إذا ما نظرنا في قائمة المفكرين العرب المعاصرين، ممن نعدهم في زمرة الفلاسفة، فنحن نجد أن كيفيات انتسابهم إلى الفلسفة تختلف اختلافا بينا، بين من يصح القول فيهم إنهم «فلاسفة محض» وبين من يجمل نعتهم بالمتفلسفة. فأما الأوائل فهم، كما ذكرنا، بحكم التكوين الجامعي الذي تلقوه، وهم، على وجه الخصوص كذلك، بالنظر إلى طبيعة النصوص التي كتبوا ولربما أيضا، في أحايين قليلة، بما قاموا به من ترجمات ورافقوا تلك الترجمات (أو صدروها) بشروح وتعليقات، يعدون من المنتسبين حقا إلى التقليد الفلسفي. وأما الآخرون (من نعدهم متفلسفة) فهم ينتسبون، بحكم الاختصاص والشهادة الجامعية المتحصل عليها، إلى حقول معرفية مختلفة. تصدق الصفة الأولى على أشخاص أمثال زكي نجيب محمود، عبد الرحمن بدوي، عثمان أمين، محمد عزيز الحبابي، روني حبشة... وهذه الأسماء على سبيل التمثيل لا الحصر. أما الصفة الثانية فهي تصدق على آخرين ينتسبون إلى الفكر الفلسفي وإن لم يكونوا كذلك بحكم المهنة التي ينتسبون إليها والقطاع المهني التخصصي الذين ينتمون إليه. ربما كان عبد الله العروي، عند الجمهرة العريضة من المثقفين العرب، منتسبا إلى الفلسفة بالنظر إلى العدد من كتاباته. ذلك أن المفكر المغربي المرموق قد ألف كتبا تعالج مفاهيم فلسفية كلاسيكية أو مفاهيم تتصل بالفلسفة أكثر من اتصالها بمجال آخر من مجالات الفكر (الحرية، الدولة، الآيديولوجية، العقل..) غير أن العروي، بحكم الاختصاص الأكاديمي وبالنظر إلى الشعبة (القسم) الذي درس فيه ردحا من الزمان وكذا الرسائل الجامعية التي أشرف عليها، هو مؤرخ. مؤرخ نابه له في الدرس التاريخي في المغرب مكانة عالية. والشأن نفسه بالنسبة للأستاذ هشام جعيط، بيد أن المفكر التونسي الذائع الصيت، وإن كان العديد من مؤلفاته ينسبه إلى الفلسفة درسا وطريقة في النظر، هو أولا وأساسا مؤرخ له القدح المعلى في التأريخ لوقائع عظمى في تاريخنا العربي الإسلامي (ميلاد الكوفة، الفتنة الكبرى، السيرة النبوية... ). نذكر، أخيرا، مثال المفكر المغربي ذي الكتابات الواسعة الانتشار في حياتنا الثقافية المعاصرة وهو عبد الكبير الخطيبي. ذلك أن صاحب «النقد المزدوج» يعد من الفلاسفة عند الكثيرين، في حين أن اختصاصه الدقيق من جهة وعمله مديرا لمعهد علم الاجتماع سنوات... كل هذا يجعله في عداد علماء الاجتماع. ربما كان هذا النوع من الازدواجية في التصنيف أمرا مقصورا على الفكر العربي المعاصر وربما كان مما يشترك فيه هذا الفكر مع غيره. ليست القضية مما يعنينا في حديثنا اليوم - غير أننا نرى من الفائدة تسجيل ما ذكرنا ملاحظة تستوجب الانتباه.
ملاحظة ثانية تنقلنا إلى صميم القول في الإنتاج الفلسفي العربي المعاصر وتتصل بالفلاسفة العرب المعاصرين «المحض». كل من ذكرنا من الأشخاص نجد ارتباط أسمائهم بمذهب معلوم من المذاهب الفلسفية المعاصرة التي نشأت في الغرب الأوروبي. كذلك نجد ارتباط اسم عبد الرحمن بدوي بالوجودية، وزكي نجيب محمود بالوضعية المنطقية، وكل من روني حبشة ومحمد عزيز الحبابي بالشخصانية، وغيرهم ممن لم نذكر بفلسفة أخرى. كل من الفلاسفة العرب المذكورين حاول أن يحد للمذهب الذي اختاره وطنا فكريا، حاول أن يجد له إرهاصات في الفكر العربي الإسلامي. كذلك فعل بدوي في كتابه «شخصيات قلقة في الإسلام» (والقلق، كما نعلم هو السمة المميزة للفلسفات الوجودية) وذلك ما حاوله، بكيفية مغايرة ولكن المعنى واحد، عزيز الحبابي في كتابه «الشخصانية الإسلامية» - وعنوان الكتاب يشي بما كان صاحبه يطمح إليه.
تنقلنا هذه الملاحظة الثانية إلى ملاحظة أكثر دلالة على الفكر الفلسفي العربي المعاصر. الملاحظة، في إجمالها وفي عبارة واضحة، هي أنه لا أحد ممن ذكرنا من فلاسفتنا العرب المعاصرين قد أفلح في وضع اللبنات والأسس لمدرسة فلسفية عربية تنتمي إلى المذهب الذي كان الفيلسوف العربي متحمسا له الحماس كله أو لنقل، من باب الإنصاف، إنه كان كذلك في مرحلة من حياته. نقول، في عبارة أخرى، إن المذهب الفلسفي العربي المعاصر قد انتهى بموت صاحبه فلم يكن له أتباع. ربما كان القول قارصا ولكن الواقع أنه قول صادق. ما السبب أو الأسباب في ذلك؟
ربما كانت الصدفة المحض أحد العوامل التي تفسر هذا الواقع. ذلك أن طالب الفلسفة الذي ارتحل إلى بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا ربما كان قد انفعل مع ما وجده رائجا من فكر أو مذهب بين الحربين العظميين أو بعد الثانية أو ربما كان الأمر راجعا إلى نوع من التعاطف حصل بينه وبين أستاذ من الأساتذة. كان المرحوم محمد عزيز الحبابي، وقد كنت من طلبته، يحدثنا عن الأجواء الباريسية عقب الحرب العالمية الثانية وعن أشكال من التنافر والتعاطف كانت تحصل بين الطلبة العرب وبين بعض أساتذة الجامعة الفرنسية وكذا عن دواعي التنافر التي كانت تصرفهم عن البعض الآخر. وإذ كان الحبابي، وقتها، أحد شباب الحركة الوطنية المغربية وكان من الفيلسوف الفرنسي، صاحب المذهب الشخصاني، تعاطف مع حركات التحرر الوطني في شمال أفريقيا، فإن انجذابا واستهواء حصل للطالب من الأستاذ ومن المذهب الذي يبشر به. ربما كان الأمر متصلا بعوامل سيكولوجية أخرى لها أثرها في الاختيارات. كان طلبتنا العرب، في الفترة التي نشير إليها، أشبه بشخص ذهب للتبضع في متجر كبير وكانت الصدفة وكذا عوامل الإعلان والدعاية التجارية هي التي كانت تحسم في الاختيار. على كل لا مندوحة من الاعتراف بواقعين اثنين. أولهما أن أغلب التيارات التي انفعل بها الطلبة الذين سيصبحون دعاة مذاهب فلسفية في البلاد العربية كانت هي السائدة في أوروبا في الفترة التي سبقت الحرب الكونية الأولى وامتدت على السنوات القليلة اللاحقة على انقضائها. وثانيهما أن الكثير من تلك التيارات ليس مما له في الفكر الفلسفي أثر كبير (ذاك هو الشأن، على سبيل المثال، بالنسبة لكل من الشخصانية والوجوديات). وإذن فإن فلاسفتنا العرب المعاصرين صرفوا جهودا كبيرة فيما سيبدو أنه ليس من ورائه طائل أو قل إنه مما لم يكن يستحق كل الجهد الذي صرف فيه، يمكن القول إذن إن واقع الكتابة الفلسفية العربية عند الفلاسفة العرب المعاصرين، بشهادة ما ذكرنا من أمثلة، يكشف عن فشل بين في استنبات مذاهب فلسفية نشأت في تربة أوروبية، تتصل بواقع أوروبا الغربية في الأزمنة الواقعة بين الحربين العظميين وإلى خمسينات القرن الماضي.
نحن نصير إلى نتيجة أخرى: ليس من الغريب، والحال كذلك، أن يكون أثر فلسفات الفلاسفة المعاصرين العرب أثرا قليلا، لا بل إنه لا يكاد يذكر. قد نجد لحكمنا هذا ما يعضده بالتنبيه إلى واقع آخر: إن كثيرا ممن ذكرنا من الفلاسفة المعاصرين العرب قد انصرف هو ذاته عن استمرار الدعوة إلى الفلسفة التي كان يقول بها في بداية عمره الفلسفي، بل إنه تحول عنها تحولا يكاد يكون كليا.
لسنا نريد أن ننهي حديثنا هذا بانطباع سلبي عن الفكر الفلسفي العربي المعاصر، ذلك أن واقع الفكر العربي المعاصر، في قراءة مختلفة، يكذبنا. نقول، في حكم يظل في حاجة إلى توضيح وتبرير (ونحن أشد ما نكون وعيا بذلك): الفلسفة، في الفكر العربي المعاصر، استطاعت أن تجد متنفسا في مجالات لا تتعلق بالتقليد الفلسفي بسبب مباشر، بما اعتدنا على اعتباره فلسفة، بل هي تجد حياة وتربة ملائمة في درس النقد الأدبي، من جهة أولى، وفي الدرس التاريخي، أحيانا، من جهة أخرى وفي قراءة (أو بالأحرى إعادة قراءة) التراث الفكري العربي الإسلامي.