جريدة الخليج
25 نوفمبر 2013
عبد الإله بلقزيز
ينتمي ناصيف نصّار إلى المدرسة التاريخية النقدية عينها التي إليها ينتمي مجايلون مثل عبدالله العروي، وعليّ أومليل، وعبدالمجيد الشرفي، وعزيز العظمة . . . إلخ، في قراءة الموروث الثقافي والديني الإسلامي . ينفرد بكونه ظل الأكثر اتصالاً منهم -إلى جانب عليّ أومليل- بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي بما هو القطاع الأكثر صلة بالعقل . ومع أنه كتب في أغراضٍ شتى، وطَرَقَ مجالات عدّة من تراث الإسلام مثل الفكر السياسي، والاجتماعي والديني، إلاّ أن مساهمته الأظهر في دراسة التراث إنما كانت في مجال الفكر الفلسفي، والاجتماعي الفلسفي في ذلك التراث . ونصوصه، بهذا الحسبان، تسمح لنا بأن نُطِل على مسألة تناولها كثيراً، وهي بالغة الأهمية، هي حدود العقل في الإسلام، وفي تراثه الفكريّ الفلسفي على نحوٍ خاص .
قد يكون محمد عابد الجابري أبكَر من عنيَ بهذه المسألة من الدارسين العرب للتراث، منذ النصف الثاني من عقد السبعينات في القرن الماضي، حيث ألمح إلى أن الرشدية المطلوبة، اليوم، ليست رشدية الفكر، أو المادة المعرفية الفلسفية، وإنما الروح الرشدية القابلة للاستدعاء . وقد يكون تجديد الدعوة عينها إلى استثمار الروح العقلانية الخلدونية، من دون التمسّك بالمضمون المعرفي الخلدوني، ممّا عَنَى أنه وَعَى محدودية فكر المفكّرين الكبيريْن . غير أن أكثر مَن شدّد على تاريخية العقل ومحدوديته، في تراث الإسلام، هو عليّ أومليل، وخاصة في دراستيه عن ابن رشد وابن خلدون، قبل أن يستأنف ناصيف نصّار المهمّة المعرفية عينَها بإعادة وضع التراث العقلي الإسلامي الفلسفي والاجتماعي موضع فحصٍ نقديّ لبيان تناقضاته الذاتية وعيوبه و-الأهم من ذلك- حدوده .
نسمّي هذه النظرة نقدية وتاريخية، لأنها تتوسّل أداة النقد والمساءلة، بما يدخل فيها من محاولةٍ لمراجعة الكثير من اليقينيات الراسخة عن التراث العقلي في الإسلام (في الحالة التي نحن فيها)، ثم لأنها تسلك سبيل النظرة النقدية من مدخلٍ تاريخي، أو قُل من مدخل قراءة المادة التراثية في نطاق شرطها التاريخي الذي تولّدت منه، أكان ذلك بمعنى الشرط الموضوعي (= الزمني، والاجتماعي - السياسي)، أو بمعنى الشرط المعرفي والفكري (= مستوى المعارف المتاح أمام مفكّر بعينه)، علماً أن الفصل بين الشرطين ممّا يتعذّر أمرُه على التحليل، لأن المعرفةَ، وإن كانت ذات زمنيّة ذاتية خاصة بها، تتطور في نطاقها، تظل محكومةً بالتطور العام: التاريخي والاجتماعي .
هل في وسعنا أن نكتب تاريخاً نقديّاً للعقلانية العربية؟ هذه إشكالية شغلت ناصيف نصّار، وخاض فيها مثلما فَعَل آخرون . غير أنّ ما ميّز مساهمته في مقاربتها أنه توسَّل، للتفكير فيها، مقدمات نظرية ذات قيمة فكرية ومنهجية لا سبيل إلى تجاهلها . أهمّ هذه المقدمات النظرية اثنتان هما: إن العقلانية، في التراث الفلسفي العربي، عقلانيات يتمايز بعضُها من بعضٍ ويتميز، وإن العقلانية العربية مزيج من فلسفةٍ خاصّة بكل فيلسوف ومن سماتٍ عامّة مشتركة وجامعة بين الفلاسفة كافة . وهُما مقدمتان مترابطتان أو متداخلتان .
لِمَ تتنوّع العقلانيات، أو تنقسم العقلانية العامّة الجامعة إلى عقلانيات متباينة؟
لأن تبايُنَها، في نظر ناصيف نصّار، تَبَعٌ لتبايُن مفهومها للعقل، وعلاقة ذلك العقل بالوجود، ووظيفته في الحياة الإنسانية . إن أخذنا ابنَ رشد، مثلاً، سَنلْحظ أنه اطَّرح جانباً نظرية الفيض والعقول الفلكية المفارقة عند الفارابي (كما عند ابن سينا)، واتخذ منظوراً آخر للطبيعة هو ما انعكس على نظرته إلى العلاقة بين العقل والوحي، الحكمة والشريعة . وقد يزدوج موقف الفيلسوف الواحد فيكون في موضعٍ غيرَ ما يكونُه في موضعِ آخر: كالفارابي الذي يهيمن على تفكيره المفهوم الأفلاطوني للعقل في نظريته في الفيض، بينما يختفي، مثلاً، في رسالة في العقل . وقد يتجاوز مفكرٌ سابقيه، في قواعد النظر، كتجاوُز ابن خلدون تقسيم العقل إلى عقلٍ نظري وعقلٍ عملي، على ما درجَ عليه سابقوه، إلى تصنيف جديد لمراتب العقل (= عقل تمييزي، عقل تجريبي، عقل نظري) .
إذا كان هذا التبايُن في مفهوم العقل ممّا يتولد منه تنوُّعٌ في العقلانيات، فهو ممّا يفرض الاعتراف بأن لكل فيلسوف فلسفة لا تقْبَل النظر إليها بما هي نظيرٌ لغيرها، بل لا مهرب للدارس من تحليلها في صورتها الخاصة المستقلة، قبل البحث عن روابطها بغيرها من الفلسفات الخاصة، ذلك أن الاستقلال النسبي لفلسفة كلّ فيلسوف إنما هو ثمرة عامليْن اثنين: زمنه التاريخي والمعرفي، وإشكاليته الخاصة . وليس معنى ذلك أن هذا التميز في الفلسفات ينفي عنها ما بينها من تكامُلٍ وتراكُمٍ واتصال، ذلك أن العلاقات بينها تستوعب حالتيْ الانفصال والاتصال معاً، من دون أن يكون في ذلك وجْهُ تَجَافٍ أو تعارُض، فالفلسفات تلك تنتمي إلى مجالٍ ثقافيّ واحد، على ما يخترقه من تنوُّعٍ وتعدُّد للأسباب التي سبق الإلماح إليها .
من هذه المقدمات يتأدى ناصيف نصّار إلى اشتقاق ما يعرِّفه بأنّه الخصائصُ الرئيسُ للعقلانية في التراث الفلسفي العربي، ويحدّدها في خمس خصائص:
أوّلها ما سمّاه ب"التركيز على الاستدلال البرهاني لتبيين ماهية العقل أو فعله"، وعَنَى به أن فلاسفة العرب يسلّمون بأن المعرفة، وإن كانت تنهل من الحسّ، الذي ينقل صور الموجودات في العالم الخارجي، لا تقوم على النشاط الحسيّ المباشر، بل على فَعْلِ تجريدٍ ينتزع المعقولات الكلية من المحسوسات الجزئية . والعقل ليس سوى تلك القوة، من قوى النفس، التي تجرِّد المعقولات، أو الصور، من موادها، أي التي تنتزع الكليات من أعيانها، وتُدرِك الماهيات المجرَّدة . والعقل، بهذا المعنى، قوة استنباط تركّب القضايا قصد الوصول إلى يقينيات جديدة . وهذا ما يقود نصّار إلى وصف العقل الفلسفي العربي بالعقل المنطقي، وإلى التشديد على وجود تلازمٍ بين العقلانية في المعرفة (= الاستدلال البرهاني) والعقلانية في الوجود عند الفلاسفة العرب (الفارابي وابن رشد خاصة) .
وثانيها رابطة السببية بين أشياء الطبيعة وأفعالها . وناصيف نصّار يجد في أطروحات ابن رشد تمثيلاً مكثَّفاً لهذه الخاصية المركزية في العقلانية العربية، التي ورثها عن فلاسفة سابقين (الفارابي، ابن سينا)، لكنه ذهب بها بعيداً إلى الحدود التي استجرّتْ عليه نقداً من الخصوم: وأظهَرُ مسألة في هذه النظرية، حسب نصّار، هي مسألة الضرورة في العلاقة بين الأسباب والنتائج، ومقتضاها أن في الأشياء طبائع ثابتة، والأفعال تلازِمُها حكماً (من طبيعة النار الإحراق، وهو فعلٌ ثابت فيها ثبات الطبيعة فيها) . وإذا كان للشيء، في نظر أرسطو، علل أربع (= مادية، صورية، فاعلة، غائية)، فالحديث هنا يجري -حصراً- على العلّة الفاعلة . وهكذا تعني العقلانية في معرفة الموجودات "إدراك الأسباب الفاعلة لهذه الموجودات"، بما هي ضرورية وإن جرى التعبير عنها -عند آخرين- باسم العادة . على أن التشديد على السببيّة، بما هي علاقة ضرورية بين الأشياء، يَقترن معناه مع التشديد على علاقات الترابط بين القضايا والحدود المنطقية والبرهان في الاستدلال المنطقي، إذ ينسجم هذا الاقتران مع مبدأ التطابق بين اليقينيّ الضروري والوجوديّ الضروري، الذي اجتمع على القول به فلاسفة العرب . من هنا يخلص ناصيف نصّار إلى القول إن العقلانية المنطقية والعقلانية السببية، في الفلسفة العربية، لا تنفصلان عن العقلانية الميتافيزيقية المطلقة .
وثالثها تأسيس الوجود الإنساني على نظامٍ كوني صادر عن عقلٍ مطلق، العالم، عند الفلاسفة العرب (المشائين)، عالم معقول، قائم على الروابط الثابتة بين الأشياء انطلاقاً من سببٍ أوَّل هو الموجود الأوّل (= في لغة الفارابي)، ولا شيء في هذا العالم يحدث عفواً أو من دون نظام مرتَّب . يختلف الفلاسفة أولاً، في كيفية صدور العالم عن السبب الأوّل (بين نظرية الفيض وغيرها)، لكنهم يجتمعون على القول بمعقوليته، وانتظامه على مقتضى عقلي . إن معقوليته ليست سوى نتيجة للسبب الموجِد للعالم، والصانع لمعقوليته، وهو العقل الأزلي . وعلى معقولية العالم الطبيعي ينبغي أن تقوم معقولية الوجود الإنساني . أما الإنسان فهو مدعوّ إلى إدراك نظام المعقولية في الكون من طريق ردّه إلى سببه الأول، والعقل ليس أكثر من ذلك الإدراك لنظام الضرورة الثابت في العلاقة بين الأسباب والنتائج . إن قوة الضرورة، هنا، أعلى من قوة الإرادة، بل إن الإرادة الإنسانية تَبَعٌ للضرورة في الطبيعة . هذا ما يفسّر، في نظر نصّار، لماذا هيمنت فكرة الضرورة، ووعيُها أو عقلُها، على فكرة الحرية في الفعل الإنساني عند الفلاسفة العرب، وخاصة عند ابن رشد .
أمّا رابعها فهي ما سمّاه ناصيف نصّار ب"اعتماد الاتجاه المحافظ"، وعَنى بها أن العقلانية الفلسفية العربية لم تتكرس وظيفتُها لخدمة أهداف التنوير والتحرر، وإنما لخدمة النظام القائم وتبريره! ولهذه النظرة المحافظة إلى المجتمع والإنسان في تلك الفلسفة . وقد يكون ممّا يدعو إلى الاستغراب، أو إلى التساؤل، أن ينتصر نصّار للفارابي على ابن رشد في هذا الباب! نعم، إنّه يسلّم بأن الفارابي كان مسكوناً بهذه "العقلانية المحافظة"، شأنه شأن الفلاسفة العرب الآخرين، لكنه تميَّز منهم ببعض الانفتاح على فكرة التغيير والإصلاح، ولكنه -وهو يحلّل العقلانيتيْن- ذهب إلى إنزال أقسى الأحكام بالعقلانية الرشدية، واصفاً إياها بالانغلاق والتزمّت . . .، بل والتخلّف!
هذه النظرية التركيبية - الاستنتاجية إلى خصائص العقلانية الفلسفية العربية وسماتها ستوجّه قراءات ناصيف نصّار إلى تراث العقل في الإسلام، ليس عند المشائين فحسب، وابن رشد في طليعتهم، وإنما حتى في صيغته الخلدونية التي ظل نصّار يتميَّزها من دون سائر العقلانيات العربية الكلاسيكية .