يعيش انتعاشاً ملحوظاً ويتمتع بخصوصية في النظر والمقاربة
الفكر الفلسفي في المغرب.. تحوّلاته
ومآلاته |
| |
|
|||
|
|||
جريدة الاتحاد
سكينة اصنيب
تاريخ النشر: الخميس 17 أبريل 2014
عرف الفكر الفلسفي تطورا مهما في المغرب بفضل أسماء عديدة ساهمت في إثراء التأليف الفلسفي وانفتاح الثقافة المغربية على مدارس وتيارات فلسفية جديدة، مما ساعد على بناء حوار فلسفي حقيقي داخل الفكر المغربي. ويرى المتتبعون أن الفكر الفلسفي المغربي المعاصر يعتبر الأكثر تطوراً في العالم العربي في الربع الأخير من القرن الماضي، وأنه واصل تطوره مع بداية القرن الحالي بفعل تفاعل مؤثرات وعوامل وشروط ساهمت في إعطاء دفع قوي وعصرنة لهذا الفكر، ويؤكدون أن التراكم الفكري المتنوع والمتعدد الأبعاد والأهداف ضمن للفكر المغربي تطورات بنيوية ومنهجية وتحولات متسارعة ساهمت في إنتاج فكر فلسفي مغربي مستقل عن الفكر الفلسفي العربي الإسلامي والفكر الفلسفي الغربي.
يعود الفضل في انتعاش الفكر الفلسفي المغربي إلى الأدوار الريادية التي لعبها فكر عبدالله العروي وأعمال محمد عابد الجابري وأبحاث طه عبدالرحمن وغيرهم، فهؤلاء المفكرون الذين ناقشوا قضايا متعلقة بالتراث والتجديد والحداثة والتقليد والحرية والعقل العربي بعثوا روح التفاؤل وشجعوا الحراك الفكري في المنطقة، وساهموا بمؤلفاتهم في بلورة مشروع معاصر بوّأ الفكر الفلسفي المغربي مكانة رمزية قوية في الفكر العربي المعاصر.
غير أن البعض لا يزال يشكك في وجود فكر فلسفي معاصر في المغرب ويطالب بدراسة الإنتاج الفلسفي ومتابعة حركته وتقويمه لبلورة مخاضه ووجوده، وآخرون يعتبرون أنه من السابق لأوانه الحديث عن فكر فلسفي مغربي مستقل ومعاصر بل هي محاولات قائمة على اتباع الفكر الفلسفي العربي الإسلامي والفكر الفلسفي الغربي.
فما هي المشكلات التي تعترض سبيل بلورة وتطوير الفكر الفلسفي المغربي المعاصر؟ وهل هذا الفكر إبداع مستقل ومتكامل أم أنه اتباع للفكر الفلسفي العربي الإسلامي والفكر الغربي؟
خصوصية عربية
يرى المفكر المغربي الطيب بوعزة أن “ثمة تأثير لا ينكر للفكر الفلسفي الأوروبي في التفلسف المغربي، لكن إلى جانب ذلك ثمة أيضا عطاءات تبدت بخصوصيتها في النظر والمقاربة؛ فالنظر في النتاج المعرفي لكبار رموز الفكر المغربي الذين تأثروا بذلك الفكر يكشف أنهم أبانوا عن خصوصية في أقلمة مفاهيم الفلسفة الغربية، وإن بمقدار. فإذا كان العروي -مثلاً- استلهم الفلسفة والمنهج التاريخاني، وإذا كان الجابري استلهم المنهجية البنيوية، وإذا كان عبدالكبير الخطيبي انفتح على التيار ما بعد الحداثي واستلهم النموذج التفكيكي من جاك دريدا...، واستعمله في قراءة الواقع السوسيولوجي والأنثروبولوجي... فإن هؤلاء لم يكونوا مجرد ناقلين للمنظومات المنهجية، بل الحقيقة أنهم حاولوا الاستفادة منها لقراءة خصوصية الفكر والواقع العربيين”.
ويضيف: “كما أن ثمة نماذج فلسفية أخرى كانت أكثر من هؤلاء استحضارا للخصوصية الثقافية العربية والمغربية، وأخص بالذكر الفيلسوفين محمد عزيز الحبابي الذي منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، أي منذ كتابه (من الكائن إلى الشخص) كان واعيا بأهمية مقولة الحرية، فقصد تأسيس مذهب فلسفي جديد سماه (الشخصانية الواقعية)، ثم طوره في بداية الستينيات إلى (الشخصانية الإسلامية)، معبرا بذلك عن ضرورة الاستقلال الفكري مع الانفتاح على الفكر العالمي. كما أن الفيلسوف طه عبدالرحمن كان منذ بداية إصداراته متميزا في الموقف الفكري، وهو التميز الذي يبدو اليوم في أعماله واضحا، حاملا قصدية صريحة لتأسيس موقف فكري أصيل من خلال توكيده الدائم على مسألة (المجال التداولي)”.
عوامل وتحولات
يرى المتتبعون لتطورات الفكر الفلسفي المغربي أن حقبة ما بعد الاستعمار قد ساهمت في بناء فكر فلسفي مستقل بعد أن فتحت المدرسة العصرية أبوابها على جل الفئات الاجتماعية وساهمت في تدريس ثقافات جديدة واهتمت بالفلسفة والفكر الإسلامي. ولأن الفلسفة تحتاج إلى وسط مستقر يساعد الفلاسفة على التأمل فقد ساهم استقرار المغرب في ازدهار الثقافة الفلسفية وبناء فكر فلسفي له مكوناته الذاتية وخصوصياته التي تميزه عن الخطاب الفلسفي الشرقي وعن الخطاب الفلسفي الغربي.
ومنذ البدايات الأولى للتأليف الفلسفي في المغرب بدا واضحا أن المفكرين حاولوا هضم التيارات والاتجاهات الغربية والشرقية لإيجاد حوار موضوعي إيجابي ومتوازن بينها يساهم في تأسيس فكر فلسفي مغربي. ويجد المتتبع للتحولات التي عرفها الإنتاج الفلسفي في المغرب أن هناك تباينا في الاتجاهات التي اختار الفلاسفة المعاصرون الانطلاق منها لطرح تساؤلات ومناقشات مختلفة، ولعل هذا هو ما ساهم في وجود رصيد لا بأس به من النصوص والأسئلة والمواقف، وابتعاد الفكر الفلسفي المغربي عن “المماثلة” و”المطابقة” التي وقعت ضحيتها فلسفات أخرى، وهذا هو ما منح الفكر المغربي هويته الخاصة المنفتحة على الثقافات الأخرى والمتفاعلة معها بصورة نقدية.
ويقول المفكر المغربي يوسف بن عدي: “الفكر لا ينشأ من فراغ بل هو متكئ على تراث تاريخي حضاري فكري مختلف من المطلوب قراءته وتفسيره بلْ قلْ تأويله وفق الشروط الملائمة للقارئ أو المؤول. وأكيد أن هذا التراث لا يسلم أيضا من التباس واستشكال حتى يضحى الأمر في تحديد التراث كمفهوم موضوع النظر الفلسفي. ولطالما اختلف فيه المختلفون اختلافا مذهبيا وأيديولوجيا. وهذه قضية محركها الأول بلغة “أرسطو”، هو تداخل التاريخي مع الفكري، والديني مع السياسي، والاجتماعي مع الأيديولوجي... وهكذا. يلزم من هذا أن الفكر أياً كان، لابد له من أن يكون قد حسم اختياره المفاهيمي والنقدي والمعرفي كخلفية في قراءة هذا التراث التاريخي الضخم. وهذه هي الصعوبة المعرفية التي تتحصل في أن المفكر أو المتفلسف عليه أن يحدد وجهته الفلسفية أولا، والأيديولوجيا ما دامت الأيديولوجيا أو (الفكرولوجيا)، حسب كلام الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، مغروسة ومبثوثة في بنيات المجتمع وفكره”.
ويضيف: “من هنا، كيف نقيم الفكر الفلسفي في المغرب على وجه التحديد والتخصيص؟ هو سؤال إشكالي لتلك الأسباب المومأ إليها. لكن يمكن أن نحصر بعض السمات في أن الفكر الفلسفي المغربي قد شغله، حسب اعتقادي، إشكال الموقف من الفلسفة الإسلامية أو بالأحرى من التراث الفلسفي وموقفه من الغرب أو الحداثة. وهو انشغال فتح بابه ورفع لواءه المغربي محمد عزيز الحبابي الذي رتق الفكر بتاريخه وماضيه بعدما أصابه الانقطاع من بعد ابن رشد رغم أن الفلسفة استمرت في أقنعة مختلفة في الاصول والكلام والمنطق، حتى قال المفكر المغربي محمد المصباحي بعد ابن رشد يأتي الحبابي وهو أمر من باب عرفان الرجل بالحبابي ومنتوجه الفكري. ويتحصل عن هذا، أن استئناف الفكر الفلسفي في المغرب قد كان من خلال إعادة النظر في إشكالية التراث والحداثة وكيفية تلقيها وتقبلها على خلاف الممارسات الفلسفية الأخرى المألوفة والسائدة التي طغى فيها النزوع إلى المؤدلج والسياسوي أكثر منه الفلسفي والنظري الأكاديمي. وأكيد أن ربط هذه الرؤية بسياقها له مبرراته الذاتية والموضوعية”.
عقلانية ومسايرة
يعتبر بن عدي أن الفكر الفلسفي المغربي صار مع محمد عزيز الحبابي أكثر عقلانية وأكثر مسايرة للواقع التاريخي العربي والعالمي والشاهد على ذلك هو قدرة الرجل على إبداع مذهب الشخصانية الإسلامية والواقعية وفلسفة الغدوية التي تنظر في مستقبل الإنسان والعالم الثالثي على حد تعبيره. واستمرت هذه العقلانية مع كل من محمد عابد الجابري في قراءته للتراث والحداثة بعقل ناقد لا بعقل يستهلك فقط.. ومع عبدالله العروي في تاريخانية صارمة لا تجعل للتراث منزلة أو حظوة إلا القطيعة معه أنطولوجيا ومنهجيا.. أما طه عبدالرحمن فقد سارع إلى مجادلة هؤلاء ومنازعتهم لوقوعهم بالجملة في التقليد مفهوما وفهما وإفهاما حتى تحول المشروع إلى مشروع مناهضة التقليد والعمى الفلسفي.
ويؤكد أن الفكر الفلسفي في المغرب اليوم قد أضحى أكثر انتعاشا، لأنه أصبح يؤمن بالدراسات العلمية المتخصصة بدلا من بناء مشاريع فكرية التي وإن كان إيجابياتها إلا أن لها سلبيات كثيرة. وبدراسة المنطق لم يعد الأمر يقتصر على رؤية بانورامية بل صار هناك مختصون في منطق الجهات، وآخرون لهم دراية عالية في منطق الحجاج.. وهكذا الأمر في الفلسفة الإسلامية صار مختصون في ابن رشد ولعل أبرزهم في المغرب والعالم العربي المفكر محمد المصباحي والفقيد محمد الوراد المولع والعاشق لابن باجه، ومختصون في ابن البناء المراكشي وهايدغر وهوسرل وابو حيان التوحيدي وبابن عربي.
ويشير الباحث إلى أن هذه الدراسات والاختصاصات “صارت هي قوة الفكر الفلسفي المغربي، من هنا كانت قيم الممارسة الفلسفية ممارسة تؤمن بالاختلاف الفكري وتؤسس لعقلانيات لا عقلانية واحدة، بل تفسح المجال إلى تقريب دراسة الإنسان في علاقته بالكون مع ابن عربي وابن سبعين وأهل العرفان.. فكان فكرا متنوع التضاريس على حد قول دولوز. ومن ثمّ، بإمكان الفكر الفلسفي المغربي أن يرفع إلى مستوى روح التفلسف عند فلاسفة الإسلام ويجاري قوة تجريح الغرب في الدقة والدربة على صناعة المفاهيم والأسماء والدلالات”.
قراءات متغايرة
وعن كيفية استفادة الفكر الفلسفي المعاصر في المغرب من الفكر العربي الإسلامي، يقول الباحث: “لعل قراءة الفكر الفلسفي المغربي للإنتاج التراثي الفلسفي والمنطقي والكلامي كانت قراءة جادة في طرحها للاستشكالات وصياغتها للاستدلالات عليها... وهنا أسوق بعض النماذج المغربية ورؤيتها؛ فمثلاً قراءة محمد المصباحي لابن رشد قراءة تستند إلى النظر الدلالي والإشكالي وهو خيار يختلف عن الكثير من الخيارات التي ركزت بقوة على صراع الفكر العقلاني مع الفكر الديني، بينما نجد نفراً من الباحثين انتخب النظر في نصوص ابن رشد من حيث إنها تعبر عن إقامة الفيصل بين نسق الدين ونسق الفلسفة، وهذا في نظرهم تبشير بالعلمنة وفصل الديني عن السياسي وعن الفلسفي. لكن محمد المصباحي ارتأى أن ينظر في ابن رشد ذلك الفيلسوف العاشق للحق والحقيقة والباحث عن معنى الإنسان وعلاقته بالكون وهو القفل والمفتاح.. إنها نظرة تجعل النص الرشدي معبرا رؤيوياً للعالم والوجود والكينونة بلغة مارتن هايدغر. ورغم عشقه لابن رشد وتماهيه معه، فإن محمد المصباحي لم يتوان عن انتقاد ابن رشد في الكثير من القضايا والمسائل الفكرية. أما قراءة الحبابي للفارابي فقد كانت قراءة شخصانية ترنو إلى إبراز قوته في التشخص مع عصره وأفقه التاريخي. حتى اعتبر الحبابي أن الفارابي كان يحمل نزعة إنسانية أخلاقية تطمح وتطمع في مجتمع مدني مثالي. ولعل هذين النموذجين آية على استفادتهما من قراءة الفكر الفلسفي العربي الإسلامي بل ومحاورته وانتقاده وبيان حدود مقاله”.
بشائر الخير الفلسفي
وعن المشاكل التي تعترض سبيل بلورة وتطوير الفكر الفلسفي المغربي المعاصر يقول الباحث: “لا يخلو أي فكر من نهضة ثم ارتداد وطفرة ثم تراجع وكأنه دورة خلدونية تنتقل من السياسة وأمور الدولة إلى الفكر ومداراته... إن الممارسة الفلسفية شهدت وما زالت تشهد، اليوم، انتعاشا وحيوية وتأليفا هي من بشائر الخير الفلسفي إلا أن للتطور مراتب وأنحاء بلغة أرسطو. فالتطور الحاصل ليس هو المبتغى والبغية بل إن من هواجس أي فكر أن يدرك الكلي والماهوي والجوهري والمحايث والتجريبي والفردي والجماعي والأخلاقي والاجتماعي.. بيد أن إمعان الفكر في خانة من هذه الخانات أو المجالات يدفعه إلى الانغلاق والتقوقع بفعل قصور في أدوات النظر أو مبالغة في التجريبي المفهومي او التأويل غير المشروط حتى صار بعض الباحثين يحدثون الطلاب والناس عن (كانطية) أرسطو و(نيتشوية) ابن مسكويه و(هايدغرية) ابن عربي.. إذ إني لست ضد هذه القراءات، ولا معترضا على تشغيل الشبكة التأويلية وتسليطها على النصوص التراثية العربية. وإنما أنا ضد الأيديولوجي السافر والذي يلوي عنق النص من أجل الافتئات عليه وترسيخ وعي تضليلي لا طائل من ورائه. فالأمر يستلزم الوعي بالتاريخي وشروطه الأنطولوجية أي كيان الفكر وهيكله العظمي... هل هذا يمنعنا من استثمار المفهوم وتوظيفه هنا ننتقل إلى مستوى آخر من النظر، وهو النظر في المفهوم الفلسفي وهو جزء من الفلسفة. فالمفهوم ينبغي إفراغه من دلالته وحمولته الأنطولوجية والمعرفية وتحويله إلى دلالة أخرى، ومعنى آخر، حتى يفي بالغرض المطلوب. وأكيد أن الجابري قد أبدع أيما إبداع في هذا الصدد. من هنا كان كلام المفكر محمد الشيخ صائباً حينما قال إن الفكر الفلسفي في المغربي يعاني من استمرارية في التفكير مع الجابري أو التفكير فيما فكر فيه العروي.. وربما يعود الأمر إلى الخلط عندنا ما بين الأيديولوجي (السّياسَوي) والفلسفي والفكري في مشروعي الرجلين. والمرمى هو تطوير أدوات قراءتهما للتراث والحداثة. فضلا عن أن الغاية القصوى على كلام القدماء هي الانفلات من الجدل الأيديولوجي والمذهبي والانصراف والانقطاع إلى الجدل الفكري والعلمي”.