إسلام أونلاين
24 مارس 2008
على
مدى قرنين من الزمان، وتحت تأثير صدمة حضارية مزلزلة، انشغل العقل المسلم
بمحاولات تقديم إجابات إسلامية عن أسئلة وإشكاليات لم تكن في يوم من الأيام
نابعة من تفاعلات الإنسان والزمان والمكان في حوض الحضارة الإسلامية.
فمطالعة ثمار
النهضة الأوروبية وهي في طور الإقلاع المنطلق صوب العالمية بكل أبعادها
ومستوياتها، يطبع في عقل ذلك المراقب المتطلع وفي نفسه شعورًا راسخًا بأن
الأمم إذا أرادت النهوض والتقدم لا بد أن تمتلك هذه الثمار وتستخدمها،
خصوصا إذا كان ذلك المراقب يطالع تلك النهضة أو يتطلع إليها من موقع أدنى
قادته إليه حضارته عبر مراحل تدهورها التي أوصلته أو أوصلها هو إلى درجات
دنيا في التخلف والضعف والفقر وعدم القدرة على امتلاك أسباب إدارة الحياة
أو تسيير المجتمعات، بل عدم إمكانية إيجاد وسائل تحقق الأهداف أو توفير
أدوات كافية لتحقيق الحاجات الإسلامية للإنسان.
والحال هكذا،
فقد كان من الطبيعي أن تتفرق السبل بالعقل المسلم، وأن يضرب في تيه المعرفة
عقودا بل قرونا؛ ذلك لأنه واجه تحديات واقعية قاهرة في تأثيرها، ضاغطة في
تعددها وتشعبها، وفي نفس الوقت كان يقترب من حد الكفاف بل الفاقة في مكناته
المعرفية أو العلمية، حيث انقطع لزمن طويل عن مصادر الإمداد الفكري والتجدد
الحضاري التي تميزت بها حضارة الإسلام عبر قرون ازدهارها.
وهنا جاء
الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر -منذ المواجهة الأخيرة مع الغرب التي بدأت
بالحملة الفرنسية- فكرا انفعاليًّا وليس منفعلا، مفعولا به وفيه وليس
فاعلا، تحدده وتشكل خريطته ردود الأفعال وليس المبادرات الذاتية، بحيث يمكن
القول إجمالا إنه كان فكر "الردود" على أطروحات "الآخر" الفكرية أو
العقائدية، أو السياسية، حيث كانت معظم -إن لم يكن كل- الأطروحات الكبرى
تأتي في صورة رد فعل، أو محاولة للدفاع أو لدحض هجوم من هذا الفصيل أو ذاك
أو من هذا الباحث أو ذاك.
وعليه
يمكن القول: إن الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر انطبع جميعه بمنهجية علم
الكلام التاريخية أي كان فكرًا منافحًا عن العقيدة مدافعا عنها، وليس
تفكيرا هادئا منطلقا من ذاته، محددا بأسئلته هو، ساعيا لتحقيق أهدافه
الخاصة به.
وفي ظل هذه
الوضعية المتوترة القلقة تحددت الأسس المعرفية للفكر الإسلامي الحديث فيما
يتعلق بالسياسة، بل بكل العلوم المتعلقة بتنظيم المجتمع وترتيب شئونه
العامة وإدارته، وعلى هذه الأسس سارت الكتابات التالية حتى ظهرت لدينا علوم
اجتماعية تنتسب إلى الإسلام وتدعي أنها تؤسلم المعرفة، وإن كانت في حقيقتها
لا تعدو أن تكون تأملات مأزوم يستعجل الخلاص من وضعية التخلف والضعف التي
يتردى فيها من درك إلى ما هو دونه.
هذه الدراسة
تؤكد منذ البداية أنها ستخرج عن هذه الأرضية المعرفية بل ستفارقها مفارقة
تامة لتنظر إليها من خارجها زمانًا ومكانًا، بحيث يكون هدف هذه الدراسة
المتواضعة التي بين أيدينا هو محاولة تقديم أسس عامة نظرية على المستوى
المعرفي المجرد لملامح النظم السياسية التي يمكن أن تنطلق من قاعدة معرفية
إسلامية، وفي هذا السياق سوف نضع مقدمتين أساسيتين أو إن شئت فقل فرضيتين
كبيرتين هما:
1- أن
معظم -إن لم يكن كل- الكتابات الحديثة في النظام السياسي الإسلامي أو في
الفكر السياسي الإسلامي أو أي من قضاياه الفرعية قد استبطنت النموذج
المعرفي الغربي في علم السياسة وفي التفكير السياسي بصفة عامة، وحاولت أن
تنسج على منواله أو أن تملأ الوعاء الغربي بمحتوى إسلامي، فقد كانت في
معظمها -إن لم يكن جميعها- غربية المنهج والنموذج المعرفي، بل غربية
المفهوم والمنطلق والغاية، ولم يكن لها نصيب من الإسلام إلا التفاصيل
والجزئيات والمعلومات. فقد كانت فكرًا إسلاميًّا مقولبًا في أوعية وأطر
ومحددات غربية، لذلك جاءت مشوهة البنية، متناقضة المحتوى غير قادرة على
الإقناع أو التأثير ومن ثم ظلت صوتًا صادحًا خارج السرب غير قادر على
التجذر أو الحلول محل النموذج السائد.
2- إنه لا يمكن الادعاء أن هناك نظاما سياسيا إسلاميا واحدا محدد المعالم
والخصائص والمكونات، بل على الأرجح هناك منظومة معرفية إسلامية تعالج الشأن
السياسي وتحدد له الأسس والمنطلقات والمقومات والمقاصد، وعن هذه المنظومة
ومنها تنبثق نظم سياسية عديدة مختلفة المكونات والأشكال والوسائل والصيغ،
ولكنها جميعها يمكن إرجاعها إلى هذه المنظومة المعرفية الإسلامية، أي أن
هناك نظمًا سياسية إسلامية وليس نظامًا سياسيًّا إسلاميًّا واحدًا.
وانطلاقًا من هاتين الفرضيتين، سوف نحاول مقاربة هذا الموضوع من خلال
معالجة القضايا الست التالية:
1.منهجية تناول النظام السياسي الإسلامي
في الأدبيات المعاصرة.
2. الإشكاليات المتعلقة بمصادر
البحث في النظام السياسي الإسلامي.
3. موقع النموذج الإسلامي
للحكم من نظم الخطاب القرآني.
4. في النموذج الإسلامي للحكم:
مركزية دور المجتمع وهامشية دور الدولة.
5. منهجية تجريد نماذج الحكم
التاريخية.
6.المشترك الإنساني وحدود التعاطي مع
الخبرات المعاصرة.
أولا: منهجية تناول النظام السياسي الإسلامي في الأدبيات المعاصرة
إن من يطالع بعين الناقد البصير مجمل الكتابات المعاصرة حول موضوع النظام السياسي الإسلامي أو أحد جوانبه يجد أنها لا تخرج في عمومها عن اتجاهات ثلاثة من حيث النموذج المعرفي الذي تنطلق منه وما يشتمل عليه من مسلمات، ومنطلقات، وغايات، ومنهجية تربط بينها، بغية الوصول إلى الصورة المثلى للنظام السياسي، هذه الاتجاهات يمكن إيجازها في التالي:
1- اجترار الأشكال التاريخية للحكم
ومحاولة فرضها على الواقع المعاصر.
وهذا
الاتجاه يقوم في جوهره على فرضية مؤداها أن الزمن عنصر محايد لا دور له ولا
تأثير، وأن التاريخ قطعة واحدة ثابتة المعالم والخصائص والمحددات وأن ما
كان يصلح منذ أكثر من عشرة قرون لم يزل صالحًا اليوم، وأن الإنسان كائن
بيولوجي فحسب ليس لمتغيرات الزمن والواقع والثقافة فيه تأثير يذكر.
وتأسيسًا على ذلك يرى هذا الاتجاه أن النظام الإسلامي للحكم هو عبارة عن
وصفة جاهزة سابقة الإعداد تم وضعها في بدايات ظهور هذا الدين وتكوين جماعته
السياسية الأولى وما على اللاحقين إلا فهمها الفهم الجيد وإعادة استنزالها
في واقعهم بغض النظر عن طبيعة هذا الواقع وتعقيداته وبغض النظر عما طرأ على
الإنسان في هذا الواقع من تحولات سواء إيجابية أو سلبية.
ولذلك نجد أن تناولات هذا الاتجاه للنظام السياسي في الإسلام لا تخرج عن ترديد وإعادة اجترار مكونات النظم السياسية التاريخية التي ظهرت في حوض الحضارة الإسلامية على أنها نظام سياسي واحد هو النظام الإسلامي، ابتداء من الحديث عن الخلافة بمعناها التاريخي الجامع لشتات الأمة وخصائص وشروط هذا الخليفة الفرد الذي توضع في يديه مقدرات المسلمين، ثم الحديث عن البيعة الخاصة والعامة، وأهل الحل والعقد، ووزارتي التفويض والتنفيذ... إلخ، وبقية الأشكال التنظيمة التي أبدعها العقل المسلم عبر تطوره التاريخي ليحقق بها أهداف وغايات النموذج الإسلامي لحكم المجتمعات وإصلاحها وتطويرها طبقًا لظروفها وتطورها التاريخي(1).
وإشكالية هذا الاتجاه الأساسية تكمن في أنه يخلط بين الحقيقة وتجلياتها وأشكالها المتعددة، فحقيقة النموذج الإسلامي للحكم كما يمكن استنباطها من القرآن والسنة لها خصائص ومحددات وأسس وغايات معينة، وما هذه الأشكال التاريخية إلا تجليات لهذه الحقيقة اتسقت مع طبيعة الزمان والمكان والإنسان، غير أنه لا يمكن النظر إلى المظهر أو الشكل المتجلي عن هذه الحقيقة على أنه قد استلب الحقيقة واحتكرها وقضى على طبيعتها المطلقة وحولها إلى تكوينة نسبية معينة يكون من السهل الحكم بنسبيتها التاريخية، ومن ثم عدم صلاحيتها بعد ذلك.
فما هذه الأشكال التاريخية للحكم إلا نتاجًا طبيعيًّا لعملية معقدة من التفاعل بين النموذج الإسلامي لإدارة شئون البشر، وبين معطيات الزمان والمكان والإنسان، أو الواقع بكل أبعاده ومتغيراته وهذا التفاعل أنتج في النهاية تلك الأشكال التاريخية التي من المؤكد أنها ستختلف إذا ما اختلف أحد أبعاد هذه المعادلة أو أحد مكوناتها أو معظمها كما هو الحال في واقعنا المعاصر؛ إذ لم يبق من كل المعادلة سوى النموذج النظري المجرد، أما كل ما يتعلق بالزمان والمكان والإنسان أو الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي فقد تغير تغيرًا جذريًّا بحيث لم يعد له مع ذلك الواقع التاريخي نسبًا ولا صهرا.
2- تصميم نظام إسلامي للحكم على شاكلة أحد النظم السياسية الغربية المعاصرة.
وينطلق هذا الاتجاه من قناعة سطحية
ساذجة تقوم على أن الحاجات الإنسانية الواحدة يمكن إشباعها بطريقة واحدة،
فحاجة الإنسان للتنظيم والانتظام في جماعات يمكن تحقيقها بنفس الوسائل رغم
اختلاف الثقافات والحضارات والمراحل التاريخية.
كذلك
يتأسس هذا الاتجاه على فرضية مؤداها أن العملية السياسية والأفكار المتعلقة
بها هي واحدة في كل الثقافات والحضارات والنماذج المعرفية ويغفل هذا
الاتجاه تمامًا عن الاختلافات الجذرية بين النماذج أو الأنساق المعرفية،
وكيف أن بعضها مثل النموذج المعرفي الغربي يستبطن مفهوم وقيم الصراع في
مختلف علومه ومعارفه من علم الطب الذي يقوم على ضرورة التصارع مع أسباب
المرض من خلال الأدوية والسموم، إلى السياسة التي تندرج جميع مؤسساتها في
إطار وسائل حل الصراع بطرق سلمية... إلخ.
أما
النموذج الإسلامي فإنه يقوم على مفهوم آخر هو مفهوم التوازن، وهذا بدوره
يترك آثاره على مختلف العلوم والمعارف ابتداء من الطب الذي يتأسس على مفهوم
التوازن، بحيث يكون المرض هو اختلال في التوازن والعلاج يتأتى بإعادة الجسد
إلى حالة التوازن، إلى السياسة التي تكون جميع عملياتها هادفة إلى تحقيق
العدل الذي هو جوهر عملية التوازن الاجتماعي.
ولذلك، ونتيجة لهذه السذاجة والسطحية في التعامل مع الظاهرة السياسية،
ونظرًا للطبيعة البرجماتية التي شكلت العقلية المسلمة المعاصرة، خصوصًا تلك
التي تندرج في حركات سياسية تسعى للوصول إلى السلطة وتتنافس عليها بنفس
وسائل وآليات العمل السياسي الأوروبي والأمريكي، فإن كتابات هذا الاتجاه
جاءت في مجموعها ساعية إلى صب الأفكار الإسلامية في قوالب وأطر غربية، أو
محاولة تفصيل الإسلام على نفس مقاسات النظام السياسي لإحدى الدول الغربية،
أو إعادة تصميم النظام الإسلامي بصورة تجعله لا يختلف عن النظام الغربي
موضع التقليد إلا في الاسم وبعض التفاصيل التي تجعله لا يصل إلى درجة
الإتقان الموجودة في هذا النظام الغربي أو ذاك.
ولذلك نجد أن معظم كتابات هذا الاتجاه تعالج
موضوعات مثل الدستور الإسلامي، الأحزاب السياسية في الإسلام، سلطات رئيس
الدولة في الإسلام، البرلمان الإسلامي، الانتخابات في الإسلام... إلخ(2).
وهذه
المقاربات تفتقد إلى مبرر وشرعية الوجود؛ إذ لو كان الإسلام يقدم نظامًا
مشابها لأي نظام سياسي غربي معاصر فالأجدر نقل النظام المعاصر وتنقيته مما
بداخله من قيم وأفكار وأساليب تتناقض مع القيم الإسلامية، ولم يكن هناك أي
داع لإضاعة الجهود في التنظير ومحاولة خلق الاختلافات؛ لأنه كذلك فعل
المسلمون الأوائل عندما تبنوا النظم الموجودة في عصرهم سواء الفارسية
الساسانية أو البيزنطية، وعملوا بها وبنفس لغاتها إلى ما يقارب نهاية القرن
الأول الهجري.
ومن
هنا يصبح هذا الاتجاه مجرد محاولة عبثية لا تقدم حلولا ولا تسهم في تحقيق
أي ثراء نظري، ولذلك لا يمكن اعتبارها محاولة تأصيل نظام أو نظم سياسية
إسلامية تعكس جوهر المنظومة القيمية لنموذج الحكم الإسلامي، ولا يمكن
اعتبارها كذلك محاولة تكييف النظم الغربية وتطويرها لتتناسب مع الواقع
الإسلامي المعاصر، فهذا الاتجاه لا ينتمي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
3-
التجديد الجزئي من خلال إحياء بعض المؤسسات التاريخية الأساسية وإعطائها
دلالات ووظائف معاصرة.
ويعد
هذا الاتجاه أقل الاتجاهات الثلاثة بروزًا وأخفتهم صوتًا وأضعفهم تأثيرا،
حيث يقتصر على مجموعة محدودة جدًّا من الأكاديميين الذين لا تتبنى أفكارهم
حركات سياسية، ولا تسوق مؤلفاتهم جماعات دينية، ولذلك فإن تأثيرهم محدود
بحدود طبقة ضيقة من الباحثين والمثقفين، ويسعى هذا الاتجاه إلى محاولة
تجديد بعض القيم والمؤسسات التي وجدت في التاريخ السياسي الإسلامي من خلال
إعادة تعريفها أو إعادة ملئها بمعانٍ ودلالات تتسق مع العصر الحاضر، بحيث
تكون قادرة على التفاعل مع هذا العصر وفي نفس الوقت تحقق الاتصال والتواصل
مع المخزون القيمي والثقافي التراثي.
ومن أهم القيم والمفاهيم السياسية التي يتم
التعامل معها في هذا الاتجاه مفهوم الأمة ومفهوم الكيان الاجتماعي الحضاري،
ومفهوم العمران، ومفهوم الاستخلاف، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ومفهوم الرابطة السياسية، ومفهوم الشرعية، ومفهوم السياسة... إلخ(3).
كذلك فقد تم التعامل مع بعض المؤسسات التاريخية
بنفس المنطق وبذات المنهجية، مثل: مؤسسة الوقف(4)،
مؤسسة الشورى(5).
ويعتبر هذا الاتجاه بداية حقيقية لتأصيل مدرسة في علم السياسة على أسس وقواعد إسلامية وفي نفس الوقت قادرة على التواصل مع علم السياسة المعاصر بنفس مفاهيمه ومناهجه وأدواته.
ثانيا: الإشكاليات المتعلقة بمصادر البحث في النظام السياسي الإسلامي
على الرغم من
أن قضية المنهج هي أساس أي نهوض علمي أو حضاري عام فإن الفكر الإسلامي
المعاصر لم يعر هذه القضية الاهتمام الواجب، بل أحيانًا لم يعرها أي
اهتمام. فعلى سبيل المثال عندما تعامل العقل المسلم المعاصر مع تراثه
الفكري لم يتعامل معه بصورة منهجية منظمة، بل على العكس جاء تعامله معه على
درجة عالية من العشوائية والانتقائية والتقليد والجزئية واجترار مقولات
معينة دون تمحيصها أو التأكد من مصداقيتها، كذلك سيطرت عليه السطحية في
التحليل، والتسرع في التعميم واستخلاص النتائج، ففي دراسة استغرق إعدادها
من عام 1986 حتى 1993، وتم نشرها في عام 1994(6
). خلص كاتب هذه السطور بعد أن قام بحصر التراث السياسي الإسلامي من مصادره
المتعددة إلى مجموعة من النتائج تبين أن التأليف المعاصر في الفكر السياسي
الإسلامي يقوم على مجموعة من الأساطير التي تفتقد أي أساس من المنهج أو
المصداقية التاريخية.
وأهم هذه الأساطير ما يلي:
1-
إطلاق تعميمات حول النظام السياسي الإسلامي أو الفكر السياسي الإسلامي أو
التراث السياسي للمسلمين دون استقراء أو تأصيل يعتد به، فبعد أن قام كاتب
هذه السطور بحصر ما يزيد عن 350 مصدرًا مباشرًا في الفكر السياسي الإسلامي
قام أيضا بتحليل مرجعية المؤلفين المعاصرين، وتحديد إلى أي المصادر رجعوا
وعلى أيها اعتمدوا ومن أيها استقوا مقولاتهم وتعميماتهم، وقد تبين أن متوسط
رجوع المؤلفين المعاصرين للمصادر التراثية في الفكر السياسي الإسلامي لم
يتجاوز 6% للواحد منهم، وأنهم في مجموعهم لم يعودوا لأكثر من 18% من مجموع
المصادر التي تم حصرها وتحديد تواريخ تأليفها، وأماكن وجودها، وهذا يبين
إلى أي مدى يفتقد التأليف المعاصر في الفكر السياسي الإسلامي إلى أساس
منهجي.
فجميع من كتب في الظاهرة السياسية من المعاصرين
ابتداء من علي عبد الرازق حتى تاريخ نشر هذه الدراسة عام 1994 لم يرجعوا
إلى أكثر من 18% أي أنهم جهلوا 82% من ذلك التراث، وعلى الرغم من ذلك
أطلقوا تعميمات تستوعب التراث السياسي الإسلامي وأحيانًا تنفيه، فعلى سبيل
المثال فإن الشيخ علي عبد الرازق(7) لم
يطلع إلا على كتابين اثنين أي أقل من 1% من هذا التراث، أما محمد سعيد
العشماوي ومحمد أحمد خلف الله(8)
فلم يرجع أي منهما إلى أي كتاب من كتب الفكر السياسي الإسلامي، وعلى الرغم
من ذلك ملأوا الدنيا ضجيجًا بتعميمات جازمة تنفي أو تثبت القضايا الكبرى
التي تتعلق بذلك التراث!.
2- التعامل مع التراث السياسي الإسلامي
من خلال مجموعة من الشوامخ أو الأعلام الذين ينظر دائمًا إليهم على أنهم
كائنات خرافية لا سابق ولا لاحق لها؛ أبدعوا أفكارهم من خلال تأملات ذاتية
أو عبقريات فردية ولم ينظر إليهم على أنهم جزء من سلسلة متواصلة من العلماء
والمفكرين، وحلقة من حلقات علم معين أو مدرسة معينة في ذلك العلم. فعادة ما
يتم النظر إلى الماوردي أو الغزالي أو الفارابي أو ابن سينا أو ابن خلدون
على أنهم أفراد أفذاذ وليسوا جزءا من تقليد متواصل من التفكير في كيفية
إدارة المجتمعات البشرية بدأ مع بداية تكوين الأمة الإسلامية، واستمر حتى
حل محله تقليد آخر أو نموذج معرفي آخر.
3- إن ما تم
اكتشافه وتحقيقه من التراث هو كل ما وجد، أو أن ما هو غير معروف فهو غير
موجود، فما تم تحقيقه وطباعته هو كل ما وجد بغض النظر عن جدارته أو أهميته
أو مستواه الفكري بحيث أصبح المحققون والناشرون هم صانعي المعرفة ومحددي
ماهية التراث السياسي الإسلامي. فعلى سبيل المثال قد لا يكون كتاب الماوردي
"الأحكام السلطانية" هو أهم كتبه من زاوية عالم السياسة، بل قد يكون "تسهيل
النظر وتعجيل الظفر" هو أهمها على الإطلاق غير أن الأول هو الأكثر ذيوعا،
والثاني لا يعرفه الكثير من الباحثين حتى أولئك الذين تخصصوا في الفكر
السياسي للماوردي وأعدوا أطروحاتهم للدكتوراه حول فكره السياسي، حيث لم
يستطع أي منهم حصر كل كتب الماوردي، وافتقد معظمهم أهم كتبه وأكثرها ثراء
من الناحية النظرية(9).
4- التعامل مع الفكر السياسي على أنه
أحد أبواب علم الفقه، ومن ثم سيطرة الرؤية الفقهية على كل ما يتعلق
بالتفكير السياسي، فقد اعتمد معظم الباحثين المعاصرين على الأبواب المتصلة
بالفكر السياسي في الموسوعات الفقهية أكثر من اعتمادهم على كتب الفكر
السياسي، وما كانت شهرة كتاب الأحكام السلطانية للماوردي إلا لأنه يمثل
اقترابًا فقهيًّا في التعامل مع الظاهرة السياسية، ولعل ذلك يعود إلى أن
معظم -إن لم يكن كل- الرواد المعاصرين في الفكر السياسي الإسلامي جاءوا من
خلفية فقهية أو خلفية قانونية، لذلك كان من المنطقي أن تكون مرجعيتهم
مرجعية فقهية أو قانونية.
وقد
لا يكون ضروريًّا توضيح الفارق الضخم ما بين الفقه بمعناه الاصطلاحي وبين
الفكر، حيث إن الفقه يتعامل مع النصوص أكثر من تعامله مع الواقع على عكس
الفكر الذي ينطلق من الواقع صوب النص للبحث عن حلول لمشاكل واقعية، كذلك
فإن الفقه يسعى دائمًا للوصول إلى أحكام وتقنينات وقواعد عامة بينما الفكر
يسعى للوصول إلى حلول لمشاكل قد تكون هذه الحلول وقتية أو نسبية وقد لا
تمثل قاعدة أو حكماً.
وأخيرا.. فإن منهجية الفقه يغلب عليها الطابع الاستنباطي بينما منهجية الفكر فإنها عادة ما يغلب عليها الطابع الاستقرائي.
ومن هنا فإن مقاربة الفكر السياسي
الإسلامي من زاوية الفقه ستؤدي لا محالة إلى تجميد هذا الفكر، وإفقاده
الحيوية اللازمة وتحويله إلى مجموعة من القواعد الكبرى، ولذلك لم يكن
غريبًا سيطرة الرؤية الدستورية القانونية على مجمل الكتابات التي تتعامل مع
النظام السياسي الإسلامي عند المعاصرين.
5- هيمنة التجربة التاريخية للمسلمين
خصوصًا في فترات ازدهار حضارتهم على مرجعية الكتاب المعاصرين في الفكر
السياسي الإسلامي، حيث تم الاعتماد بصورة مبالغ فيها على الأشكال التاريخية
للنظم السياسية الإسلامية واعتبارها مرجعية عليا حاكمة ينبغي الالتزام بها
وإعادة تكرارها، وإغفال غالبية الباحثين عن الأصول والمصادر النظرية التي
تم بناء عليها صيانة تلك النظم التاريخية، كذلك إغفال الكثيرين عن
التأثيرات الوافدة من حضارات أخرى، ودورها في صياغة النظم السياسية
التاريخية في الحضارة الإسلامية، وفي ظل اتخاذ التجارب التاريخية مرجعية
للباحثين المعاصرين سيطرت الرؤية السلفية الجامدة على معظم الكتابات
المعاصرة في النظام السياسي الإسلامي، وأصبح الإسلام مساويًا تمامًا لنظم
المسلمين التاريخية، وأصبحت الصيغ التاريخية ومؤسساتها هي المؤسسات والنظم
الإسلامية التي يجب التعامل معها كمقدس ينبغي إعادة تفعيله، وليس كتجربة
بشرية تمت في ظل ظروف اجتماعية وتاريخية معينة، ومن المستحيل إعادة إنتاجها
في غير سياقها التاريخي.
وقد يكون من الضروري التفرقة بين
التعامل مع التاريخ كمرجعية لها صفة القداسة وبين التعامل معه كمعمل
للتجربة البشرية أو كنماذج تم فيها إيجاد صيغ للتفاعل بين النموذج الإسلامي
للحكم في صياغاته النظرية وبين الواقع، وكان الناتج هو تلك النظم
والمؤسسات، ومن ثم فإننا إذا أردنا صياغة نظام سياسي معاصر ينتسب للإسلام
فإنه يجب علينا تكرار العملية المنهجية التي تمت من خلالها عملية التفاعل
بين النموذج النظري وبين الواقع وليس تكرار نتائج هذه العملية المتمثلة في
نظم ومؤسسات نشأت في ظروف تختلف كثيرًا عن ظروفنا المعاصرة.
ثالثا: موقع النموذج الإسلامي للحكم من نظم الخطاب القرآني
إذا حاولنا استقراء آيات القرآن الكريم
والتأمل في طبيعة ومنهجية خطاب الله سبحانه وتعالى الموجه للإنسان من خلال
كتابه العظيم، سنجد أن خطاب الله سبحانه وتعالى للإنسان على مدى آيات
القرآن العظيم وسوره يمكن تصنيفه في ثلاثة مستويات للخطاب وذلك من حيث
منهجية الخطاب وطبيعته ودرجة تفصيله وإجماله، وهذه الخطابات الثلاثة أو
المستويات الثلاثة هي:
1. خطاب
تفصيلي:
حيث يكون الخطاب القرآني
تفصيليًّا يتعامل مع كل ما يتعلق بحياة الإنسان والمجتمع بصورة تفصيلية
دقيقة تحدد أدق أبعاد القضية موضع التناول تحديدًا جزئيًّا لا يترك من
أطرافها شيئًا إلا ويتناوله تناولًا كميًّا وكيفيًّا، وهذا المستوى من
الخطاب يتعامل مع نوعية معينة من القضايا ذات خصائص مشتركة ومحددة تتصف بما
يلي:
أـ أنها قضايا وموضوعات لصيقة بالإنسان كإنسان أو جزء من فطرته وتكوينه، وبدونها يفقد وجوده كمخلوق مكلف متميز عن باقي المخلوقات، وذلك مثل قواعد وإجراءات الزواج والنسب والأبوة والأمومة والخلافات الأسرية والطلاق والميراث والعدة وغيرها، وهذه النوعية من الموضوعات والقضايا تتعلق في جوهرها بالإنسان على الرغم اختلاف العصور والأزمنة، فالبشر منذ الأزل يفضلون أبناءهم على إخوانهم وأولادهم على بناتهم، ويحرصون على استمرار ثرواتهم في نسلهم... إلخ.
ب- أنها موضوعات جزئية تتعلق بالأفراد وليست موضوعات اجتماعية، فعادة ما يكون المستفيد منها أو وحدة التحليل فيها هو الفرد وليس المجموع أو الجماعة الصغيرة فكل الموضوعات السابق الإشارة إليها تتعلق بحقوق أفراد وواجباتهم ولا تتعداهم إلى أي تكوين اجتماعي مهما بلغ صغره.
ج- أنها موضوعات تتعلق بالثابت المضطرد
من الأخلاق والقيم المجتمعية التي تمثل سياجًا وحدودًا لبقاء المجتمع
واستمراره ودوامه على صورة متوازنة مستقرة، وذلك مثل قضايا الحدود
والجنايات الكبرى والقيم الأخلاقية العامة التي وردت في جميع الأديان
السماوية، وأجمعت عليها جميع ثقافات العالم، مثل تجريم القتل أو السرقة أو
الزنا أو تأثيم الغيبة والنميمة والفتنة وغيرها. وهذه المنظومة الأخلاقية
ثابتة بثبات وجود الإنسان على ظهر الأرض، ومن يستقرئ التاريخ البشري أو
الواقع المعاصر يجد أن هذه الموضوعات تمثل ثوابت لا يستطيع أي أحد المجادلة
في الإجماع الإنساني عليها.
2.
خطاب مقاصدي قيمي:
وهنا يأتي الخطاب القرآني عامًا غير محدد التفاصيل والجزئيات يتناول فقط الأطر الكلية والمقاصد العليا والقيم العامة، ولا يتطرق إلى الوسائل أو كيفية تطبيق وتنزيل هذه القيم أو تحقيق هذه المقاصد والغايات. حيث عادة ما يترك ذلك للعقل الإنساني ليجتهد في تحقيق هذه القيم والوصول إلى تلك الغايات والمقاصد ويأتي هذا الخطاب القرآني ليعالج نوعية معينة من القضايا تتصف بالخصائص والمحددات التالية:
أ- أن تكون موضوعات عامة تتعلق بجماعات بشرية كبرى تتجاوز حدود الفرد أو الأسرة. ومن ثم فإن هذه الموضوعات تتشكل طبيعتها وحدودها من خلال تفاعل أعداد كبيرة من الأفراد مع بعضها البعض، ومع الواقع التاريخي زمانًا والواقع الجغرافي مكاناً. ومن هذه الموضوعات كل ما يتعلق بتنظيم الجماعات البشرية وتسيير أمورها وترتيب أحوالها ومعالجة مشكلاتها، ومن هنا فإن كل ما يدخل في إطار علوم العمران البشري من علوم السياسة والاقتصاد والعلاقات بين الدول والاجتماع وغيره تنضوي ضمن هذه النوعية من الموضوعات التي عالجها القرآن الكريم بخطاب عام مقاصدي يركز على القيم الكبرى والمقاصد العليا ولا يتطرق إلى التفاصيل والوسائل وكيفية التطبيق أو أية جزئيات وإنما يترك ذلك ليتم تحديده طبقًا لتحولات تلك الظواهر الكبرى موضوع الخطاب.
ب- أن تكون موضوعات عرضة للتغير
والتحول طبقًا لتغيرات الظروف والمحددات التي تشكلها، أي أن تكون موضوعات
ليست مستقلة بذاتها أو في ذاتها، وإنما هي موضوعات تابعة تحددها قضايا
أخرى، أي أن جملة هذه الموضوعات يمكن أن يطلق عليها متغيرات تابعة تشكلها
منظومة من المتغيرات المستقلة التي تتحول وتتغير مع تغير الزمان والمكان،
وبعبارة أخرى يمكن القول إن جملة هذه الموضوعات هي عادة محصلة للتفاعل بين
الإنسان والزمان والمكان، وبمقدار التغير في أي من أطراف هذه المعادلة
الثلاثية يكون التغير في هذه الموضوعات محل الخطاب، ومن هنا فإن كل ما
يتعلق بالنظام السياسي أو النظام الاقتصادي أو العسكري أو التعامل الدولي
هو محصلة لمجموعة كبيرة من المتغيرات التي تدور حول الأطراف الثلاثة
للمعادلة السابق الإشارة إليها، وهي الزمان والمكان والإنسان، ومن ثم فإن
هذه النظم لا يمكن أن تكون ثابتة بل على العكس هي دائمة التغير والتحول
طبقًا للظروف الاجتماعية أو الزمنية أو المكانية ولذلك جاء الخطاب القرآني
ليعالجها على المستوى المقاصدي والقيمي لا على المستوى التفصيلي الجزئي كما
كان في الخطاب السابق.
3.الخطاب المنهجي:
ويأتي هذا الخطاب عندما يكون الموضوع غير قابل
للإمساك به أو الوصول إلى حقيقته دفعة واحدة. أو عندما يكون الفارق ما بين
الظاهر والحقيقة، أو ما بين الواقع ونفس الأمر واسعًا وممتدًا ومتعدد
الوجوه. حيث الواقع هو ما تدركه العقول من خلال الحواس المجردة ونفس الأمر
هو الشيء على ما هو عليه أو هو حقيقة الشيء التي لا يستطيع الإنسان الوصول
إليها، وإنما قد تتكشف له فيما بعد أو في عصور تالية(10)
وخير مثال للتعبير عن الفارق بين الواقع ونفس الأمر مثال الماء أو القمر،
حيث كان يتم إدراك القمر على أنه مصدر للضوء والجمال ثم بعد ذلك اكتشف
الإنسان أنه أحجار وصحراء، وقد يكون شيئًا آخر في المستقبل، كذلك الماء فقد
أدركه الإنسان على أنه مصدر للري ثم اكتشف بعد ذلك أنه عنصران من عناصر
الهواء هما الأكسجين والهيدروجين.
وفي مثل هذه الظواهر التي تتسع المسافة ما بين واقعها ونفس أمرها أو ما بين ظاهرها وحقيقتها يأتي الخطاب القرآني عادة على مستوى المنهج وليس الموضوع أو المعلومة أو التفاصيل، ولذلك نجد أن كل الخطاب القرآني المتعلق بالكون والطبيعة أو بالعلوم الطبيعية على الجملة هو خطاب منهجي يرسم للإنسان طرق الوصول إلى الحقيقة دون أن يقدم له معلومة نهائية ويدفعه للبحث والتأمل والتفكير والنظر والدرس والتجريب والاختبار دون أن يقدم له نتائج تلك العمليات المنهجية أو ما سوف توصل إليه.
والناظر في جميع آيات القرآن المتعلقة بالكون والطبيعة يجد أن جوهرها خطاب منهجي عام يقود العقل البشري لعمليات متواصلة من البحث والتأمل والنظر ويدفعه لذلك دفعا.
ومن هنا نجد أن هذه المستويات الثلاثة من الخطاب القرآني تعالج ثلاثة مجموعات من العلوم، فإذا كان الأول يعالج علوم الفقه والشريعة بمعناها الاصطلاحي المتعلق بتنظيم علاقة الإنسان بربه ثم بتنظيم شئون الأسرة والفرد من الناحية الفقهية، وتنظيم الحدود العامة للمجتمع من الناحية القانونية خصوصًا ما يتعلق بالحدود والتعزير والجنايات والقواعد العامة للسلوك، فإن الخطاب الثاني أي الخطاب المقاصدي فإنه يعالج كل ما يتعلق بالنظم المجتمعية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية دولية، بعبارة أخرى فإن هذا الخطاب يعالج كل ما يتعلق بالعلوم الاجتماعية على المستوى الكلي، أما الخطاب الثالث فإنه يعالج كل ما يتعلق بالعلوم الطبيعية.
وبذلك يكون النظام السياسي ومتعلقاته واقعًا في المستوى الثاني من الخطاب القرآني وهو المستوى القيمي المقاصدي الذي يقتصر على تحديد الأطر العامة والقيم الكلية والمقاصد العليا دون التطرق للتفاصيل أو الجزئيات حيث يتم عادة تركها لتملأ طبقًا لحاجات العصر وظروفه، وقد يكون من المفيد هنا استعارة مصطلح العلامة محمد باقر الصدر المتعلق بـ"منطقة الفراغ"(11) التي يملأها كل عصر وكل مجتمع طبقًا لظروفه وواقعه ومن ثم لا يمكن الحديث عن نظام سياسي واضح المعالم والتفاصيل ينسب إلى الإسلام؛ لأن في ذلك مخالفة لمقاصد القرآن الكريم وعدم فهم لجوهره ومكنون خطابه، إنما يمكن الحديث عن نموذج إسلامي للحكم الصالح، له معالم معينة أوردها القرآن الكريم في صورة قيم مثل العدل أو الشورى أو كرامة الإنسان، أو في صورة مقاصد عليا، مثل الحياة الطيبة والمصلحة والاستقرار والاجتماع وحفظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق العبادة لله مما يعني تحرير الإنسان من كل القيود التي تعبده لغير الله، وسوف يتم تناول هذا النموذج فيما تبقى من هذه الدراسة.
رابعا: في النموذج الإسلامي للحكم: مركزية المجتمع وهامشية الدولة
قد يكون من الضروري التأكيد على أن المقصود بمفهوم "النموذج" في هذا السياق لا يعني بأي حال من الأحوال أي دلالات تتعلق بالنمط المثالي ideal type أو المدينة الفاضلة، أو الحالة النموذجية التي ينبغي أن يتم السعي للوصول إليها أو تحقيقها، وإنما يعنى بصورة أساسية مجموعة من الدلالات تتعلق في جوهرها بمفاهيم النموذج المعرفي paradigm أو النسق القياسي أو الأسس المعرفية والفرضيات الكامنة(12).
ومن ثم فإن المقصود بالنموذج في هذا السياق هو رسم خريطة طبوغرافية للملامح العامة والأسس الكلية للحكم الصالح في الإسلام، وهذه الملامح العامة أو هذه الأسس والمسلمات التي نطلق عليها في هذا السياق مفهوم النموذج ليست موضوعا يتم ابتكاره أو إيجاده من خلال عملية تأمل أو تنظير لتجارب تاريخية وخبرات واقعية، وإنما هو نموذج يتم الكشف عنه أو اكتشافه، وليس إيجاده أو اختراعه، وفي عملية الكشف هذه يتم الاعتماد بصورة أساسية على روح مصادر التنظير الإسلامية المتعلقة بإدارة شئون المجتمعات وحكمها، وهذه المصادر تعتمد بصورة أساسية على الوحي وما دار حوله من بحث واجتهاد بشري، سواء كان ذلك الاجتهاد مسطورا في صحائف أو منقوشا كتجربة واقعية على جدران تاريخ المجتمعات الإسلامية، خصوصا تجاربها السياسية الناجحة التي استطاعت أن تتعاطى مع الأصول النظرية تعاطيا يقوم على الافتقار إلى هذه الأصول ومحاولة استمداد روحها وتفعيلها وليس الاستظهار بها أو استظهارها كمطية لتحقيق شرعية نظم سياسية فاقدة للشرعية سواء في تأسيسها أو ممارساتها.
ومن هنا فإنه ينبغي التأكيد بداية على أنه فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة في ذاتهما وليس في شروحهما لا يوجد أي مصدر آخر له طبيعة الإلزام في صياغة هذا النموذج، إذ إن ما عدا ذلك ما هو إلا مناهج لتنزيل مبادئ الحكم في الإسلام وغاياته على أرض الواقع أو تجارب حاولت أن تستلهم من الوحي نورا يقودها في عملية تنظيم المجتمعات الإنسانية وتسييرها نحو غايات أخلاقية هادفة لتحقيق السعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة.
وتأسيسا على ذلك فإن تناول النموذج الإسلامي للحكم لا يعني على الإطلاق أن ما سوف يتم تسطيره في هذه الصفحات هو ذات النموذج، وإنما يعني بالأساس محاولة ابتدائية لاستكشاف هذا النموذج، واستطلاع ملامحه العامة، وخصائصه الكلية ومن ثم فإن هذه المحاولة لن تتجاوز حدود الكليات والأطر العامة إلى التفاصيل، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة وموقع العملية السياسية في النسق المعرفي الإسلامي وكيف أنها في جملتها تقع في إطار الكليات والمقاصد والأطر العامة، ولا ينبغي أن يتم التنظير لها على المستوى الجزئي والتفصيلي إلا إذا كان هدف ذلك التنظير التفاعل مع واقع محدد في زمان ومكان محددين، ذلك أن استقراء التراث السياسي يثبت بما لا يدع مجالا للشك تلك الفرضية التي تم التأكيد عليها في الجزء السابق المتعلق بالخطاب القرآني حول السياسة ومجمل الشئون العامة للمجتمع الإنساني في تطوره التاريخي.
وفي إطار السعي نحو استكشاف النموذج الذي قدمه الإسلام لإدارة شئون المجتمعات الإنسانية ينبغي بداية التفرقة بين عمليتين علميتين أساسيتين بل هما جناحا العلم للذين لا يوجد ثالث لهما وهما(13):
1- الكشف العلمي أو الاستكشاف Discovery وهي تلك العملية التي يمارسها العقل الباحث عن الحقيقة المتسلح بقيم وإجراءات الموضوعية والحياد العلميين، وهذه العملية يتم من خلالها السعي نحو الكشف عن حقيقة معينة من خلال استقرائها من مظانها سواء العلمية أو الواقعية، ويكون دور الباحث مبينا وكاشفا فقط لتلك الحقيقة غير ساع لإعادة بنائها أو تشكيلها طبقا لقناعاته الأيديولوجية المسبقة.
2- التبرير أو التسويغ justification.
وهي عملية علمية أخرى على عكس السابقة، إذ يتم من خلالها تأسيس حقيقة قائمة
وإيجاد أسس ومسوغات وتبريرات لوجودها أو لإيجادها، وهذه العملية تستلزم من
الباحث جهدا في البحث عن كل ما يؤسس شرعية هذه الحقيقة أو يثبت وجودها أو
يجعلها الأحق بالاتباع.
والبحث الذي نقوم به في هذا السياق يسعى لأن يكون من الفئة الأولى وإن كان
لا يستطيع الادعاء أنه فيها؛ إذ إن فيه من الفئة الثانية الكثير حيث إن
الواقع الفكري العربي والإسلامي وما يسوده من سجالات فكرية، بل وتحارب
وصراع أيديولوجي بين الفصائل الثقافية والبحثية المختلفة يجعل من الصعب على
أي باحث أن يقتصر فقط على الكشف دون التسويغ والتبرير وتقديم أسس الشرعية
والجدارة لأطروحته التي قد تكون في مجملها قائمة على كشف يخالف قناعات
الباحث ذاته في مراحل سابقة من حياته العلمية.
وبعد تقديم هذه المقدمة ينبغي الآن الدخول إلى
تحديد أهم أسس وقواعد النموذج الإسلامي للحكم، تلك الأسس التي لا يمكن
الادعاء بأنها شاملة جامعة مانعة بل هي مجرد محاولة لاستكشاف هذه الملامح
من خلال استقراء قد لا يكون وافيا للتجربة التاريخية الإسلامية في الحكم
وفي التفكير السياسي، ولكن ما هو مستقر في ضمير كاتب هذه السطور بعد تجربة
بحثية ليست بالقصيرة في هذا المجال أن النموذج الإسلامي للحكم جوهره أنه
نموذج يقوم على أولوية المجتمع على الدولة أو أنه يعتمد في تأسيس مؤسساته
على المجتمع ومن خلال المجتمع، وليس على الدولة أو من خلالها، بحيث يمكن
القول إنه نموذج للحكم يقوم على مجتمع قوي ودولة ضعيفة(14)
، وهذا الذي حفظ له وجوده عبر التاريخ وأسهم في تطوره في بعض الأحيان، وحال
دون انهياره انهيارا كاملا في أحيان أخرى.
ولعله
ليس من قبيل التكرار إعادة التأكيد على أن النموذج الإسلامي للحكم نموذج
يقوم في جوهره على أسبقية المجتمع على الدولة وعلى اعتبار أن المجتمع هو
الأساس؛ ومن ثم فإن بناءه وترسيخ قواعده يعد أولوية أولى ثم تأتي بعد ذلك
الدولة أو النظام السياسي كنتاج طبيعي لهذه الحالة المجتمعية.
وفي السياق التالي سوف نعرض بإيجاز أهم
الأسس التي يقوم عليها ذلك النموذج الذي يتخذ من المجتمع مركزا له بينما
يهمش إلى حد كبير دور الدولة:
1. إن النموذج النبوي في تأسيس الجماعة
البشرية الأولى في الأمة الإسلامية يبين بصورة جلية أسبقية المجتمع على
الدولة في الأهمية والاهتمام، فقد انصب اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم في
الفترة المكية بكاملها ومعظم الفترة المدنية بتأسيس المجتمع ومؤسساته
وتنظيم فعالياته وإطلاق طاقاته ولم تنل منه الدولة إلا القدر اليسير من
الاهتمام والجهد، كذلك كان القرآن يتنزل في هذا الاتجاه أيضا، ومن هنا فإن
النموذج الأول للحكم في الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد
خلفائه كان نموذجا يتخذ من المجتمع مركزا له وليس الدولة، بل إن التعامل مع
الدولة لم يكن يخرج عن كونها الأداة الأهم في تنظيم شئون المجتمع ولم يتم
إطلاق يدها أو توسيع سلطاتها أو صياغة صورة محددة لها، كذلك لم يتم وضع
صورة واضحة المعالم لنظام سياسي معين وإنما وضعت أسس ذلك النظام وقواعده
الكلية على أن يتم تنزيل هذه القواعد على الواقع الاجتماعي المتغير طبقا
لمعطيات الزمان والمكان.
2. إن
الجدل الكلامي المبكر الذي أسهم في تكوين فرق الأمة الاعتقادية انطلق في
أساسه من اختلاف بين تيارين أحدهما يرى أولوية الدولة، وكيف أنها أصل من
أصول الدين وواجب عليه تعتمد باقي الواجبات، وثانيهما يرى أنها وسيلة لا
أصل وأن الدين يحتضنه ويعبر عنه المجتمع وليس الدولة، وقد كانت السيادة
التاريخية من حيث الأغلبية والنفوذ للتيار الثاني، بينما شهد التيار الأول
محاولات إصلاحية متكررة تقلل من رؤيته المتمركزة حول الدولة والنظام
السياسي وعلاقتهما بالدين والمجتمع.
ولعل هذا الجدل المبكر يبين إلى أي مدى
أدرك العقل المسلم تلك الإشكالية واستطاع تحديد خطورتها وأهميتها، وقدم لها
الإجابات التي لم تزل يدور حولها الجدل الأكاديمي على اختلاف عصور التفكير
السياسي واختلاف بيئاته؛ إذ إن جوهر هذه الإشكالية هو العلاقة بين الدولة
والمجتمع، وهي عينها التي اختلفت حولها مدارس الفكر السياسي الأوروبي في
عصوره المختلفة، وتجلت صورتها النهائية في الاشتراكية والليبرالية كنظريتين
متعارضتين في هذا الخصوص، وإن كان خلافهما أكثر حدة وجذرية وتطرفا من
الخلاف الذي شهدته المدارس الفكرية الإسلامية على مر العصور، إذ إنه لم
يوجد منها من يقول بعدم الحاجة إلى الدولة أو عدم جدوى وجود النظام السياسي
سوى بعض الأفكار الهامشية لجماعات صغيرة عديمة الوزن والتأثير في تطور
التفكير السياسي في الإسلام.
3. إن مفهوم
السياسة في الإسلام كمنظومة فكرية في اللغة العربية يجعل من الفعل السياسي
في معظمه فعلًا مجتمعيًّا غير قاصر على الدولة أو على أجهزتها السلطوية،
فجوهر هذا المفهوم هو الإصلاح أو المصلحة(15).
لذلك يرد في سياقات عديدة ومتنوعة، وعلى مستويات مجتمعية مختلفة، ويعطي عند
كل منها نفس الدلالات اللغوية ونفس المعاني، فالسياسة على المستوى المجتمعي
أو على مستوى الأمة هي: "جلب المصلحة ودرء المفسدة" وهي "أي فعل يكون الناس
معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" وهي "أخذ الناس إلى الصلاح وأبعد عن
الفساد".
والسياسة عندما تستخدم على مستوى
تكوينات مجتمعية أصغر أو على مستوى وحدات اجتماعية أدنى تعطي ذات الدلالات
مع التركيز على عملية التربية والتوجيه أو التكوين الفكري؛ فيطلق على تربية
الطلاب والتلاميذ في المدارس وتعليمهم "سياسة الصبيان" وعلى تدريب وتكوين
المنتمين إلى طريقة صوفية معينة "سياسة المريدين"، بل إنها تطلق أيضا على
التعامل مع الذات الإنسانية أي تعامل الإنسان مع نفسه وتسمى "السياسة
الذاتية"، كذلك يطلق نفس المفهوم وبنفس الدلالات على التعامل مع الحيوانات
فنجد من يتحدث عن "سياسة الخيل" و"سياسة البقر"... وفي كل تلك المستويات
ومع كل تلك النوعيات المختلفة من الموضوعات فإن مفهوم السياسة يحافظ على
دلالاته(16).
كذلك جاء مفهوم "الرعاية" أو "الراعي والرعية" ليشمل تلك المستويات جميعا وبنفس الدلالات أيضا كما نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته..."، الذي شمل فيه المجتمع في مجمله من الحاكم حتى المرأة في بيت زوجها، ونفس الأمر ينطبق على مفاهيم الشورى والعدل وغيرها، وهنا نجد أن العمل السياسي حتى يكون كذلك لم يكن محتاجا لبناء مؤسسي معين أو أطر تنظيمية معينة أو أدوات قوة ونفوذ معينة أو سلطة معينة كما هو الحال في الفكر الغربي على امتداد عصوره، حيث السياسة تحتاج دائما إلى القوة والسلطة، لذلك كان علم السياسة يعرف بأنه "علم السلطة" أو "علم القوة" أو "علم الدولة"... إلخ، ومن ثم فإن تعريف مفهوم السياسة ذاته يمكن اعتباره مؤشرا على تحديد مجالها وإطارها.
فمفهوم السياسة في الإسلام من خلال تعريفه يبين بما لا يدع مجالا للشك أن الظاهرة التي يعبر عنها هذا المفهوم ظاهرة مشتركة متداخلة ما بين المجتمع والدولة، بل إن إطار حركتها هو المجتمع وليس فقط الدولة، فقد توجد الظاهرة السياسية في مجتمع دون الحاجة إلى وجود الدولة، ولا يكون هذا المجتمع مفتقدا لأحد عناصر وجوده أو مجتمعا بدائيا كما يرى علماء الأنثروبولوجيا السياسية المعاصرون، فعملية أخذ الناس إلى الصلاح وإبعادهم عن الفساد قابلة للتحقيق والتحقق نظريا دون وجود الدولة وإن كان كمال تحققها يستلزم وجودها.
4. إن
استقراء وتحليل الوظائف التي قامت بها الدولة على مر التاريخ الإسلامي يبين
أن طبيعة الدولة في حوض الحضارة الإسلامية غير متدخلة في شئون الاجتماع
البشري، وأنها تمثل سياجا يحمي المجتمع ويحافظ عليه دون أن يتدخل في تسيير
أموره، وأنها قد حافظت على مجموعة محدودة من الوظائف لم تخرج عنها من عهد
الراشدين حتى مجيء محمد علي باشا إلى الحكم في مصر. وهذه الوظائف هي:(17)
أ- حماية الأمة من المخاطر الخارجية
القادمة من وراء الحدود، والتي تهدد كيان المجتمع ووجوده، أو تهدد مصالحه
الحيوية ومصادر تنميته وتطوره، وقد تمثلت هذه الوظيفة في جناحين أساسيين
هما الجهاد والرسل والسفارة، وقد أطلق على هاتين المؤسستين العديد من
المصطلحات والمسميات في الدول الإسلامية المختلفة.
ب- تحقيق الأمن الداخلي وحماية المجتمع
من الخارجين على قوانينه ونظمه والمهددين لاستقراره وأمنه، وذلك من خلال
تأمين الإنسان في ماله وعرضه ونفسه وحمايته من أي تهديد في هذا الخصوص، وقد
تمثلت هذه الوظيفة في مؤسسة الشرطة أو العسس، كذلك كانت مؤسسة الحسبة تحقق
جانبا كبيرا منها.
ج- الفصل في المنازعات وحفظ الحقوق
والتحكيم بين الأفراد والهيئات عندما تثور بينهم خصومة، أو منازعة في أي من
الأمور المتعلقة بالمعاملات والعقود سواء الاجتماعية أو الاقتصادية، وقد
قام على هذه الوظيفة القضاء وديوان المظالم باختلاف مستوياتهما ومؤسساتهما.
د- حماية الفقير وغير القادر والضعيف من
القاطنين لديار الإسلام وذلك من خلال توفير الموارد المالية اللازمة لذلك
وتوزيعها عليهم بالعدل، وقد قام على هذه الوظيفة بيت المال ودواوين الأرزاق
والمكوس والخراج والعشور والزكاة وغيرها.
ومن هنا نجد أن وظائف الدولة الإسلامية
لم تكن تخرج عن هذه المجالات الأربعة التي يطلق عليها في المصطلح السياسي
المعاصر الوظائف السيادية للدولة وهي تلك الوظائف التي تمثل قمة رمزية
الدولة وسيادتها، وأنه لم تكن الدولة في التاريخ زارعا ولا صانعا ولا تاجرا
أو طبيبا أو معلما.. إلخ. فلم تكن لتتدخل في شئون المجتمع أو تفقده
استقلاله وتتحكم فيه، فلم يعرف في تاريخ الإسلام وزيرا أو ناظرا للصحة أو
التجارة أو الزراعة أو للتعليم والثقافة والإعلام، فكل تلك الوظائف بادر
بملئها المجتمع ومن ثم أصبحت من خصوصياته ومن عوامل ومصادر قوته وحضوره
واستقلاله عن خط تطور الدولة وتعرجاته.
5. مثلث فكرة الوقف وما نتج عنها من
مؤسسات غطت مساحات واسعة من فعاليات المجتمع أساس وجوهر استقلالية المجتمع
واستمراره، والحفاظ عليه، على الرغم من تعرض الدول المتتالية لأزمات متعددة
كان كثير منها كافيا للقضاء على المجتمع والدولة معا، فقد أسس الوقف قاعدة
اقتصادية اجتماعية عالجت كل مستجدات الحياة، وحققت الحاجات الأساسية
للمجتمع المسلم، فانطلاق الوقف من فكرة فروض الكفايات بما تعنيه من دلالة
اجتماعية/دينية تتمثل في أن الأمة جميعها آثمة ما لم تحقق هذا الفرض
الكفائي أو ذاك؛ فتصبح الجماعة البشرية مذنبة إذا لم توفر مدرسة للتعليم
وطبيبا للعلاج وحلاقا أو خبازا أو.. إلخ، وتصبح كذلك آثمة إذا كانت هناك أي
حاجة مستجدة في الحياة الإنسانية ولا يوجد ما يسدها أو يكفيها من حيث تمام
التحقق الواقعي لهذه الوظيفة أو تلك، ومن هنا نشأت مؤسسات وقفية تغطي جميع
نواحي الحياة الإنسانية ابتداء من النواحي الطبية والصحية إلى النواحي
التعليمية الثقافية إلى الشئون الاجتماعية الخدمية، إلى رعاية الحيوانات
والطيور.
بل
إنه في حالات عديدة نشأت أوقاف لتعالج قصور الدولة وعجزها عن تحقيق وظائفها
الأساسية فكانت هناك أوقاف للحصون العسكرية (18)
وأخرى للشرطة لتحقيق الأمن الداخلي، هذا بالإضافة إلى الكم الضخم من
الأوقاف التي ترعى الفقير والمحتاج واليتيم والضعيف. وبذلك شكل الوقف
القاعدة المجتمعية الأساسية التي استطاع المجتمع من خلالها الحفاظ على
وجوده واستمراره وتقدمه حتى إن تراجعت الدولة أو تخلت عن وظائفها أو ضعفت
أو انهارت في بعض الأحيان.
ولعل المتتبع
لتاريخ الدولة الحديثة في العالم الإسلامي منذ محمد علي إلى الآن يجد أنها
عملت جاهدة على الاستيلاء على الوقف أو إلغائه لأنه مثل العائق الأساسي
أمام سريانها وامتدادها وتغلغلها في المجتمع بما يؤدي إلى تضخيم قوتها
وإخصاء المجتمع، وإضعاف قدراته، بل إفلاسه وإفقاده القدرة أمام سطوتها
وقوتها الطاغية. وبالنظر إلى التاريخ الحديث للأوقاف نجد أنها فقدت وجودها
أو فقدت دورها وفعاليتها وذلك من خلال تذويبها في أملاك الدولة السرطانية
المعاصرة أو من خلال إخضاعها لسيطرة الدولة وإدارتها المباشرة.(19)
6. التفرقة الواضحة بين الدولة والمجتمع
عند التعامل مع الدول الأخرى التي هي في حالة عداء مع الأمة الإسلامية،
ويتأسس هذا المبدأ على وحدة القيم الإسلامية وعدم قابليتها للتجزئة أو
التعدد، فقيم التعامل الداخلي يجب أن تسود التعامل الدولي للمسلمين،
فمنظومة القيم التي يلتزمون بها في تعاملهم مع نظم الإدارة الداخلية هي
ذاتها تلك التي ينبغي أن يتم اتباعها عند التعامل مع الدول الأخرى، خصوصا
تلك التي هي في حالة عداء مع المسلمين؛ وحيث إن النموذج الإسلامي للحكم
يقوم في جوهره على تفرقة واضحة بين الدولة والمجتمع ويعتمد بصورة أساسية
على المجتمع وفعالياته أكثر من الدولة ومؤسساتها فإن المسلمين في تعاملهم
مع الدول المعادية لهم كانوا يتبعون نفس المنهج في التفرقة بين الدولة
المعادية ومجتمعها فيتم توجيه العداء إلى الدولة وليس إلى المجتمع وتتم
محاربة الدولة وليس المجتمع.
وقد لا نعتمد
بصورة أساسية في هذا السياق على الأدبيات الإسلامية المتعلقة بأخلاقيات
القتال وآداب الحروب وما تتضمنه من عدم جواز قتل المدني أو الذي لا يحمل
السلاح أو المرأة أو الطفل أو الشيخ، وعدم جواز تخريب العمران من زروع
وحيوانات ومصادر مياه، ولكن دليلنا في هذه الأطروحة غير ذلك فالتفرقة بين
الدولة والمجتمع في العلاقات الحربية تظهر بصورة جلية في انعدام استخدام
سلاح المقاطعة الاقتصادية أو الحصار الاقتصادي ضد الدول المعادية(20)
، إذ لو أن الدول الإسلامية استخدمت هذا السلاح التقليدي في مواجهة الدول
الأوروبية التي كانت تعرف سلاح المقاطعة الاقتصادية والحصار منذ 423 ق.م أي
منذ عهود الإغريق، لما كانت هناك أوروبا اليوم وذلك لأن شريان الحياة للدول
الأوروبية حتى ظهور الثورة الصناعية كان يأتي من الشرق، ويمر داخل الأقاليم
والدول الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك لم يتم استخدام هذا السلاح ولو مرة
واحدة، بل على العكس فقد كان هناك حرص شديد على تأمين طرق التجارة،
والتأكيد على عدم الإضرار بالمجتمعات غير المسلمة.
ولعل ما قام
به الإمام الشافعي من تطوير للنظرية الإسلامية الكلاسيكية في العلاقات
الدولية حين أوجد تقسيما جديدا للعالم يقوم على وجود دار للعهد بين دار
الإسلام ودار الحرب حتى يتم تسهيل العلاقات التجارية والثقافية والاجتماعية
بين المسلمين وغيرهم من مجتمعات تدخل دولها في حالة حرب مع الدولة
الإسلامية، وقد كانت أرمينيا الواقعة بين الدولة الإسلامية والدولة
البيزنطية هي أول دار للعهد في التاريخ.(21)
كذلك فإن اهتمام المجتمع بأن يوجد وقف
على المنارات التي ترشد السفن إلى المواني والشواطئ الآمنة التي توفر لها
الخدمات والتموين لدليل على تلك النظرة المنفتحة في التعامل مع الآخر والتي
تقوم على وجود تفرقة واضحة بين الدولة والمجتمع حتى في التعامل مع الأعداء.
7. إن وضوح الفواصل بين الدولة والمجتمع
والنظر إلى المجتمع على أنه البيئة الحاضنة للفعل السياسي، وأن الدولة ما
هي إلا جهاز إداري يقوم بوظائف محددة جوهرها هو حماية سياج المجتمع وحفظه
من الخارجين عليه من أبنائه أو الداخلين إليه من أعدائه، أن وضوح هذه
الرؤية قد أوجد آليات فريدة لتحقيق التجدد الذاتي في الحضارة الإسلامية
ومجتمعاتها، ذلك التجدد الذي كان موضوعه الدولة والفاعل الأساسي فيه هو
المجتمع.. أو بعبارة أخرى فقد كانت قوى التجدد تنبع من المجتمع، أما
الموضوع الذي يتم فيه وعليه التجديد والتجدد فهو الدولة بحيث إنه كلما ضعفت
الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وتراجعت قدراتها عن تحقيق الغاية التي وجدت من
أجلها وحدث التقصير الواضح في القيام بوظائفها المتعلقة بالحماية الخارجية
والأمن الداخلي والعدل القضائي والاجتماعي، كلما نهض المجتمع ومارس عملية
التجديد فيزيل هذه الدولة ويوجد دولة أخرى غيرها، ونقصد بالمجتمع هنا مجمل
فعاليات وطاقات الأمة المسلمة على امتداد حوض الحضارة الإسلامية وليس
المجتمعات المحلية الجزئية.
والناظر في التاريخ الإسلامي يجد أن
هناك آليات معينة لتحقيق ذلك التجدد الحضاري أهمها انتقال الفعالية من كيان
اجتماعي إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى ومن عاصمة إلى أخرى، وفي كل نقلة يتم
تجديد طاقات الأمة ويتم ضخ دماء جديدة في المجتمع الإسلامي من خلال صعود
نخبة جديدة أو ظهور دولة جديدة تقود الأمة أو معظمها نحو تحقيق مثالياتها
وتفعيل قيمها وإعادة إنهاض أفرادها ومجتمعاتها؛ فمن العرب إلى الفرس إلى
الترك إلى المماليك إلى البربر إلى العثمانيين.. إلخ، تداولت دول على قيادة
الأمة كانت كل واحدة منها تتجاوز السابقة عليها وتعالج قصورها وتنجز ما
عجزت الدولة السابقة عن تحقيقه، وحين تفقد زخمها وتضعف فعالياتها تزيحها
أخرى وتحل محلها، كذلك تم التداول بين الأقاليم فمن الحجاز إلى الشام إلى
العراق إلى مصر إلى الأندلس إلى فارس والهند إلى تركيا، احتضنت كل تلك
البقاع فعاليات الأمة وشاركت في إيقاظها وإنهاضها كلما تقاعست أو خلدت إلى
النوم.
8. وقد أدت فلسفة التجدد
الذاتي السابق الإشارة إليها إلى أن أصبح التاريخ الإسلامي يسير في خطين
غير متوازيين وغير متطابقين، حيث قد يتطابقان أحيانا ويفترقان في أحيان
أخرى، ولكن أحدهما أكثر ذبذبة وتغيرا من حيث الصعود والهبوط من الآخر، فقد
كان هناك خط لتطور المجتمع وخط آخر لتطور الدولة، ومما لا شك فيه أنه
أحيانا كان هذان الخطان يتطابقان في الصعود والهبوط أو التقدم والتراجع،
ولكن في كثير من الأحيان كان الانفصال والاختلاف صفة غالبة عليها، فصعود
الدولة قد لا يعني صعود المجتمع وانهيار الدولة وهبوطها قد لا يعني كذلك
انهيار المجتمع وتراجعه.
ففي اللحظات التي انهارت فيها الدولة كان المجتمع يحمل بذور القوة والنهوض، بل الانتصار على من انتصر على الدولة، ولعل الحالة الوحيدة في التاريخ الإنساني التي تم فيها الخروج عن قانون ابن خلدون الذي ينص على "أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" (22) هي حالة المغول الذين دمروا الدولة الإسلامية بكل تشكيلاتها ومستوياتها، ولكن ما لبث المجتمع الذي كان ينبغي أن يتحول إلى ثقافتهم أن انتصر عليهم وجعلهم يقلدون المغلوب ويتبعون دينه وثقافته ونظمه ويصبحون جزءا من كيانه الحضاري، وبذلك تحول المنتصر إلى منهزم، أي أن المنتصر سياسيا وعسكريا تمت هزيمته حضاريا وثقافيا، وذلك على الرغم من أن تاريخ العالم يثبت عادة العكس في مثل هذه الحالات.
كذلك على المستوى الداخلي أي داخل الأمة الإسلامية حين هزمت دولة المماليك أمام دولة العثمانيين كان المجتمع المصري في عهد المماليك أقوى حضاريا من الدولة العثمانية والدولة المملوكية معا بحيث احتاج العثمانيون إلى خبرات المجتمع المصري لبناء دولتهم ورموزها الحضارية.
ولعل المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن هناك فارقًا واضحًا في خط تطور الدولة وخط تطور المجتمع في العديد من الحالات الأخرى ولعل الواقع العربي المعاصر قد يكون مثالا واضحا لإثبات هذه الفرضية.
9. تأسيسا على السابق، من الممكن استخلاص المعادلة التي تحكم علاقة المواطن بكل من الدولة والمجتمع في النموذج الإسلامي للحكم، حيث إن هذه المعادلة تقيس مدى تأثر المواطن الإنسان بفساد الدولة وصلاحها، أو بتقدمها وتراجعها وركودها، أو بعدلها وظلمها... إلخ.
فكما سبق أن ناقشنا في النقاط السابقة أن للدولة مجموعة وظائف محددة، وأن المجتمع وقواه وفعالياته تغطي المساحة الأوسع من حياة الإنسان، وتسد القدر الأكبر من حاجاته واحتياجاته، بل إن الإنسان المواطن هو الذي يسد الحاجات لنفسه وللآخرين من خلال إطلاق فعالياته ودفعها لتأسيس مؤسسات مجتمعية وقفية أو غيرها تسهم في تحقيق الإشباع المطلوب للحاجات الاجتماعية المتعددة.
وهنا، إذا تساءلنا عن عدد المرات التي يحدث فيها التلاقي والاحتكاك بين المواطن والدولة سواء في حياته اليومية، أو على مدى عام أو في عمره على الجملة قياسا بتلك التي يتفاعل فيها مع مؤسسات المجتمع المتعددة، نجد أن مقدار التلاقي محدود للغاية وقليل جدا، إذ قد يفني حياته دون أن يتعامل معها؛ فهو لا يراها إلا إذا كان هناك عدو خارجي يهدده، أو إذا اعتدى عليه خارج عن القانون من مواطنيه، أو إذا دخل في خصومة مع أحد أبناء مجتمعه، أو إذا كان محتاجا فقيرا يستغيث بالدولة لنجدته بعد أن تخلى عنه المجتمع ولم تستوعبه فعالياته، وفيما عدا ذلك، فهو ليس في حاجة إليها سواء في الحصول على طعامه أو كسوته أو تعليم أولاده أو تطبيبهم، أو إيجاد عمل أو مصدر رزق لأسرته، أو حتى في إعالته إذا عجز عن العمل؛ حيث كانت الحرف والطوائف أو النقابات تسهم في ذلك إلى جانب الأوقاف والفعاليات الاجتماعية الأخرى.
ويتضح مقدار هامشية الدولة في حياة المواطن في الفترة السابقة على حكم محمد علي باشا في مصر، إذا ما قارناها بما هو عليه الحال في العالم المعاصر، خصوصا في الدول التي قامت على قطاع عام قوي، أو وسمت بالاشتراكية، حيث نجد أن الإنسان مربوط بخيوط تشده من جميع أجزاء جسده إلى الدولة؛ بحيث لا يستطيع حتى أن يقضي حاجته، أو أن يجد كوب ماء، إلا ويمر من تحت أقدام الدولة، أو ما بين أصابعها، فكل شيء لا بد أن يمر بالدولة إنتاجا أو توزيعا أو تنظيما حتى معاشرته لأهله.
وخلاصة القول، فإن هذه المعادلة التي
تحدد علاقة المواطن بالدولة والمجتمع تجعل مقدار تأثر المواطن بعدل الدولة
وظلمها، بتقدمها وتراجعها، بصعودها وهبوطها، بقوتها وضعفها، قليل جدا إذا
ما قيس بالوضع المعاصر حيث يتضاعف الأثر على المواطن ولا يقف عند التوازي
أو التساوي، فإذا كان الوضع التاريخي يثبت أن فساد الدولة أو ظلمها قد لا
يخرج عن حدود العاصمة وقد لا يتأثر به إلا العدد القليل من المواطنين، أو
قد يكون نصيب المواطن منه نسبة قليلة أو غير متساوية مع حالة الفساد والظلم
التي توجد على مستوى الدولة، فإن الوضع الحالي في العالم العربي المعاصر
يجعل نصيب المواطن من الظلم والفساد أضعاف الحالة التي توجد عليها الدولة،
وذلك لتعدد أجهزتها، وتعدد مستويات هذه الأجهزة، بحيث يكون الفساد في أعلى
قمة الدولة بمقدار معين، ويظل يتضاعف ويزداد كلما هبط إلى أسفل حتى يصل إلى
الإنسان العادي مضاعفا أضعافا كثيرة.
ولذلك، فعلى الرغم من الرفض المبدئي
للفساد والظلم والانهيار سواء في الدولة أو المجتمع إلا أن فهم طبيعة هذه
العلاقة بين المواطن والدولة والمجتمع في النموذج التاريخي، وفي الواقع
المعاصر لأمر ضروري لعدم التعميم أو عدم إسقاط الواقع المعاصر على التاريخ.
خامسا: منهجية تجريد نماذج الحكم التاريخية
لقد سيطرت المنهجية الحدية على المقاربات المعاصرة للتاريخ الإسلامي، فإما أن يتم النظر إلى التاريخ بقدسية ترتقي به إلى الحد الذي يكون فيه دينا، ومن ثم تصبح الممارسات التاريخية إلزامية لها طابع الوجوب في النقل والاتباع، وإما أن يتم النظر إلى التاريخ على أنه مجموعة من الممارسات المنحرفة التي ينبغي تجاوزها تجاوزا تاما، بل إحداث قطيعة معرفية معها.
وكلا هذين المنهجين طرفا حدين يجانبهما الصواب، ويبعد هو بدوره من يتبعه عن الحقيقة أو أي شعاع من نورها. فالتاريخ ليس في ذاته حجة، ولكنه أيضا لا يمكن اعتباره حادثات لا علاقة لنا بها، أو ليس لها تأثير علينا؛ فمن المؤكد أن الظواهر التي نعيشها اليوم قد بذرت بذورها الأولى في فترات تاريخية سابقة، وأن النجاحات أو الإخفاقات التي تشهدها الأمة الإسلامية ليست وليدة اللحظة المعاصرة، وإنما لها جذور وامتدادات تاريخية؛ فالظواهر الاجتماعية على الجملة لا تولد فجأة، وإنما تبذر بذورها في فترات تاريخية وتصبح تكوينات جنينية في فترة أخرى. فمسألة الاستبداد بالحكم وتحويله إلى غنيمة عائلية يمكن الرجوع بها إلى ممارسات الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الذي أحدث نقلة نوعية في تاريخ المسلمين يمكن اعتبارها نقطة تحول في هذا التاريخ حين غير عملية انتقال السلطة من الشورى إلى الوراثة، وحين ابتدع ولاية العهد لابنه يزيد.
ومن ناحية أخرى، ومن المسلم به أيضا أن التاريخ هو معمل التجربة البشرية، أو المعمل الذي يتم فيه اختبار مقولات العلوم الاجتماعية والتأكد من مدى صحتها من خطئها، تماما مثل المختبر الذي يتم فيه اختبار نظريات العلوم الطبيعية.
ومن هنا، فإن التعامل مع التاريخ يستوجب منهجية معينة يمكن أن نطلق عليها "منهجية التجريد التاريخي" (23) ، التي تعني في جوهرها القيام بعملية تجريد متعددة المراحل والمستويات للظاهرة التاريخية، بأن يتم تقشيرها من كل مظاهرها وتطبيقاتها، وجملة تمظهراتها حتى نصل إلى لبها وجوهرها، ثم نأخذ هذا اللب أو الجوهر، ونقوم بعملية عكسية في الواقع المعاصر، بالبحث عن الكيفية والشكل والوسيلة التي يمكن من خلالها إيجاد صيغة معاصرة لتطبيق هذه القيمة أو تلك الوظيفة التي خرجنا بها من تجريد الظاهرة التاريخية.
فمثلا: عملية البيعة كوسيلة لاختيار الحاكم، سواء أكانت بيعة عامة أو خاصة، يمكن تجريدها من مظاهرها عبر الخطوات التالية:
أ- البيعة الصغرى: هي عملية اختيار أو
ترشيح لمن يشغل منصب الإمام.
ب- البيعة الكبرى: هي عملية تعاقد بين
المواطن والحاكم.
ج- جوهر العمليتين: هو حق الاختيار
الفردي من قبل المواطنين للحاكم.
د- غاية هذه العملية: أن يتم اختيار
الحاكم بوسيلة تحقق رضا المحكومين عنه، وتنشئ علاقة تعاقدية.
هـ- القيمة التي يمكن استخلاصها من هذه
الظاهرة هي: "التعاقد والتراضي بين الحاكم والمحكوم".
و- يمكن تحقيق هذه القيمة بأي وسيلة
حديثة تتناسب مع المجتمع ومع العصر ومع تعقيدات الحياة وتطوراتها.
ويمكن تطبيق عملية التجريد هذه مع مجمل
النظم السياسية الإسلامية، ومؤسساتها، بحيث يتم تحويل النماذج التاريخية
للحكم في الأمة الإسلامية إلى منظومات من القيم أو الغايات أو الضوابط
والقواعد، ولا نكون في حاجة إلى إعادة تكرار التاريخ واجتراره حيث إنه من
المستحيل فعل ذلك، وكذلك لن نسقط في إحداث قطيعة معرفية معه حيث إنه من
المهلك لمجتمعاتنا والمبدد لطاقاتها ومستقبلها أن نحاول تطبيق ذلك.
ومن خلال
عملية التجريد هذه يمكن الوصول إلى صيغ متعددة للحكم، ونماذج متنوعة للنظم
السياسية الإسلامية جميعا يحقق نفس الغايات والأهداف وإن اختلفت الوسائل
والإجراءات، إذ المقصد هو تحقيق الغاية وليس التمسك بالوسيلة كما يقول
الإمام السيوطي: "يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد" (24).
ولو أننا قمنا بعملية تجريد لنماذج
الحكم التاريخية المنضبطة بقيم الإسلام وغاياته منذ عهد النبي صلى الله
عليه وسلم إلى ما قبل مجيء محمد علي باشا في مصر، نجد أنه يمكن تلخيصها
تلخيصا مكثفا في الآتي:
أ- أن منطلق الحكم هو القيام بعملية
إصلاح الأحوال، الخاص منها والعام، أي إصلاح حال الإنسان الفرد والجماعة
والمجتمع بما يحقق مصالح كل منهم في موقعه، وطبقا لظروفه واحتياجاته.
ب- إن غاية
الحكم القصوى هي تحقيق المقاصد العليا للشريعة (25)
المتمثلة في:
1ـ حفظ الدين بما يشتمل عليه من حفظ
حرية الاعتقاد وحفظ العقيدة من التشويه والتحريف وحفظ نقائها من التفريط
والإفراط.
2ـ حفظ النفس بما يشتمل عليه
من حفظ وجودها، وحفظ كرامة هذا الوجود بتوفير ما يحتاج إليه الإنسان من
ضروريات الحياة وتأمين وجوده وحمايته من الاعتداء، وحفظ بدنه ونفسه من
المخاطر التي تحيط بها، وفي نفس الوقت ترقية هذا الوجود.
3ـ حفظ العقل بما يشتمل عليه من حفظ
حرية اختيار الإنسان لآرائه وأفكاره وحفظه من التضليل والتزييف والحجر
والخداع واحتكار الأفكار أو تشويهها، وحفظ رأيه واحترام قدراته وكرامته
الفكرية، وفي نفس الوقت ترقية قدراته العقلية وتطويرها والسمو بها.
4ـ حفظ النسل وما يشتمل عليه من حفظ
الأسرة وتربية الأبناء وحمايتهم وترقية وجودهم وتعليمهم وحمايتهم من
الأضرار المادية والنفسية والمعنوية وتكوينهم التكوين السليم الذي يرقى
بوجودهم الإنساني ويرتفع به إلى درجات أعلى وأرفع.
5ـ حفظ المال بما يعني حماية المال من
المهلكات المادية كالإهدار والاستيلاء والسرقة، وحمايته من المهلكات
المعنوية كالربا والحرام والغش والتدليس وفي نفس الوقت توجيه هذا المال
الوجهة التي تحقق وظيفة الاستخلاف فيه بأن يكون نافعا للإنسان والمجتمع
وليس وسيلة للترف أو قهر الآخرين واستذلالهم.
تلك هي الغايات التي تدور حولها مختلف
النظم السياسية في التاريخ الإسلامي سواء حققت الكثير منها أو حققت بعضها.
جـ- إن ضوابط الممارسة السياسية هي:
1ـ الشورى.
2ـ الرضاء الاجتماعي.
3ـ العدل.
4ـ حكم القانون والمساواة أمامه.
لو كان هذا التجريد للنظم السياسية
التاريخية في حوض الحضارة الإسلامية صحيحا وتم الاتفاق عليه أو تعديله، فإن
صياغة ما يمكن أن يطلق عليه "نظاما إسلاميا للحكم" يصبح أمرا ممكنا بل
يسيرا؛ لأن المطلوب في هذه الحالة هو محاولة إيجاد وسائل ومؤسسات وتنظيمات
وسياسات تنطلق من هذه المنطلقات السابق الإشارة إليها، والمتمثلة في
المصلحة والإصلاح وتحقق تلك الغايات المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل
والنسل والمال، وتنضبط في سيرها وفي حركتها بالضوابط المشار إليها سابقا،
وهنا لا يكون المهم هو الأشكال وإنما الأهم هو تلك القيم والغايات والضوابط
وإن تعددت الأشكال وتنوعت من مكان إلى آخر؛ إذ إن القاعدة في كل ذلك هي
تحقيق القيمة والمقصد وليس الحفاظ على شكل تاريخي يتناسب مع زمان معين
ومجتمع معين، وقد لا يناسب آخر أو يتناسب معه.
سادسا: المشترك الإنساني وحدود التعاطي مع الخبرات المعاصرة
إن منهجية تجريد الظواهر سواء التاريخية
أو المعاصرة السابق الإشارة إليها لا يقتصر استخدامها فقط على النظم
والمؤسسات التاريخية بقصد الوصول إلى روحها ومكنون أسرارها من أجل
استخلاصها ثم إعادة إنزالها في الواقع المعاصر، وإنما هذه المنهجية تعتبر
أفضل الاقترابات لإجراء الدراسات السياسية المقارنة عبر الثقافات والحضارات
والدول والفترات التاريخية؛ (26)
لأن أكثر الاقترابات المنهجية بعدا عن التحيز والتمركز العرقي حول الذات
هو ذلك الاقتراب الذي يعتمد على فكرة التجريد، أي تجريد الظواهر للوصول إلى
جواهرها ثم إجراء المقارنة بين الجواهر لا بين الظواهر، بحيث لا ينبغي توفر
ظاهرة الحزبية في دولتين مثلا، حتى يمكننا المقارنة بين ظاهرة الأحزاب
كظاهرة سياسية، إذ إنه يمكن إجراء المقارنة بين دولة توجد فيها أحزاب وأخرى
لا توجد فيها تلك الظاهرة إذا ما قمنا بتجريد الظاهرة الحزبية إلى جوهرها.
وهنا يمكن أن نقترح النموذج التالي:
1ـ الحزب هيئة طوعية تنشأ من خلال
الاختيارات الفردية.
2ـ وظيفتها أنها وسيط بين المواطن
والدولة بحيث لا تنفرد الدولة بالمواطن.
3ـ أنها رقيب وبديل للسلطة السياسية.
4ـ جوهرها هو أنها تكوين اجتماعي وسيط
ينظم فعاليات الأفراد.
وهنا ومن خلال هذه العملية التجريدية
نستطيع أن نوجد المقابلات لهذا الجوهر السياسي في مجتمعات قد لا تشهد شكل
الحزب وإنما تشهد جوهر وظيفته، إذ إن العصبية بالمفهوم الخلدوني هي تمظهر
آخر لذات الجوهر، والقبيلة الإفريقية والطائفة الهندية أو النقابة
الحرفية.. إلخ.
ومن خلال اعتماد هذا المنهج
يمكن مقاربة الخبرات السياسية المعاصرة بحثا عن الوسائل الحديثة التي تحقق
جوهر الظواهر السياسية التاريخية التي برزت في إطار فعاليات الأمة
الإسلامية، فقد نجد أن إحدى صيغ البرلمان تحقق وظيفة أهل الحل والعقد أهل
الاختيار وأهل الشورى، أو نجد أن قياسات الرأي العام تحقق جوهر مفهوم الرضا
كمفهوم ضابط للعملية السياسية، أو نجد أن أجهزة الرقابة على الصناعة
والتجارة تحقق جوهر وظيفة المحتسب.. إلخ.
ومن ثم يمكننا من خلال هذه العملية
إعادة صياغة النظم السياسية الإسلامية من خلال عملية متواصلة من التعاطي مع
التراث والتاريخ المتعلق بالذات والحاضر المختلط الذي تعيشه الأمة، وكذلك
التجارب المعاصرة التي طورتها النماذج السياسية النابعة من حضارات أخرى
مغايرة، على أن يكون دائما ضابطنا في هذا الصدد مقولة الإمام السيوطي إنه
"يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد"، وهي المقولة التي تم تطبيقها
عند صياغة النظم السياسية والإسلامية في القرون الأولى؛ حيث تم استعارة
مؤسسات ونظم من الحضارات الفارسية والبيزنطية وغيرها وتم إدماجها في بوتقة
الحضارة الإسلامية حتى صارت جزءا منها لا يمكن فصله، وبذلك نستطيع التعاطي
مع النظم السياسية المعاصرة ونستفيد من تجاربها التي تم تطويرها عبر عملية
تاريخية معقدة ولكنها تتعامل مع ظواهر ومشكلات مثل التي تواجهها المجتمعات
الإسلامية المعاصرة.
الخاتمة:
إن الناظر في الواقع المعاصر للعالم الإسلامي خصوصا الحركات الإصلاحية التي تحمل صفة "الإسلامية" يجد أنها في مجملها تتبنى مفاهيم مختلفة للدولة ونظام الحكم الإسلامي، بل لمجمل مفاهيم السياسة والدين، وقد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن رؤية معظمها إن لم يكن جميعها تستبطن المفاهيم الغربية، والمعاني والدلالات النابعة منها، وإن حافظت على اللفظ العربي والمصطلح الإسلامي، فالسياسة عندها هي القوة والسلطة والنفوذ وإدارة الدولة والتحكم فيها، والدولة في عرفها هي الدولة بمعناها المعاش في الواقع العربي والإسلامي المعاصر. وهي المدخل الأساسي بل الوحيد للإصلاح والتغيير، ولذلك تسعى جميع هذه الحركات للوصول إلى السلطة ولو من خلال وسائل برجماتية تدفعها أحيانا للتحالف مع أحزاب وجماعات ونخب هي أبعد ما تكون عنها من حيث التكوين الفكري والبرنامج الإصلاحي.
ولعل هذا الفهم للسياسة ونظام الحكم قد أدى إلى عملية تشويه شديدة
للمنظومة المعرفية التي تتبناها هذه الحركات، فأصبحت رؤيتها للعمل السياسي
أو لنظام الحكم تقوم على معادلة هي في جوهرها خليط من مفاهيم الإسلام
والمفاهيم الأوروبية المعاصرة، هذه المعادلة أنتجت واحدة من أسوأ صور
الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، فإيمان هذه الحركات بأن السياسة هي
القوة أو السلطة أو النفوذ أو علم إدارة الدولة، واعتمادها على مصادر
المشروعية الإسلامية أدى إلى الوصول إلى درجة معقدة من الاستبداد خصوصا
الاستبداد الفكري الذي يقوم على افتراض امتلاك الحقيقة ومن ثم نزع
المشروعية بل شرعية الوجود عن المخالفين ونفيهم خارج المجتمع أو خارج
الوجود في بعض الحالات. وذلك أن:
(مفهوم القوة + المشروعية الإسلامية =
دكتاتورية مبررة)
وهذه هي الصورة السائدة الآن في معظم
الحركات إن لم يكن جميعها، وهذا أيضا هو سر إخفاقاتها المتعددة ومحاولات
انتحارها المتجددة، بحيث أصبحت هناك عمليات متواصلة من قطف أعناق أجيال
متتالية من أفضل شباب الأمة لا لشيء إلا للتعلق بأهداب الدولة والسعار
الشديد للوصول إليها على أنها هي المدخل الأساسي والوحيد للإصلاح، ولا يمكن
أن يتم إصلاح إلا من خلال الدولة وأجهزتها، مع غفلة شبه تامة عن معاني
ودلالات السياسة في الإسلام وعن طبيعة النموذج الإسلامي للحكم الذي يقوم في
جوهره على أولوية المجتمع من خلال تقوية فعالياته وإطلاق طاقاته، وفي نفس
الوقت إحداث عملية تدريجية في تهميش الدولة ودورها، أولا في الأذهان والوعي
والإدراك، ثم بعد ذلك في أرض الواقع، وكأن عملية الإصلاح أو عملية بناء
نموذج إسلامي للحكم تستلزم:
أولا: إطلاق طاقات المجتمع وتفعيل
قدراته ودفعها لتسد مساحات واسعة من الحاجات الإنسانية.
وثانيا: تهميش الدولة ووزنها ودورها في
الإدراك الجمعي والوعي المجتمعي.
وثالثا: تقليص تدخلها في المجتمع
تدريجيا بحيث يتم تدريجيا إعادة مصادر القوة إلى المجتمع.
وهذا الأمر لن يحدث إلا إذا توفر خطاب
سياسي إسلامي يعيد تعريف المفاهيم الأساسية للسياسة في الإسلام، ويعيد
طرحها بصورة عقلانية متوازنة تستلهم التراث الإسلامي وتحيط بالفكر السياسي
المعاصر والظواهر السياسية المعاصرة، وفي نفس الوقت، نقوم بعملية تجديد
منهجي لإصلاح مناهج التفكير المتعلقة بمجمل الظاهرة السياسية وتشعباتها،
بحيث يكون من أهداف هذه العملية المنهجية تحويل اهتمامات البحث السياسي
الإسلامي من التركيز على الحاكم إلى التركيز على عملية الحكم ذاتها، ومن
الذوبان عشقا في الدولة والسلطة إلى الانشغال بهموم المجتمع وكيفية إنهاض
فعالياته وبناء مؤسساته وإعادته إلى حالة القوة التي كان عليها.
ولعل هذا العمل يكون مقدمة أولية في هذا
الخطاب المنشود.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.