موقع إيلاف
12 أغسطس 2008
فهد الشقيران
فهد الشقيران
من الرياض:
محمد سبيلا
مفكر وكاتب في الفلسفة وله مؤلفات كثيرة ويعتبر من الأسماء التي بدأت تتوسع
مساحات طرحها تأثيراً وانتشاراً حتى في المشرق العربي، وهو قام بتآليف عديدة،
وربما كان من أكثرها إثارة للجدل والأسئلة كتابه
"الحداثة وما بعد الحداثة"
الذي خصصنا أغلب حوارنا هذا للدوران حول بعض الاستفهامات والأسئلة
التي يمكن أن تتبدى للقارئ، خاصة وأن حمّى الجدل حول
"ما بعد
الحداثة"
عربياً قائمة، يتجاوز محمد سبيلا ثقافة التعسكر بين فريق
"مع"
تسييل نتاج ما بعد الحداثة في الكتابات ووسائل الفهم، وبين الفريق
المعارض لنشر أفكار كل هذه المرحلة، ليصفها البعض بـ"الموضة"
وهو ما رأينا تناوله عبر الحوار الآتي:
-في كتابك
"الحداثة وما
بعد الحداثة"
ذكرت أن
"الحداثة البعدية، هي حداثة أعمق، وأرسخ
قدماً، لأنها أصبحت أكثر مرونة، وأكثر قدرة على احتواء نقائصها، وفي ذلك تجاوب
عميق مع ماهية الحداثة نفسها كتجاوز مستمر"
ألم تمارس الحداثة البعدية قطيعتها
الخاصة مع الحداثة نفسها، أم أن الحداثة البعدية هي مرحلة ثانية داخل حقبة
الحداثة نفسها؟
-
يميل معظم
الكتاب والمثقفين العرب، وخلفهم الفكر التقليدي بحميته الدفاعية إلى القول إن
الغرب نفسه قد جاوز الحداثة وانتقدها، فما بالنا نحن نتمسك بأهدابها ونتسقّط
شظاياها وبقاياها!؟.
والحق أن مثل هذا التصور يعبر عن حكم مسبق على كل من الحداثة وما
بعد الحداثة، وهو يستعمل بوعي أو بغير وعي وقصد كأداة حادة وحاسمة لمناهضة
الحداثة.
أو بعبارة
أخرى فإن مفهوم مابعد الحداثة يوظف كأداة
(إيديولوجية)
لمحاربة
الحداثة التي تخلى عنها أصحابها أنفسهم.
-
ما هي مظاهر
هذا الضلال والتضليل في هذا الرأي؟
1-
يردد الكثيرون أن
"نقد الحداثة"
أصبح أمرا عاديا ودارجا في الغرب، وأن هذا الأخير كان سباقا إلى نقد
الحداثة، ويقدم دوما بشكل قبلي وجاهز كتاب
"نقد الحداثة"
لعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر آلان توران
A.Touraine
كنموذج لك.والحق أن كلمة
نقد
Critique
في اللغات
الأوروبية التي نترجمها بكلمة نقد لا تعني النقض والتجريح والتعيير والقدح كما
توحي لنا بذلك كلمة نقد العربية.
فكلمة
Critique
تعني التحليل
وبيان الحدود كما يدل على ذلك المعنى الذي استعمله كنط في كتبه النقدية الثلاثة:
نقد العقل
النظري ونقد العقل العملي ونقد الحكم الجمالي.
فالنقد هو ابن العقل وأداته الأساسية
وعصر العقل هو عصر النقد أي عصر التحليل.
والنقد هو العملة الأساسية لعصر
الأنوار لأنه الأداة الأساسية في مناهضة الأحكام المسبقة والآراء الجاهزة
والتقليد المتكرس.
عصر الأنوار
هو عصر النقد أي عصر إعمال العقل في كل شيء بما في ذلك المقدس والميتافيزيقي.
فنقد الحداثة
في الغرب لا يعني تجريحها وإطراحها بل تحليلها وبيان حدودها الإيجابية والسلبية.
2-
نحن في العربية عندما ترجمنا
Postmodernité
بما بعد
الحداثة لم ننتبه إلى المدلول الخاص لكلمة مابعد
(وخاصة عندما ينطق بكلمة ما نطقا مطولا
يركز على المد وتطويل لحظة النطق بالألف الواردة بعد الميم)
فيتولد لدى
الكاتب والناطق وهم الانفصال الابتعاد
(ما-بعد).
لذلك أنا
أعتبر المقابل العربي الشائع ما-بعد الحداثة مقابلا مضللا وغير دقيق.
والأولى هو
استعمال مصطلح الحداثة البعدية الذي يعبر بدقة أكبر عن المصطلح الغربي وعن
المضمون الفكري الذي يحمله.
3-
يبين الفلاسفة والسوسيولوجيون الغربيون أن مصطلح مابعد الحداثة لا
يشير إلى مرحلة بل إلى تحول فكري في فهم تطور الحداثة.
فهو مصطلح يدل
على لحظة ثانية ضمن الحداثة:
لحظة حداثة أعمق بمعنى تخلي الحداثة عن
أساطيرها الكبرى
(أساطير هنا بمعنى حكايات)
المتمثلة في
العقل
(العقلانية
الصارمة)
والنزعة
الإرادية أو النزعة الإنسانية
(لا بالمعنى الأخلاقي)، والتقدم الخطي التصاعدي المطرد،
وتحقق مُثُل الوفرة والخير والعدل والمساواة...
التي ألصقت
بالحداثة الظافرة
(victorieuse)
في انطلاقتها الحماسية الأولى.
فمابعد
الحداثة هو مراجعة لمطلقات الحداثة ولأوهامها عن ذاتها ولإيديولوجيتها الذاتية
ولوعودها الثرة، وبالتالي تنسيب لها وليست تخليا عنها وتفريطا في مثلها الكبرى.
لهذه الأسباب صرت أفضل استعمال مصطلح الحداثة البعدية بدل مصطلح
مابعد الحداثة لأن الأول يفي بالمعاني المذكورة أعلاه في حين أن المصطلح الثاني
يحمل إشارات مضلِّلة.
-في الكتاب نفسه ذكرت أنه وعندما
"تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية، فإنها تولد تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية
ومعرفية، وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني" لكن الحداثة الغربية
عاشت هذا المخاض واصطدمت بمنظومات تقليدية، هل عاشت أوروبا حالة فصام وجداني
وتمزقات؟
- اصطدام التقليد بالحداثة هو أشبه ما يكون باصطدام كوكبين
اصطداما انفجاريا لأن التقليد كون والحداثة كون آخر أو كيان آخر. إنه اصطدام في
غاية العنف لكنه بطيء وعميق المفعول.
هذا الاصطدام الانفجاري الهائل هو الذي
نشهد منذ القرن الثامن عشر الميلادي نتائجه المهولة على اقتصاديات وسياسات
وثقافات وتقنيات البلدان المتأخرة تاريخيا، حيث تحدث تخرمات وتشوهات وتداخلات
عنيفة وتفاعلات رمزية استعارية على كافة المستويات.
أنا مدين في إبراز ذلك
-خاصة على المستوى النفسي والثقافي- للفيلسوف الإيراني داريوش شيغان في معظم
كتاباته وبخاصة في كتابيه "ما هي الثورة الدينية" حيث يبين استحالة قيام ثورة
دينية في عالم الحداثة، وكتاب "النظرة المبتورة: في السكيز وفرينيا الثقافية"
الذي يتضمن تحليلا لمظاهر الفُصام الثقافي.
إلا أني أطعمها بمنظور
أنتروبولوجي استلهمته من الأنتروبولوجي الفرنسي جورج بالاندييه (G.Balandié) وهو ما
مكنني من بلورة فكرة "العلاقة الاستعارية" بين التقليد والحداثة. وهذه الفكرة
تخرج بنا من دائرة الوصف السطحي للعلاقة بين الطرفين التي هي في المحطة الأخيرة
علاقة انضياف، إلى دائرة العلاقة الرمزية والاستدماجية. إذ تتلبس الحداثة
بالتقليد لكي تفرض ذاتها كما يتلبس التقليد بالحداثة حتى يستمر ويصمد. فالتحليل
المعمق لتفاعل وتداخل الحداثة والتقليد في المجتمعات العربية الإسلامية هو
تحليل لأشكال التضايف والتجاور الظاهرية لكنه أيضا تحليل لأشكال التفاعل
والتبادل والاستعارة المتبادلة.
وكما عاشت أوروبا في بدايات انطلاق الحداثة
صراعات دموية عنيفة وتمزقات اجتماعية وثقافية في حالة فصام وجداني وثقافي وهي
صراعات تغلبت فيها البورجوازية المستنيرة المتحررة من هيمنة الكنيسة والتي كانت
قادرة على تطوير ثقافة دنيوية عقلانية ونقدية، فإن المجتمعات والثقافة العربية
منذورة لأن تعيش حالات تمزق وفصام أقوى وأعمق بسبب عمق ورسوخ التقليد وهيمنة
التراث أو تصور ارتدادي للتراث على المجتمع والثقافة والفرد العربي والمخيال
العربي.
-كيف يمكن
للعالم العربي الذي يعيش وسط ترسانة من المنظومات التقليدية أن يتجنب المخاض
الخاطئ وبالتالي أن يحمي نفسه من الوصول لحالة الفصام؟
تكاد تكون حالات التمزق والفصام
والتوتر بين الحداثة والتقليد حتمية تقريبا.
فكلما كانت الحداثة قوية وعنيفة
ومداهِمة ومفكِّكة
(بكسر الكاف الأولى)، وكلما كان التقليد والتراث قويين
وراسخين في البنيات الاجتماعية
(القبلية
والقرابية)
وفي البنيات
الذهنية والثقافية وكذا في البنيات السياسية
(القائمة على نموذج نظام الطاعة الأبوي)...
أصبح الصدام العنيف واردا وحتميا لأن المسألة تصبح مسألة حياة أو
موت، أو كما يقال بالفرنسية صراع حتى الموت
(Une lutte ŕ mort).
وكأن الحداثة،
وبخاصة في عمقها الفكري، لا يمكن أن تحيا إلا على جثة التراث في حين أن هذا
الأخير لا يمكن أن يستمر في الحياة إلا بترويض وامتصاص قوة الحداثة.
لذلك يبدو أن تلافي الصدام أو ما أسميته في سؤالك بـ"تجنب المخاض
الخاطئ"
مسألة غير واردة، واحتمالية في أحسن الأحوال والتقديرات.
إذا نظرنا إلى هذه العلاقة من زاوية العلوم الاجتماعية والإنسانية
فإنها لن تكون حتما إلا علاقة توتر واصطدام وفُصام، وذلك من منظور قانون
الحتمية الاجتماعية
(ولو النسبية) (Déterminisme).
مقابل ذلك
-وهذا في تقديري منظور غير دقيق وغير
علمي بل هو مجرد تعبير عن أماني وأحلام-
يمكن أن نتطرق إلى هذه العلاقة وكأنها
مجرد علاقة إرادية تتوقف على التصور وعلى النية لا على الحتميات التاريخية
الموضوعية، وهو تصور مثالي.
لأنه يفترض أن الحداثة سيرورة إرادية
يمكن التحكم فيها وتوجيهها أخلاقيا.
ولعل ما يشهده العالم العربي والإسلامي منذ عقود على كافة
المستويات، مع انبعاث حركات الارتداد إلى
"الماضي المجيد"
و"الحنين إلى
الأصول"
التي أضفي عليها طابع الطهرية، هو تعبير عن هذه النزعة الإرادية في
نزع أشواك الحداثة وترويضها وتدجينها ورد كيدها إلى نحرها.
وهو بالتأكيد
رهان سيطول وستتولد عنه الكثير من المآسي.
إن الأثمنة التي يدفعها التاريخ باهظة ومأسوية في أغلب الأحيان لأن
التاريخ كثيرا ما تحركه الدماء والمآسي.
-طرح ما بعد
الحداثة في العالم العربي هل هو ترف فكري، بعض دعاة الحداثة الذين يعارضون ما
بعد الحداثة ويرون فيها دعوات تضاد الحداثة عتبوا على مركز الانماء القومي
قيامه بترجمات لميشيل فوكو وجيل دلوز وسبب العتب أن العالم العربي يجب أن يمر
بالحداثة، ثم يمر بـ"ما بعد
الحداثة"
هل يمكن أن يتم تصور هذا النمط من الانتقال في عصر متفجر في
مستجداته العلمية والفلسفية؟
نحن في العالم العربي نعيش خلطا بين العصور وخلطا بين البنيات
الفكرية.
هناك في كل
المجتمعات العربية قطاعات وفئات اجتماعية تعيش في حالة بدائية وأخرى تعيش في عز
البداوة، وأخرى تعيش في نظام إقطاعي بعاداته وطقوسه وبنياته، وأخرى تعيش بدايات
تغلغل النظام الرأسمالي، بينما تعيش فئات اجتماعية عليا عيشة حداثية كاملة على
مستوى العلاقات ونمط العيش.
هذا التجاور
بين البنيات الاجتماعية يخفي خلفه تداخل العصور، كما يضمر تداخلا بين بنيات
قيمية وثقافية وفكرية متباينة.
هذا التداخل الاجتماعي والتداخل
الثقافي والفكري يولد تشوشات ذهنية وتصنيفية مهولة.
وهذا التشوش يطال أيضا الثقافة العالمية والمشتغلين بالثقافة فتراهم
يتراكضون على آخر الصراعات الفكرية والثقافية.
ولعل أسبق
ميدان إلى هذا التسابق هو ميدان الآداب والنقد والإبداع لأن معظم المشتغلين
بهذا الحقل لا يولون أهمية كبرى لتثاقلات وتباطؤات التاريخ الحي، تاريخ البنيات
الاجتماعية والذهنية، حيث توجههم نزعة إرادوية خفية تجعلهم يتوهمون أن التاريخ
الثقافي مستقل عن التاريخ الاجتماعي، وأن التطور الثقافي مستقل عن تطور بنيات
المجتمع.
لذلك فنحن نعيش وتائر فكرية متباينة ومتباعدة أي مشطا ثقافيا وطيفا
فكريا يتدرج مما قبل التاريخ إلى مابعد الحداثة.
إن التركيز على الموضات الفكرية الجديدة واستعمالها واعتبار أن
الارتباط بالنظريات السابقة هو تعبير عن نوع من التخلف الفكري، هو أمر يعكس
محدودية الوعي التاريخي ويهمل خصوصية كل مرحلة.
أنا لا أذهب إلى اعتبار التهوس بالأفكار المنسوبة إلى مابعد الحداثة
أو إلى تلك المنضوية تحت لوائها ترفا فكريا، بل واجبا ثقافيا يجب الاضطلاع به
لأننا نشكو في مجال الثقافة من كثرة التكرار والاجترار والمدح الذاتي لثقافة
تعيش حالة نرجسية دفاعية ونفورا من الثقافة الأجنبية.
من المؤسف أن الخزانة العربية لا تضم المتون الكاملة لكبار الفلاسفة
منقولة إلى العربية بلغة دقيقة وواضحة.
نحن نفتقد
أعمال ومؤلفات الفلسفة اليونانية القديمة وفلسفة العصور الوسطى وفلسفات العصر
الحديث كما نفتقد المتون الكاملة لكبار فلاسفة العصر الحديث
(فتجنشتاين-هيدجر)
وإلى حد كبير
أعمال هوسرل وفوكو وديريدا ودولوز وريكور وغيرهم.
هذا واجب فكري
لا محيد عنه.
-ذكرت أن
الحداثة الأميركية تفتقر إلى الأرضية الصلبة التي شكلت رافعة وعتلة الحداثة
الأوروبية، هل يمكن قراءة الحداثة الأميركية بشكل منفصل عن الحداثة الأوروبية،
من جهة أخرى هل يمكن اعتبار احتضان أميركا هي أرض انطلاق
"ما بعد الحداثة"
وفق تعبير جاك
دريدا الذي قال مرة
"التفكيك هو أميركا"؟
-
الحداثة في
عمقها الفكري واحدة.
إلا أن تشكلها في هذا الفضاء التاريخي
أو ذاك يتوقف على الشروط التاريخية الخاصة بكل فضاء.
الفرق بين
"الحداثة الأوروبية"
و"الحداثة
الأميركية"
يتمثل في العناصر التالية.
1-
الحداثة الأوروبية هي الحداثة الأم، ففي أوروبا تبلورت هذه التجربة
الفريدة على مستوى تاريخ العالم، ثم بدأت تشع على بقية أنحاء المعمور إما عبر
الاستعمار أو عبر الرحلات والأسفار والتجارة ووسائل الاتصال...
هذا في حين أن
"الحداثة
الأميركية"
هي إلى حد ما بنت
"الحداثة الأوروبية"
وملحقتها
واستمرار لها بحكم أواصر القرابة المعروفة.
2-
يختلف النمطان في أن
"الحداثة
الأوروبية"
قامت على تجربة فريدة في العلاقة المتوترة مع الدين في حين أن أختها
الأميركية لم تعش التوتر الروحي نفسه.
تميزت الأنوار
الأوروبية بمحاولة الارتكاز كليا على العقل البشري وعلى التاريخ الإنساني في
فهم وتحليل كل الظواهر بما فيها المقدسات بعيدا من أي إيحاءات أو إلهامات من
خارج العقل والتاريخ.
هذا في حين
قامت التجربة الأميركية لا على القطيعة مع الدين والمتعالي بل على المصالحة
وإعطاء الدين
(أو
البروتستانتية)
بعدا آخر
بجانب البعد الميتافيزيقي وهو البعد الإيديولوجي الذي يحول الدين من علاقة
عمودية إلى علاقة أفقية حافزة على التطور.
3-
عاشت أوروبا حربين كبيرتين طاحنتين خلال القرن العشرين، وهو ما أنهك
قواها وأسهم في تباطؤ تطورها، في حين كانت أميركا باعتبارها
"عالما جديدا"
و"قارة جديدة"
أكثر اختفافا
وأكثر قدرة على التطور لأنها ليست مثقلة بأحمال التاريخ، ولا تجر وراءها أكياس
الرمال.
وقد فطن
الأميركيون إلى ذلك فتحدثوا عن
"أوروبا العجوز"
المتباطئة
التطور.
هناك خصوصية في الثقافة الأميركية، وهي قدرتها على نزع الأشواك ونقع
السموم.
ففرويد عندما حط رجله في أميركا قال إن
هؤلاء لا يعلمون أننا نحمل إليهم الطاعون ولكنه لم يكن يتصور القدرة الفائقة
للثقافة الأميركية على التطور والترويض.
فقد نزعت الثقافة الأميركية عن التحليل
النفسي طابعه الراديكالي ونزعت أشواكه وحولته
(عبر النزعة الثقافية
Culturalisme)
إلى علم نفس
سلوكي تكيفي.
وهذا يسري على
كيفية استقبال الكثير من النظريات الفلسفية
(الماركسية-التحليل
النفسي-الظاهراتية-النيتشوية-الهيدجرية-فلسفة ديريدا).
إن
للبراغماتية قدرة كبيرة على إذابة الأفكار وإعادة ترويضها وصياغتها وهو ما يشكل
نواة المقاومة في الفكر الأميركي.
-قمت مع عبد
السلام بنعبد العالي بإنجاز مشروع فلسفي هو الأبرز خلال الفترة الأخيرة، وربما
كنت أنت وإياه الآن محور نشاط مهم في العمل الفلسفي العربي وذلك بعد ركود بارز
تشهده الساحة الفلسفية لصالح الحركة السياسية والاجتماعية، وأعني به سلسلة
"دفاتر فلسفية"
كيف نبعت الفكرة؟ وهل تعملون على أقسامٍ أخرى؟ وهل لديك مع عبد
السلام بنعبد العالي مشاريع جديدة؟
-
أذكر أني ذات
صباح في ثمانينات القرن الماضي في كلية الآداب في الرباط اقترحت على زميلي
الأستاذ بنعبد العالي الشروع في إنجاز سلسلة من النصوص الفلسفية لمساعدة
الباحثين والطلبة في دراستهم.
وبدأ المشروع خطواته التي أنجزنا منها إلى حد الآن خمسة عشر جزءا
حول الموضوعات الفلسفية الآتية:
التفكير الفلسفي، الطبيعة والثقافة،
المعرفة العلمية، الحقيقة، اللغة، الحداثة، حقوق الإنسان، الإيديولوجيا، العقل
والعقلانية، العقلانية وانتقاداتها، الحداثة وانتقاداتها، نقد الحداثة من منظور
غربي، نقد الحداثة من منظور عربي إسلامي، تجديدات لمابعد الحداثة، فلسفة مابعد
الحداثة، تجليات وانتقادات لمابعد الحداثة.
وأنا الآن
-بالاشتراك مع أساتذة آخرين-
بصدد
الاستمرار في مثل هذا المشروع بصيغة أخرى حيث سنصدر سلسلة فلسفية أخرى تحت اسم
"موسوعة النصوص
الفلسفية"
ونبحث عن دار نشر بإمكانها توزيع السلسلة في المشرق العربي مما
سيعطيها إشعاعا أكبر.
-توجد حركة فلسفية في المغرب العربي
عامة، وهو نشاط مذهل، هل تربط بين حركة النقد العلمية في المغرب بمشروع النقد
الشرقي عامة والذي وجد ذروة نشاطه في حقبة طه حسين وسلامة موسى ومصطفى عبد
الرازق والجماعات الشعرية والأدبية في لبنان وسوريا، أم أن المغرب عاش "صدمته
الخاصة" التي نبعت من احتكاك له سلبياته مع أوروبا عبر الاستعمار مثلاً؟
- هناك بعض الفترات التاريخية التي
تتداخل فيها بشكل ملغز الحتميات التاريخية والنزعات الإرادية والطموحات
والصبوات الفردية.
من العسير الآن تشريح وفهم التجربة الثقافية المغربية في
تميزها. لكن المعطيات الاستشرافية الأولية يمكن أن تكون هي تفاعل نتائج التحديث
الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي نتج من الفترة الاستعمارية مع دينامية الحركة
الوطنية في مرحلة أولى ثم دينامية الحركة التقدمية في مرحلة ثانية خلال السنوات
الأولى من الاستقلال. وقد تمثلت هذه الطفرة كذلك في مجهود الدولة لتلبية طلب
المجتمع (الذي تبلور خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار) في تعميم التعليم ونشر
الجامعات في مختلف المناطق مما نتج منه إقامة بنية مؤسسية للثقافة والفكر.
وبجانب هذه المحددات والشروط التاريخية والموضوعية الخارجية دخلت النخب
الثقافية المغربية في سيرورة من التنافس والإنتاج، خاصة بعد الفرز السياسي الذي
حدث إثر استكفاء الدولة من الأطر واضطرار فئات واسعة للتفرغ للعمل الثقافي
والفكري رغم قسوة الظروف السياسية آنذاك والتي اصطلح عليها اسم "سنوات الجمر".
في المراحل السابقة وبخاصة خلال مرحلة الاستعمار كان المغاربة عالة على الثقافة
المشرقية، لكن ابتداء من الثمانينات -ومع تعميم الجامعات- انخرطت النخب
الثقافية في الإنتاج الفكري والثقافي ترجمة وتأليفا ضمن التقاليد المنهجية
المتوارثة عن المدرسة الفرنسية والمتأثرة بها وبخاصة في مجال الفلسفة والعلوم
الإنسانية.
المغرب الثقافي اليوم هو في طور التحول من الارتهان الكلي إلى
اللغة الفرنسية وإلى الثقافة الفرنسية نحو آفاق ثقافية عالمية أرحب.