جريدة الحياة اللندنية
7 ابريل 2009
يورجن هابرماس
ساد، زمناً طويلاً، رأي ربط
تحديث المجتمعات بغلبة النازع الزمني الدنيوي على معتقدات السكان
وأفكارهم. واحتج اصحاب هذا الرأي بثلاث حجج. وذهبت الحجة الأولى الى ان
التقدم التقني والعلمي يبعث على فهم الواقع فهماً مداره على الإنسان،
وينزع من الواقع المادي والاجتماعي الهالة السحرية والغيبية التي تحفه
وتزعم تفسيره وتعليله. ولاحظت الحجة الثانية ان الهيئات (الكنائس)
والجماعات الدينية خسرت دالتها على القانون والسياسة والخدمة
الاجتماعية والثقافة والتربية والعلم، وذلك في إطار تمايز الوظائف
واختصاصها المتعاظم، وذهابها الى هيئات اجتماعية فرعية تتولى تصريفها
وتشغيلها. وخلصت الحجة الثالثة من تقلص الأخطار المادية وتوقع حياة
أكثر أمناً واستقراراً الى نضوب حاجة الفرد الى صلة بـ «ماوراء»
الشاهد، أو بقوة كونية مهيمنة، يستعين به (أو بها) الى السيطرة على
حوادث الدهر غير المقدّرة.
والحق ان تعليل غلبة النازع الزمني والدنيوي على المجتمعات الغربية، من
طريق الحجج هذه، يتعرض لانتقاد حاد منذ عقدين. فيلاحظ المنتقدون ان
الولايات المتحدة الأميركية لا تزال ميدان حركات وفرق دينية متوثبة
وناشطة من غير كلل. وليست الولايات المتحدة استثناء. فالعولمة سلطت
الضوء، في أنحاء الأرض الأربعة، على تجدد الحركات والفرق الدينية، على
أنواعها. ويتضافر على ترسيخ الرأي هذا توسع الأديان الكبيرة، وضمها
مؤمنين جدداً إليها، وتفاقم العَرَض الأصولي هنا وهناك، واستثمار طاقة
التيارات الأصولية العنيفة في الأفكار والمناهج السياسية.
وتصدق الملاحظات الثلاث هذه في الهندوسية والبوذية مقدار ما تصدق في
ديانات التوحيد الثلاث. ويلاحظ التوسع في افريقيا والشرق الأقصى وجنوب
شرقي آسيا. وتضطلع الأبنية التنظيمية المسكونية (الأممية) والمؤتلفة من
روافد ثقافية كثيرة، شأن الكنيسة الكاثوليكية، بدور ناشط ومؤات
للعولمة، على خلاف الأبنية الوطنية والمحلية، على مثال الكنائس
البروتستانتية. وتتقدم شبكات الإسلام المتناسل بعضها من بعض خارج سطوة
هيئات مركزية، تتقدم صفوف الدعوات المستفيدة من العولمة. وهذا ظاهر في
بلدان جنوب الصحراء الأفريقية. وتضارعها حيوية شبكات الدعوات الإنجيلية
في أميركا اللاتينية.
وتشترك المجموعتان بـ «أصوليتهما».
فهما تناصبان العالم الحديث العداء أو توليانه الظهر، وتنتظران يوم
الحساب وتعتقدانه وشيكاً، وتعتنقان معايير أخلاقية صارمة، وتحملان
كتبهما على تأويل حرفي. وعلى خلاف المجموعتين، تنزع «الحركات الدينية
الجديدة» الى تلفيق «كاليفورني». ولكنها تشارك المجموعتين تديناً
متحرراً من أطر الهيئات المنظمة على مراتب. وولد من هذه الحركات، أو
نمطها، 400 فرقة في اليابان. ويبلغ عدد أشياع فرقة فالون - غونغ بالصين
80 مليوناً. ولا يقتصر إعمال العنف الديني في العمل السياسي على إيران
وبعض منظمات الإرهاب المعروفة. فسياسة القوميين الهنود، وتعبئة اليمين
الديني في الولايات المتحدة قبيل غزو العراق وفي أثنائه، وحرب الهند
وباكستان، وصراع الشرق الأوسط، كلها قرائن على انتشار التوظيف الديني
في ثنايا المنازعات التاريخية الكبيرة والطويلة.
ولا يُخلص، على وجه الضرورة، من تمايز الوظائف الاجتماعية وتخصصها،
واختصاص الهيئات الدينية تالياً بتبعات العون الروحي، الى اقتصار
الهيئات هذه على دور فردي. فما لا شك فيه هو أن غلبة تمايز الوظائف
ينجم عنها تدين فردي وشخصي. ولكن هذا الضرب من التدين لا يؤدي الى
خسارة الديانة معناها، ولا الى خروجها من الفضاء السياسي والثقافي، أو
من حياة الأفراد وهمومهم وعلاقاتهم.
وقد يجوز وصف الوجدان العام والمشترك بأوروبا بوجدان «مجتمع ما بعد
زمني ودنيوي» للقول إن الوجدان هذا يَرضى، موقتاً، دوامَ جماعات دينية
في بيئة لا تنفك من استكمال غلبة النازع الزمني والديني. وعلى هذا،
فالتغير إنما يطاول الوجدان وليس المباني الاجتماعية والهيئات.
وربما ترتب التغير هذا على ثلاث تظاهرات: أولاها هي تصوير الإعلام
النزاعات العالمية غالباً في صورة صراعات دينية، فيضعف التصوير على هذا
النحو اليقين الزمني والدنيوي بانحسار الديانات، ويبعث الشك في انتصار
النظرة الغربية الى العالم. وثانيتها اضطلاع الجماعات الدينية بتأويل
الحياة السياسية في مجتمعات زمنية ودنيوية، وتصديها الى عمل التأويل
هذا من غير إنكار الجماعات الزمنية والمدنية، السياسية والمهنية
والثقافية. ويلقى التأويل اصداء قوية في مجتمعاتنا الغربية الكثيرة
المعايير، والمتنازعة. ففي مسائل مثل الإجهاض أو استباق ولادة ذوي
العاهات الثقيلة، او مثل المسائل المتصلة بالأخلاق وعلوم الحياة
وتقنياتها ورعاية الحيوانات وتغيير المناخ، تختلط الحجج على نحو لا
يدري المرء معه مصدر الحدوس الأخلاقية الراجحة والحسنة. وثالثة
التظاهرات هي الهجرة الاقتصادية، وتدفق لاجئين يتحدرون من ثقافة عميقة
الصبغة التقليدية. فاختلاف الديانات تعضده وتواكبه كثرة صور الحياة
التي يمثل عليها المهاجرون، ويتمسكون بها. وهذا تحد يفوق امتحانه خطورة
امتحان كثرة الأحكام الدينية.
وعلى هذا، تبدو المجتمعات الغربية «ما بعد زمنية ودنيوية». فهي مجتمعات
تطلب الديانات فيها لنفسها دوراً علنياً وعاماً، بينما يضعف اليقين
الأمني والدنيوي بانحسار الدين على صعيد العالم في سياق تحديث متعاظم.
فما الذي ترتبه على الدول - الأمم الغربية علاقة مدنية لائقة بين
المواطنين، تتولى الحفاظ على شرائط التعدد الثقافية والفلسفية.
وفي ضوء التجربة الغربية، اتفق تحصيل الأقليات الدينية حقوقاً كثيرة،
مثل حرية الضمير وحرية الشعائر وإدارة الشؤون الطائفية، مع تحول سلطة
الدولة سلطة زمنية. وغداة حركة الإصلاح الديني (البروتستانتي) كان على
الدولة ان تقر الأمن والطمأنينة. وعلى سلطة الدولة، في سبيل إقرارهما،
انتهاج حياد فلسفي بين الجماعات المتصارعة. ومكن هذا الجماعات الدينية
الجزئية من الانخراط في المجتمع، والبقاء غريبة الواحدة عن الأخرى،
معاً. وسرعان ما بدا «التعايش» هذا غير واف. فلا يسع الدولة الدستورية
ضمان حرية دينية واحدة إلا شريطة ألا ينكفئ مواطنوها الى أفق طوائفهم
الدينية الضيق، وألا يعتزل بعضهم بعضاً. ويقتضي هذا ان تضعف قبضة
الثقافات الفرعية المذهبية على أفرادها، فيتبادل هؤلاء تعارفهم على صفة
مواطنين في المجتمع المدني، اي ممثلين لجماعة سياسية (ووطنية) واحدة
وأعضاء فيها.
والرابطة الجديدة هذه بين الدولة الديموقراطية والمجتمع المدني
والذاتية الثقافية الفرعية (أو استقلال الجماعات الفرعية الذاتي)، هي
مفتاح فهم النزاع الراهن بين الدولة الدستورية الجامعة وبين الجماعات
الفرعية. فالدولة الليبرالية تكفل الحرية الدينية كفالتها حقاً
أساسياً. ولكن الدولة الديموقراطية وحدها تضطلع بتطبيق هذا المبدأ،
والعمل به من غير انحياز. وهو الفرق نفسه بين التسامح الذي يذهب الى
أفكار نراها مخطئة ومغلوطة، وبين التعارف الذي ينشأ عن انتماء الى
جماعة تضم من غير تحفظ مواطنين متساوين في الحقوق. ومثل هذه الجماعة
تجمع المساواة المدنية والوطنية الى المباينة الثقافية (الدينية)،
وتكمل الواحدة الأخرى من غير تنافر.
ولا شك، في ألمانيا، أنه ما أقام شطر كبير من المواطنين الألمان
المتحدرين من اصل تركي والمتدينين بالإسلام على الرسو السياسي في وطنهم
الأول، فوق رسوهم في وطنهم الجديد، خسر الرأي العام (الوطني بألمانيا)،
وخسرت صناديق الاقتراع، أصوات المواطنين هؤلاء، ودورها التصحيحي
والمعدّل.
ولا بد من الإقرار بأن المهاجرين المسلمين لن ينخرطوا في المجتمع
الغربي على رغم ديانتهم، بل مع ديانتهم وبسائقٍ منها. ويتأتى هذا إذا
ارتفع الخلاف بين الهوية الثقافية والاندماج المدني والوطني، وجمعا على
وجه التكامل. ولعل شرط التكامل هو الرجوع عن نسبية ثقافية تتقنع بقناع
نقد العقل، من وجه، والتخلي، من وجه آخر، عن عقيدة زمنية متحجرة على
نقد الدين. والدولة الدستورية لا تقتصر على الطلب الى المواطنين طاعة
القوانين، بل هي تحملهم على معيار أخلاقي مدني ووطني. ويقتضي هذا منهم
استعادتهم الطوعية والإرادية استظهار الجماعة الوطنية بوحدتها الزمنية
الدنيوية جنباً الى جنب مع مسلّمات إيمانهم الديني. وفصل الدين عن
الدولة إنما أوجبه الخروج من بابل المعتقدات الى أطر مؤسسات الدولة،
وقضت به الحاجة الى «ترجمة» المعتقدات الخاصة الى لغة سياسية مشتركة.
*
فيلسوف ألماني، والمقالة محاضرة في معهد نيكسوس، جامعة تيلبورغ
الهولندية، عن «لوديبا» الفرنسية، 11- 12/2008، إعداد و. ش.