منذ أواسط القرن التاسع أخذ العرب يشعرون بأنّ شيئا جللاً قد وقع في أفق أنفسهم لم يعد يمكن فهمه بالاعتماد على أيّ معجم من معاجم أنفسهم القديمة. لقد تعطّل نحوُهم وضعف بيانهم وتخشّبت حكمتهم وشحبت ديانتهم وبدا وجودُهم التاريخي متاهةً مخيفة في صحراء من نوع آخر تماما،- إنّها “الأزمنة الحديثة” وقد حلّت من دون سابق إنذار مناسب ولا أيّ شكل من الاعتراف اللائق بشرعية الحضارة التي يحملونها وبنوا على أساسها رؤيتهم للعالم.
ثمّة واقعة تاريخية وروحية زلزلت كيانهم الذاتي وصار عليهم مواجهتها. إنّها الحداثة وقد أخذت لبوس دخيل لغوي ووافد ثقافي وأجنبيّ سياسي لا مرد له. كان الاستعمار الغربي قد صار أمرا واقعا، مادّيا في بعض البلدان ومعنويا في سائرها. شبح كبير أخذ يمدّ بظلاله على وجودهم السياسي، ويهدّد بإدراجهم في تركة الرجل المريض، وبالبدء في ابتلاع ذواتهم الجديدة وتحويلها إلى فتات أخلاقي وهامش إنساني للرجل الأوروبي المدجّج بعصر التقنية كموقف علمي غير مسبوق من الطبيعة ورؤية وضعانيّة لتاريخ الإنسانية.
لنقل: لأوّل مرة أخذ العرب “يفكّرون”، نعني كما قال هيغل ذات نصّ، “يدركون عصرهم في الفكر”. بلا ريب كانت هذا “المعاصرة” محنة حقيقية، وكانت مختلفة طبعا عن معنى “الحداثة” : أن تكون معاصرا لا يعني بالضرورة أن تكون حديثا. إنّ الحداثة موقف موجب، لا يقفه إلاّ شعب تاريخي، شارك في صياغة أو إنجاز واحدة من الثورات العلمية أو الميتافيزيقية أو السياسية التي قامت بها الإنسانية الأوروبية ما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر. لكنّ العرب كانوا معاصرين فقط، أو في واقع الأمر كان محكوما عليهم بمعاصرة بلا حداثة: أن يكونوا ملقى بهم في هذا العصر، من دون انتماء داخلي وعضوي إليه، وذلك أنّهم كانوا عندئذ يحملون وعيا آخر بالزمن ويسلكون طرقا أخرى إزاء الطبيعة وإزاء الإنسان. ربما كانوا المجتمع الوحيد الذي ظل محتفظا بقرونه الوسطى إلى هذا الوقت، أي إلى حدود القرن التاسع عشر. ومن ثمّة هو الشعب الوحيد الذي وجد نفسه مدعوّا إلى الانتقال القسري وغير اللائق وغير الموافق لعصره الداخلي أو الخاص، من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، وقد تحوّل هذا العصر في الأثناء إلى مصير كبير للنوع البشري. كيف واجه العرب هذا العنف التأويلي على أنفسهم الجديدة ؟ ما هي طبيعة المشاكل التي طرحوها باعتبارها كفيلة بإنقاذهم من المصير الذي يتهددهم ؟ هل طوّروا أدوات تفكير غير مسبوقة بالنسبة إلى نظام الخطاب القديم لعلومهم ؟ ما هي الأطوار الكبرى لهذه المسيرة الروحية التي فُرضت عليهم ؟ وهل ثمّة مكاسب نهائية في وعيهم بأنفسهم الجديدة ؟ وما نوعها ؟ ألم يبدؤوا بعد في إنتاج حداثتهم الخاصة ؟ وكيف يجدر بنا أن نقيّم ما يقع اليوم من مظاهر عودة الدين إلى لعب أدوار بنيوية في تصوّر العرب لمستقبلهم الذي بات مرتبطا ارتباطا مباشرا غير مسبوق بمدى قدرتهم على إرساء مجتمعات المواطنة ومن ثمّ النجاح آخر الأمر في دمقرطة الدولة، كآخر عنوان على استقلالهم “الحديث” الذي طال انتظاره ؟
علينا الإقرار بأنّ العرب لم يتيهوا عن الأسئلة المناسبة التي كانوا مدعوين إلى طرحها: “لماذا تقدّم الأوروبيون وتأخرنا نحن ؟”. فعلا، إنّ المنجز الأكبر للإنسان الأوروبي هو إدخال تغيير جديد على وتيرة التاريخ: إنّه الوعي بالتقدّم. بيد أنّه من المفيد أن نذكّر بأنّ فكرة التقدّم هي اختراع حديث له تاريخ خاص مرّ بمراحل عدة : من تقدّم علمي وتقني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى تقدّم أخلاقي في القرن الثامن عشر (كعنوان للأنوار والثورة الفرنسية) إلى تقدّم تاريخي للنوع البشري في القرن التاسع عشر.- بيد أنّه إنّما في القرن التاسع عشر بالتحديد قد التقى العرب المعاصرون بمشكل التقدّم، وبالتالي هم قد فهموه في سياق خاص جدّا هو سياق فلسفة التاريخ الغربية التي أخذت تفرض تحقيبها الخاص للعصور الإنسانية. وإنّه في ضوء فلسفة التاريخ تلك وجد العرب أنفسهم كائنات تجلس خارج التاريخ الحديث، ومن ثمّ أنّ عليهم أن يلتحقوا بالركب الغربي بشكل أو بآخر.
الدين ارتدّ بقوة مستعملا السرديات الشخصية المؤلمة للمساجين الإسلاميين الذين أطلقتهم الثورات العربية من محابسهم، وحوّلها إلى أسباب مثيرة للنجاح الانتخابي واعتلاء منصات الحكم
يحرص بعض المؤرخين على إقامة فاصل كبير بين دعاة الإصلاح ومفكّري عصر النهضة؛ هذا شقّ ذو مصادر إسلامية، وهذا شقّ تحديثي وذو نزعة علمانية. بيد أنّه آن الأوان لتفحّص وثائق هذه الفترة باعتبارها ورشة واحدة تعمل في معجمين متنافسين، إلاّ أنّهما ينتميان إلى نفس الصعوبة ويطرحان نفس المشكل، وحتى على مستوى الحلول، كانا يعتمدان نفس الخطط. كان الطرفان يحاولان العثور على شفاء للتخلف التاريخي يكون كفيلا بإعادة برمجة الوعي الذاتي بالزمن وبلورة مشروع جديد لأنفسنا الجديدة. إنّ العنوان العام هو تدبير الذات في عصر الآخر، الآخر الذي كان من قبل آخر لاهوتيا وصار عندئذ آخر حضاريا. كان الخصام بين الإسلام والعلمانية واضحا في كتابات ذلك الجيل، وإلى اليوم. لكنّ المؤرخين يعرفون أنّ الفرق بين الإصلاحيين والنهضويين ليس فارقا جوهريا، كما بين دعاة التقدّم وبين المدافعين عن العصور الوسطى، بل هو فقط فرق في التاريخية وفي اللعبة اللغوية المعتمدة: يقع الإسلام والحداثة على طريق واحد، هو طريق فكرة الحرية في أفق الإنسانية الحالية. ليس للتاريخ الإنساني من برنامج آخر سوى الحرية، وما عدا ذلك هو سرديات كبرى لها. هكذا ينبغي أن نقرأ التوحيد الإبراهيمي: إنّه محاولة تحرر بوسائل روحية، أخلاقية ودينية، في الوقت الذي كانت فيه الشعوب الأخرى (يونانية أو رومانية) تبرمج نفسها على تحرّر من نوع آخر، دنيوي وتقني ومدني. لكنّ الحرية لها دوما مطعم واحد. فليس ثمة من فرق جوهري بين تكسير الأصنام وتحطيم الأغلال.
لقد كان دعاة الإصلاح يستعملون مفهوما قديما عن الحرية: إنّه الدفاع عن الأصول باعتبارها هي مصادر أنفسنا. في حين أنّ مفكّري وكتاب عصر النهضة إنّما كانوا يستعملون مفهوما جديدا، أدبيّا وشخصيّا، عن الحرية: إنّها حرية الفرد الحديث الذي قرّر أنّ تفكيره بنفسه هو عين وجوده؛ هو فرد صار ينحت مصادر ذاته من ذاته، ولم يعد يستمدّها من أحد. واليوم، لم يعد مهمّا أن نعرف من كان على خطأ، ولكنّه من المهمّ أن نراقب كيف أنّ أجيالا بأكملها قد واصلت ركوب نفس المشاكل وإن كان ذلك بأدوات مغايرة.
ذلك ما انخرط فيه مفكّرو التراث: هؤلاء التأويليون بأدوات لا تمت بصلة في غالب الأمر إلى التقليد الهرمينوطيقي بالمعنى الدقيق. وآن الأوان لنسأل: كيف أمكن لهؤلاء أن يرثوا عن الفكر الأوروبي المعاصر المشكل التأويلي حول العلاقة مع التراث باعتباره تحدّيا حقيقيا أمام تحقيق أو إثبات الذات المعاصرة، والحال أنّهم اتفقوا في الغالب على أنّ قراءة التراث ليست مشكلا “هرمينوطيقيا” بالمعنى الدقيق (أي متعلقا بتجارب المعنى وتأويلات الذات، كما يمكن أن تنبجس من خلال ممارسات نصّانية وخطابية خاصة بذات متكلمة ضمن رؤية للعالم منظورا إليه بوصفه لغة أو نصّا محضا)، بل هي قد أخذت غالبا لبوس “النضال الفكري”، أي العمل الملتزم على قضايا نحن نعي بأنّنا جزء لا يتجزّأ من المشكل الذي تطرحه، وبالتالي كلّ تفكير فيها هو سلفا تورّط شخصي في نوع من الطرح أو الحل المنشود لها. وهكذا ظلّ “المفكّر” العربي المعاصر محروما سلفا وبشكل متعمّد أو قسري أحيانا، من صورة الفيلسوف الكوني الذي لا يخشى في العقل البشري لومة لائم. وذلك أنّه كان مرغماً دائما على وضع الصفة القومية (العربية أو الإسلامية أو الصفتين معاً) كلافتة ثقافية أو هوويّة لا مناص من تحمّلها كجبة انتماء لا تُخلع أبدا. ولذلك جاءت قراءات التراث عبارة عن متوالية من الأعمال القومية القصوى، وإن كانت مكتوبة بلغة الفكر الغربي المعاصر: هل كان لدينا نضالات فكرية رائعة، ولم يكن لدينا فكر ؟ أخشى ذلك.
كان لدينا وضعية منطقية عربية (زكي نجيب محمود) ووجودية مسلمة (بدوي) ولدينا شخصانية إسلامية (الحبابي). ولدينا تاريخانية عربية (العروي) و نظرية عربية في الثورة (سيف الدولة) ولدينا نقد للعقل العربي (الجابري) ونقد للعقل الإسلامي (أركون) ولدينا اقتصاد عربي معاصر (سمير أمين)، ولدينا علم في الاستغراب كردّ “فلسفي” على علم الاستشراق (حنفي)، ولدينا “فلسفتنا” ولدينا “اقتصادنا” (باقر الصدر) ولدينا “بطركية” عربية (شرابي) و طريق قومي للاستقلال الفلسفي (نصّار) وحق اختلاف عربي إسلامي في الفلسفة (طه عبد الرحمان)،الخ…
هذا الوضع التأويلي الهشّ والمتباين من دون قدرة موجبة (ما عدا بعض الاستثناءات القليلة) على إنتاج التنوع والاختلاف الصحي بين العقول، لأنّه عبارة عن استجابة لمطالب صلاحية كونية وليس مجرّد تطمينات متعجّلة لحاجات “الأمة” إلى أجوبة سريعة تحت ضغط الجوع الثقافي والسياسي العام إلى علف إيبستيمولوجي مناسب، يساعد الناس على تحمّل المصير وفهم ولو جزء من أجزاء الأزمة التي أثارتها تحديات الحداثة في كل المجالات، من التقنية إلى الديمقراطية،- هذا الوضع قد أدّى إلى عودة العنصر الديني إلى لعب أدوار واسعة النطاق في تمثّل الناس لمستقبلهم. والمستقبل لم يعد كما كان. إنّه قد انقلب هوويا بشكل مثير تماما.
ومرة أخرى يؤجّل العقل الفلسفي معاركه الحقيقية (ما بعد الدينية ولكن أيضا ما بعد العلمانية) إلى يوم غير معلوم. متى يمكنه أن يصبح عقلا كونيا، أي قادرا على تحمّل أعباء الإنسانية الحالية ومشرّعا لقيمها ومصمّما لتقنيات ذاتها بشكل مقتدر ؟ فهل يمكن اعتبار مرور الفكر العربي المعاصر من مشاكل التقدم التي غلبت على كتابات عصر النهضة والإصلاح، إلى قراءات التراث التي سيطرت على محاولات الاستقلال الفكري للعرب المعاصرين بعد انتهاء حروب التحرير وبداية مهام التنمية والديمقراطية تحت لافتة الدولة-الأمة، إلى خصومات الهوية، التي أخذت تلقي بأطيافها الثقيلة على كل معارك التفكير الصحية، المدنية والأخلاقية، – هل يمكننا اعتبار هذه الأطوار حياة فلسفية بالمعنى الدقيق ؟ الأكيد هو أنّ المواطن العربي وحده قد وصل أخيرا إلى طرح الأسئلة القوية التي طالما أجّلها حول نفسه: كيف يحقق كرامته وحريته بقطع النظر عن أيّ نوع من الاستحقاق الهووي الجاهز أو الطويل الأمد حول نفسه ؟ ولقد تفطّن أيضا، هو بدوره، إلى ضرورة نقد التقدّم ونقد قراءات التراث، بوصفهما نمطين من النقد غير مناسبين تماما لمطالبه الحيوية التي فرضتها العولمة.
لكنّ الدين قد ارتدّ عليه بقوة مستعملا السرديات الشخصية المؤلمة للمساجين الإسلاميين الذين أطلقتهم الثورات العربية من محابسهم، وحوّلها إلى أسباب مثيرة للنجاح الانتخابي واعتلاء منصات الحكم بشكل شرعي. وفجأة صار يمكن تكفير هذا الفكر، مرة أخرى، كما كان يحصل له في عصور ظن أنّها ولّت بلا رجعة. إلى أيّ حدّ يمكن لهذا العقل الراهن أن يفكّر وهو يعلم أنّه يتحرك على رمل التكفير المتحرك، وأنّه عرضة سهلة لعنف الجموع التي تعوّدت على صناعة عدم التفكير منذ مدة طويلة، تلك التي استغلّها الاستعمار حين كان يتبجّح بالتقدم، ورسّختها دول الاستقلال بدفع النخب إلى فتوحات تراثية، لا فرق فيها بين غربي وعربي، إلاّ بخدمة المرحلة خدمة ترضي الحاكم العربي أو تغضبه، وها أنّ ثورات “الربيع العربي” قد حوّلتها آخر الأمر إلى برامج هووية لتعطيل المواطنة المدنية النشطة، وتعويضها بنزعات أخوية وجماعوية يمنّون على الناس إسلامهم، وكأنّهم اخترعوه من عند أنفسهم، وذلك بواسطة انتخابات على الهوية تضع مستقبل الدولة المدنية بما هي كذلك في خطر محدق. ومتى صارت الدولة في خطر فإنّ مستقبل العقل في ثقافة ما قد صار أبعد ما يكون عن خبر سار.
إنّ مهامّ الفكر في أفق العرب المعاصرين قد صارت أوكد من أيّ وقت مضى. فهل من مغامر؟