في الحق - مذهبًا إنسانيًا صاعدًا.
التراث هو ما نملكه ولا يملكنا
سوف أقول دحضا لسوء فهم شائع وجاهز, إن التراث - بداهة - هو ما نملكه ولا يملكنا, سواء كان ينتمي إلى تقاليد فولكلورية, أو عريقة كلاسيكية, سواء كانت محلية أو إنسانية تتجاوز الحدود الإقليمية. لا يقلّ عن ذلك بداهة أن علينا أن ننفض عنه تراب السنين, أن نعيد إحياءه, أن نحياه من جديد, إما عن طريق مناهج منظمة وتقنيّة, أو عن طريق أساليب فنية تعيد تأويله وتفسيره.
يكاد يكون من الواضح بذاته أننا نختار تراثنا, نعيد إبداعه, ونتبنّاه.
أفترض أنه ما من بديل, لدعم أصالة ثقافتنا العريقة, عن تمحيص جذور الأوضاع الراهنة من تخلفنا, بكل ما في وسعنا من أمانة وتعمّق, وأن نجهد في أن نقضي على القمع السياسيّ والاجتماعيّ, وأن نعطي أولوية للمتغيّرات في الوقت نفسه الذي نصون فيه ما هو قابل للحياة في العناصر الثابتة من تراثنا.
هنا أؤكد الحاجة اللاعجة لثقافتنا أن تَدْحَرَ هجمة (شِبْه ثقافة) تقدمها قطاعات معينة حاكمة في الغرب, تروج للنزعة الاستهلاكية, ولفيض جارف من الإعلام المضلّل المدبّر, (شبه ثقافة) تضر بشعوب الغرب والشمال بقدر ما تضر بشعوب الجنوب أي العالم الثالث, هي شبه ثقافة مآلها أن تُعطب الهويّة الوطنية في كلا المجالين.
ومن ناحية فإن ما ينال من أصالة ثقافتنا, في الصميم, خضوعها لما تمليه نزعات سلفية.
لا يمكن أن تزدهر الثقافة إلا بقدر ما تؤكد حريتها الأصيلة, وتُنحّي عنها طغيان الماضي, وأن تحافظ على ذلك التوازن الدقيق بين سيادة العقل من ناحية, وجموح تلك القوى الداخلية التي لا تخضع لسيطرة العقلانية الجامدة, وهي سيطرة غير عقلانية بل هي تضر بالعقل.
يمكننا أن نرى استمرار آثار ثقافات فرعية, في ثقافتنا الشاملة, بقدر أكثر ما لعلنا نراه في الغرب, هي آثار الثقافات الفرعية القبلية, أو الطائفية, أو المنحازة لجنوسة ذكورية, أو الطبقية أو العرقية الإقليمية: (البدوية مثلاً, أو العمالية, أو النسوية, أو الغجرية, أو القبطية, أو البربرية الأمازيغية, أو النوبية وهكذا).
لست على الإطلاق من محبّذي أو مؤيّدي القضاء على هذه العناصر أو تصفيتها, على العكس يمكن أن تكون, أو لعلها بالفعل, هي مقومات لمذاهب إنسانية صاعدة تتميز بالحيوية. أعتقد أن العامل الموحَّد الشامل هنا أفعل بكثير من العملية الانشقاقية أو الانفصالية الكامنة, وهو صراع يمكن أن يكون مصدرًا للقوة بدلاً من أن يكون حافزًا على الوَهَن.
وهو ما يأتي بنا على الفور إلى تعددية أخرى في الثقافة أو (الثقافات) العربية, بين الثقافة السلفية المرتبطة بالماضي التي تعتنق وهمًا مستحيلاً عن العودة إلى حقبة ذهبية وسيطية لثقافة خاضعة لضرْب رجعيّ من الفكر يُعزى إلى عصور التدهور والانحطاط وتُنحِّي الآفاق المشرقة من تراثنا, وثقافة مستنيرة قائمة على الفطنة والتسامح والحدس السليم والعقلانية ولا تُسلِم نفسها للممارسات الشكلية لطقوس جوفاء.
أي أنني أرى الأصالة في ثقافة متحررة تتأتى علّة وجودها في نُشْدان قيم مثل العقلانية والحرية والعدالة, وهي مفهومات غير مبتذلة مهما قال بعض ما بعد الحداثيّين.
إن العوامل الأساسية التي ترسخ وتدعّم أصالة الثقافة هي, على الصعيد العقلي: انفتاحها أمام الأسئلة, على عكس الجمود العقائدي. وعلى الصعيد السياسي: الديمقراطية على عكس الشمولية التوتاليتارية أي الوصاية أو الاستبداد كما يحدث في البلاد العربية.
إنني أرى الخيار الوحيد هنا هو أولوية ثقافة العقلانية - مرنة وعضوية - ثقافة النسبية لا ثقافة المطلقات الجامدة, ثقافة التسامح والحوار مع الذات ومع (الآخر) على السواء, على عكس ثقافة الهيمنة السلفية أو الأفكار التي تَمُتُّ إلى الخرافة من قبيل اللاعقلانية وهي التي يستحيل بحكم طبيعتها نفسها, أن تقع تحت طائلة الانضباط أو التحكم.
وفي مجتمع اليوم ما بعد الرأسمالي, مجتمع
التقنية العالية, القائم على المعلوماتيّة, أجد أن الأمل الوحيد المعقود
على ثقافة عربية مزدهرة, لا مجرد قادرة على البقاء, هو في صيانة وتنمية
رصيد مشترك من (الثقافات) العربية المتنوّعة, بما فيها من عناصر التقارب بل
من عناصر الوحدة, جنبًا إلى جنب مع عناصر التنوع والتعدّد التي تسهم في
إثرائها, وتومئ إلى آفاق مفتوحة, إلى مذاهب إنسانية جديدة صاعدة.
الهوية الوطنية توازن بين الثبات والتغير
أجد أن الهوية الوطنية باعتبارها مقوِّمًا له دلالته في مذهب إنساني جديد, ليست جوهرًا ميتافيزيقيًا أبديًا قبليا, ليست (معطى), محددا مسبقا, ليست تراثًا محتومًا لا حول عنه, مقذوفًا به من الماضي ومنيعًا لا يؤثر فيه البُعد الزمني, ولا المتغيرات التاريخية, بل هي واقع ديناميّ, تاريخيّ, زمني, لجسد تعاد صياغته وتشكيله وتنميته. وهي من ثم لا يمكن تصوّرها على نحو عقائدي, باعتبارها حقيقة أسطورية بلاغية شبه رومانسية. كما كانت بعض تيارات الفكر العربي تزعم في الستينيات.
الهوية الوطنية لا تكتسب مقدرتها على البقاء - فضلاً عن مصداقيتها - إلا بمقدرتها على التطوّر والتفاعل مع المعطيات الاجتماعية السياسية والثقافية التاريخية, إلا بوعيها بهذه الخصيصة من المرونة والانفتاح والاستجابة النقدية.
لا يعني هذا أنني أقترح مفهومًا لهوية مجانية, عفوية, متقلبة, ولا أن تكون تلفيقا معتسفا من عناصر متغايرة.
أميل إلى أن أرى الهوية القومية العربية باعتبارها تجمع بين مقومات الثبات والتغير.
لاشك أن مقوما جوهريا من الهوية هنا هو تراث عريق يتجاوز الحدود العرقية كما يتجاوز المحدّدات الجغرافية السياسية. وقد تأتى عن الظاهرة المدهشة في تعريب وأسلمة المنطقة التي نعرفها باسم العالم العربي, عبر السنين الطويلة.
إلا أن هذا التراث - وهو عامل موحّد - لا يمكن فصله تعسّفيا عن العناصر قبل العروبية التي تواصل إثراءه وتنويعه.
ليس التراث العربي إذن قدسيًا ولا هو قالبيّ مصمت, وأقدّر أن ذلك ينعكس مباشرة على تشكيل الهوية الوطنية.
وبداهة فإن من الوهم الصراح - من الناحية الأخرى - أن إسقاط حقبة تاريخية جاهزة يمكن أن يحدث على الواقع الراهن, الماضي لا يمكن أن يستنسخ ولا أن يقلد.
أزعم أن العقلية العربية, على عكس اعتقاد شائع جار وجائر, تغذوها تعددية تستنفر التأمل وقد تحيّره.
بينما للعقلانية, والاعتدال, واللواذ بنوع من التسامح العملي الأرضي, أسسها العميقة في تكوين هذه الهوية, فإن هناك فيها كذلك, عناصر الاستبهامي, الفانتازي, اللاواقعي والملحميّ التي تكوّن لها السدى واللحمة من تراثها, الجانب الفولكلوري الذي لا يني يجدد نفسه, استمرار خصيصة ألف ليلة وليلة وأساطيرها, التحدي الشامخ للواقع اليومي العادي كما تجسّده صروح المعابد والكنائس والجوامع السامقة التي تكسر قواعد المنظور الموضوعة على المقياس البشري, وهو منظور - كما لا يخفى - موروث عن الإغريق وقد تحدّته الثقافة القوطية الغربية نفسها.
بينما أفاد الفاتحون العرب من مرونتهم في استيعاب الثقافات التي سيطروا عليها, تاريخيا, في شئون الإدارة ومالية الدولة والتقنيات الحربية, على سبيل المثال, فإن الثقافة العربية الإسلامية للعرب الوافدين والمتعربين قد احتفظت بخصيصة تجريدية لعلها تُعزى إلى تلك الشساعات من الصحراء الأبدية التي تبدو بلا نهاية, خصيصة ميتافيزيقية تظل قادرة على إلهام الفنون الجميلة وليس فقط إلهام الصناعات الحرفية في الخطّ والتصميم, وهي صناعات, بل فنون لا نهائية بطبيعتها.
إن العامل العملي بل البراجماتي في الهوية الوطنية العربية لا يتناقض مع حس بالنشوة الصوفية هي صوفية تقوى على مغالبة مرّ العصور, حتى لو اختزلت أحيانًا إلى مجرد رُقى وتعاويذ طقوسية لا فحوى لها.
ذلك كله يفترض أن ثم وجودا بالفعل لهوية وطنية عربية, من غير أن تسبغ عليها أي خصائص ميتافيزيقية أحادية البعد.
الهوية الوطنية هنا - وهي مفهوم شامل تندرج تحته وتتآلف فيه مكوّنات متنوعة, وإن كانت غير متناقضة - لا يمكن أن تُتصوّر على النحو الخام البكر إلى حد ما, الذي صدرت عنه في نشأتها عندما كان يلهمه تأكيد الذات وحدها, ونفي الآخر إما بالمواجهة أو بافتراض عدم وجوده.عليها الآن أن تتأقلم مع - وتندمج في - مذهب إنساني صاعد, في ظاهرة العالمية التي تكتسب أرضًا جديدة كل يوم, وهي ليست عالمية المركّب الصناعيّ العسكري, ما بعد التقني الذي تكون من الاحتكارات عابرة الدول وعابرة الجنسيات, بل هي عالمية قائمة على القرار الديمقراطي, على احترام التفرّد, على التتنوع الثقافي والقومي, حيث يمكن أن يمتزج التغاير والتساوق المتبادل, وهي عملية قادرة على تجديد ذاتها - جدليا - على أصعدة عدة وعلى سلالم عدة من مكونات الهوية في مستوى الثقافات الفرعية.
إذا سُمح لي بأن أستعير نغمة شخصية, فإنني أؤكد على الفور أنني أنتمي إلى مثل هذه الثقافة الفرعية, المصرية القبطية التي أحسّها, في أعمق أعماق كياني, متصلة لا انفصام لها بالثقافة العربية الإسلامية السائدة.
ولعل هذه هي حال (العرب) الأكراد والنوبيين والبربر والشوام, إن لم يكونوا عربًا عاربة, فهم عرب (متعربة), أي بالصياغة القديمة (عرب مستعربة). فهل يمكن لهذه الثقافات أن تتطوّر إلى مذاهب إنسانية صاعدة?
لا أعتقد أن بعض دعاوى المستشرقين القدامى, في هذا الصدد, وفي هذه الآونة, يمكن أن تؤخذ بجديّة, دعاوى أن العقلية العربية تتميز حتمًا بالقدرية, وإنكار الحرية الفردية, وأن العرب, بذواتهم, لا يمكن أن يتعقلوا مفهوم التجريد, وأنهم, بالتعريف, كائنات حسيّة لا يحفزها إلا المجسم العيني الفوري والجزئي - أي العرضي العابر - وأن التنظير الذهني العقلي غريب عن العقلية العربية, من قبيل الشك المنهجيّ, وهكذا.
ذلك كله تدحضه, بسهولة, تراثات أسهمت في ترسيخ أسس الثقافة الغربية السائدة الآن, كما تدحضه الجهود العقلية الراهنة التي يبذلها عرب يمكن أن يستوعبوا وأن يتمثلوا تلك الثقافة الغربية, بل هم بالفعل يتمثلونها ويُسهمون فيها.
وما من حاجة للقول بأننا نملك لغة فصحى هي مكون موحد قوي للهوية العربية وللثقافة العربية. ذلك أنه, من وجهة نظر معينة, فإن اللغة العربية, بحد التعريف, لغة مقدسة, مطلقة, بل تجري التقاليد بأنها لغة إلهية, ومع ذلك فإن اللغة العربية واسطة من وسائط الثقافة المعاصرة, وما من بديل إلا بأن تكون مرنة, نقدية, نسبية ودينامية.
إن هذه الخصيصة الثنائية للغة التي يجري فيها
هذا الصراع والتي تميل نحو التوفيق بين جانبي الصراع, تدعم هويّة قوميّة هي
نفسها أحادية وتعددية, تجمع بين العالمية والقسمات المحلية التي لا عوض
عنها, مما يقطع شوطًا كبيرًا نحو تشكيل كيان كلّي عفيّ وصحيح البنية.
عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - سؤال الهوية