جريدة الحياة اللندنية
7 مارس 2008
د. عبد الإله بلقزيز
يعيش الناس الدولة كأمر واقع موضوعي لا يتساءلون إزاءه،
أو لا يحولونه الى موضوع للتفكير. إنها معهم، بينهم، فيهم، في كل لحظة من
دون أن يكون كيانها مادة للتأمل، للفهم. كالدين هي في هذه الحال: يحمله
الناس بين جوانحهم، يمارسونه عبادات وشعائر، يهتدون بتعاليمه في سلوكهم،
يحرصون على اجتناب ما نهت عنه أحكامه... لكنهم لا يتخذون منه موضوعاً
للتفكير. يختلف الأمر عند النخب قليلاً. مقابل واقعية الدولة في وعي
الجمهور، تتمسك النخب بنظرة معيارية الى الدولة. لا يعني ذلك أن الناس
(الجمهور) لا يكوّنون صوراً الى الدولة. لا يعني ذلك أن الناس (الجمهور) لا
يكوّنون صوراً ذهنية عن الدولة التي يريدون، لكن هذه الصور تبدو لصيقة الى
حد بعيد بمطالب حياتية مباشرة. أن تكون الدولة مرغوبة ومثالية، معناه أن
تكون أكثر رحمة ورفقاً بالناس، أن ترفع الضرائب عن كواهلهم أو تخفف من
وطأتها، أن ترفع سقف أجور الموظفين وأن تتدخل لحمل أرباب العمل على رفع
أجور العمّال، أن تؤمن التغطية الصحية للمواطنين، أن تمنع الزيادات في
الأسعار، أن تحمي الأمن الاجتماعي والممتلكات...
هذه المطالب – المعلنة
أحياناً والصامتة في معظم الأحيان – صور ذهنية عن مثال للدولة يمكن
أن يحملها أي مثقف من خارج عوام الناس. لكنها ليست قائمة في وعي
الجمهور على مقتضى نظري وليست تُدرك عنده بما هي بنية من العلاقات
تصنع كيان الدولة وتكرّس هذا المضمون السياسي أو ذاك من المضامين
التي يمكن أن تقوم عليها. يختلف الأمر عند النخب – والمثقفين خاصة
– حيث التفكير في الدولة مما يدخل في دائرة الإمكان. ها هنا تتعدد
الصور النظرية والمثالات بين مَن يريد الدولة محكومة بمرجعية
الشريعة ومن يريدها منفصلة عن الدين او زمنية تستمد شرعيتها من
الأمة كمصدر للسلطة، ثم بين من يريدها متدخلة في الاقتصاد ناهضة
بدور الرعاية الاجتماعية ومن يريدها محايدة أمام التنافس الاقتصادي
الحر غير ذات علاقة بحقل الإنتاج... الخ. من النافل القول إن هذا
التباين في النظر الى الدولة ليس منفصلاً عن تباين في خيارات
السياسة نفسها تجاه سلطة الدولة، فالأول تعبير فكري عن الثاني أو
خلفية نظرية له يترجمها العمل السياسي في رهاناته المختلفة على
السلطة.
ومع ذلك، بقدر ما نستطيع أن نسلّم بأن ثمة صراعاً
سياسياً على الدولة في المجتمعات العربية المعاصرة، بمقدار ما
يتعذر القول – بالاطمئنان نفسه – بأن ثمة جدلاً فكرياً حقيقياً حول
موضوع الدولة في الفكر العربي. كثير هو الحديث حقيقياً حول موضوع
الدولة في العالم العربي: علاقتها بالدين، علاقتها بالمجتمع
المدني، الدولة والاقتصاد، الدولة وحقوق المواطنة... الخ. لكن معظم
المكتوب والمتداول ليس يرقى الى مستوى الإنتاج الفكري بسبب فقر
محتواه المعرفي، وضعف خلفيته النظرية، وفقر قاموسه المفاهيمي،
وافتقاده الى الاتساق المنطقي والمنظومية، وانتقائية موضوعاته
ومشكلاته، ثم الطابع السياسوي الغالب عليه معطوفاً على لغة وصفية
ذات نَفَس صحافي تطغى عليه. إن ما هو متاح من «أفكار» حول الدولة
أقرب ما يكون الى السجال الأيديولوجي اليوم منه الى الجدل الفكري.
وهو سجال قد يزوّد الصراع السياسي حول الدولة بما يحتاج إليه من
طاقة أيديولوجية للاشتغال. لكنه – قطعاً – لا يمكن أن يزوّد الوعي
بما يحتاج اليه من معرفة بهذه الدولة.
لا غرابة، إذاً، إن
لاحظنا ظاهر شاذة – من منظور النظرية السياسية (الفلسفة السياسية
وعلم السياسة معاً) – من قبيل الخلط المفاهيمي والتخبُّط الإشكالي
في النظر الى جملة من المسائل المرتبطة بمفهوم الدولة لدى كثير
ممّن يتصدون للقول فيها والتأليف. نعم، نحن نسلِّم – ابتداء – بأن
مقاربة مسألة الدولة متنوعة بطبيعتها أو قل بتنوع زوايا النظر
إليها وتنوُّع واختلاف الأدوات المنهجية. البحث في الدولة من منظور
علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا السياسية يختلف حكماً عن البحث
فيها من منظور فلسفي. وهما معاً يختلفان عن نظرة المؤرخ إليها،
وقطعاً عن نظرة الباحث في العلوم السياسية وفي القانون على نحو
خاص. غير أن التباين شيء والخلط الهجين الذي نقرأه اليوم شيء آخر
مختلف تماماً، لأنه في جملة الكلام السائب غير المنضبط الى أية
مقدمة فكرية أو منهج في النظر.
لنأخذ مثالاً واحداً عن ذلك
الخلط. يجري الحديث بسيولة عجيبة – منذ عقدين – عن المجتمع المدني
في البلاد العربية: في الصحافة والإعلام، في الجامعات، لدى
المنظمات غير الحكومية، وأحياناً في خطب رجال الدين. الجميع يتحدث
في المفهوم وكأنه واضح في الأذهان، وكأنه بديهة! لو ألقيت سؤالاً
على أي من المتحدثين عن معنى المجتمع المدني، لما ظفرت بجواب
يُطمئن شعورك بأن للحديث في الموضوع بوصلة نظرية. إن دقَّقت قليلاً
في ما يُقال ويُكتَب حوله، وجدت معنى واحداً وحيداً للمجتمع المدني
يتردد: كل ما هو خارج الدولة من مؤسسات اجتماعية. وهكذا يُفهم
المجتمع المدني بحسبانه مقابلاً للدولة أو منفصلاً عنها! ويصبح
الرهان عليه – بالتالي – رديفاً لإضعاف الدولة أو الحد من قدرتها!
تستطيع أن تكتشف الخلط نفسه بين الدولة والسلطة في معظم ما يُكتب
في الموضوع، و – أحياناً – حتى في الأوساط الجامعية والأكاديمية!
وحينها لا يبقى أمام المرء سوى أن يشعر بأن شعبوية ما جديدة بدأت
تطرق أبواب الصحف والمجلات الثقافية والجامعات بعد أن عاثت فساداً
في السياسة، وأن يشعر معها بفقدان المعنى!
لهذا الخلط
والفوضوية والالتباس أسبابها. وأول تلك الأسباب وأمها الفقر
المعرفي وضعف الصلة بمصادر الفكر الإنساني. إن السؤال الطبيعي الذي
يمكن أن يطرحه مَن لديه قليل إلمام بالموضوع هو: كيف يمكن أن يكون
لدينا إنتاج فكري حول مسألة الدولة إذا كنا نجهل ما كتبه أفلاطون،
وارسطو، وابن خلدون، وماكيافيلي، وسبينوزا، وروسو، ومونتسكيو،
وكانط، وهيغل، وماركس، وغرامشي، وكاسيرر، وكارب بوبر، وإريك فيل،
ولولانتزاس...؟ وكيف يمكن أن نتحدث في الدولة والحرية والمواطنة
إذا كنا نجهل فلسفة الأنوار وجون ستيوارت ميل وماكس فيبر وطوكفيل؟
وكيف نفكر تفكيراً صحيحاً في موضوع المجتمع المدني من دون قراءة
هيغل وغرامشي على الأقل؟ إن غياب نظرية في الدولة، أو قل معرفة
نظرية بمسألة الدولة (والأمر نفسه ينطبق بالتبعية على مسائل الحرية
والمواطنة والمجتمع المدني)، إنما ينهل من حال الفقر المعرفي تلك،
بل من جهل يكاد يكون مُطبقاً بمصادر الفكر الإنساني ومنها مصادر
الفكر العربي – الإسلامي الوسيط المتعلقة بالموضوع. وفي مناخ هذه
الحلقة الغائبة، لن يتحقق التراكم الفكري الذي يسمح بتدارك حال
الفراغ هذه، بل ستزدهر الثرثرة الأيديولوجية في مسائل الدولة
والسياسة أكثر فأكثر!
|