جريدة الحياة
الخميس
29 ديسمبر 2016
مارلين كنعان
إشكالات الفكر الفلسفي اللبناني بين أصالة و «استيراد»
كلنا يتذكر قول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أن ليس ثمة فلسفة خارج
الثقافة والعقلية الغربية، وأن ليس ثمة فلسفة خارج اللغة التي تستطيع صياغة
سؤال الكينونة. فعندما أكدّ هايدغر أن نعت «الفلسفة بالأوروبية» هو بحدّ ذاته
حشوّ وترداد، فإنه عنى ببساطة أن ليس هناك من فلسفة إفريقية أو بانتو أو
نامبيكوارا، وأن «المغامرة الفكرية الغربية»، كما عرّف جان بوفريه الفلسفة،
تتماهى بالتجربة الأوروبية، التي انفتحت عليها وتلاقحت بها مجتمعات عدة، وأن
هذه المغامرة الفكرية تتموقع وفق طارف هيللينيّ وحاضر فكري مواز موجود في
الثقافات والحضارات غير الغربية.
من هذا المنظار، هل بإمكاننا الحديث عن فكر فلسفيّ أصيل معاصر في
لبنان؟ أو يجدر بنا الحديث عن فكر فلسفيّ مستورد إلى لبنان، موائم مع
الاختبارات الوجوديّة والخصوصيّة اللغويّة، علمًا أن الفكر الفلسفيّ المعاصر في
هذه البقعة من العالم، إنما هو وليد الانفتاح على التجربة الفكرية الغربيّة،
التي انتشرت مذاهبها في بيروت منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن
العشرين في أوساط الجامعة الأميركيّة وجامعة القدّيس يوسف، وفي بعض معاهد
ومدارس الإرساليات، والمنتديات الفكريّة والعلميّة، ومنذ أن تغرّب بعض المثقفين
اللبنانيين للدراسة في جامعات أوروبا وأميركا؟
من هم أعلام هذا الفكر الفلسفيّ ؟ ما هي موضوعاته ومسائله وخصائصه
وإسهاماته ومصائره، مع اعترافي بأن تعبير «الفكر الفلسفيّ المعاصر»، الذي لا
بدّ وأن يترافق مع التفكر الفردي الحر، يفترض حكمًا وجود فكر فلسفي قديم في
لبنان؟
هذا ما يحاول الإجابة عنه كتاب «الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان»،
الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (2016)، والذي أعدّه وقدم له الأكاديمي
مشير باسيل عون مع مجموعة من الباحثين.
يتناول هذا الكتاب بالدرس والتحليل نصوصًا معاصرة، خطّها «شيوخ الفكر»
في لبنان باللغة العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية. وها هي هذه
النصوص «الفلسفية» تستنهض بدورها نخبة من العاملين في حقل الدراسات الفلسفية،
بغية تبيُّن معالمها، واستجلاء خصائصها، واستطلاع آفاقها، وتأريخها في كتاب
مرجع يؤكد أن النصوص التي أنشأها هؤلاء اللبنانيون كجيروم غيث وفريد جبر وناصيف
نصار وكمال يوسف الحاج ورينيه حبشي وشارل مالك وحسين مروُة وبولس الخوري وماجد
فخري وجاد حاتم وموسى وهبه ومهدي عامل وعلي حرب، وعادل ضاهر وجوزف أبو رزق
وإتيان صقر... تستحق أن تدرس في ذاتها، بغض النظر عن انتشارها عربيًا وعالميًا،
من دون أن يعني ذلك عزلها عن حركة التفكر الفلسفي العربي والعالمي.
في مقدمته القيّمة للكتاب، يعيد مشير عون طرح السؤال الأزليّ عن قابلية
الفلسفة للانتماء إلى القوميات والأوطان والسياسات والأديان واللغات مقابل فكرة
كونيتها، متناولاً المواضيع التي عالجها هؤلاء المفكرون اللبنانيون والتي
تستجيب بطريقة ما لمعاناتهم وخصوصيتهم الوجوديّة، جاهدًا في استخراج سمات فكرهم
وتعابيرهم وتوجهاتهم وبناهم الفكرية وتعالقاتهم مع البنى والمذاهب الفلسفية
العالميّة والتراث العربيّ، مؤكدًا ما قاله بولس الخوري عن انتقائية وتوفيقية
هذه الفلسفة. ولعل مجموع الدراسات الرصينة التي درست هذه النصوص تحاول هي أيضًا
التوّسع على طريقتها في توضيح هذه المسألة.
الاختبار التعايشي
وإذ يعيّن عون لهذه الفلسفة توجهاتها والتي تتمحور، على حدّ قوله، حول
«التفكّر التأصيليّ في الاختبار التعايشي اللبناني» الذي يتبدى في كتاباته هو،
وفي كتابات رينه حبشي، وكمال يوسف الحاج، وبولس الخوري، وإتيان صقر، وأنطون -
حميد موراني، وبشارة صارجي؛ وحول التفكّر في»مسائل الإصلاح الفكري والاجتماعي
والسياسي والاقتصادي» كما يتبدى في نصوص فريد جبر، وماجد فخري، وناصيف نصّار،
ومهدي عامل، وجان قلام، وجاد حاتم، الخ.؛ و«التفكّر الفلسفيّ المحض في قضايا
بنية الوعي الإنسانيّ، وعمليّات الوصال بين الذهنيّات والعينيّات، ومقام
الفلسفة المعرفيّ في سياق المغالبات العلميّة المعاصرة، وابتداع المفاهيم
والاصطلاحات واستحداث الأوضاع اللغويّة الخليقة بالإفصاح العربيّ عن مكتسبات
الفكر الفلسفيّ العالميّ»، كما تظهر في مؤلفات موسى وهبه وعلي حرب، فإنه يؤكد،
في الوقت عينه، أن هذه النصوص ذات الطابع الفلسفي، أيًا يكن توجهها، إنما هي
وليدة قضايا الوجود الإنسانيّ في المجتمع اللبنانيّ وفي المجتمعات العربيّة
وتتوزع على محاور أربعة: القوميّات، والدينيّات، والسياسيّات، والوجدانيّات.
فالنصوص التي وضعها المفكرون اللبنانيّون بعد أن تفرّدوا بتأصيلها
المعرفيّ، والتي يجهد الباحثون المشاركون في هذا الكتاب في درسها أو تقديمها،
تفصح بمعظمها عن تجربة فكرية جريئة، حتى ولو تخطى مضمون بعضها الزمن. ولعل عون
في محاولته رصد معالم هذا الفكر المترابط، إما بالمسلكيات السياسية المتياسرة
أو المتيامنة كالماركسية والاشتراكية والليبرالية، أو بالقوميات والأديان،
كمسائل المعايشة المسيحيّة الإسلاميّة، والوجدانيات الإيمانية، والتعدّديات
الثقافيّة، ومسائل الإصلاح والنمو، والحنين إلى الذات الفرديّة والجماعيّة،
والاستبصار الصوفيّ في الذات القلقة، ومواجهة الفرد للقدر ومصائب الدهر،
والغيريّات المقلقة، والانفتاح على المذاهب الفلسفيّة الغربيّة كالتومائيّةٌ
المستحدثة والوجوديّة والشخصانيّة والهيغليّة والظهورية والأنطولوجيّةٌ
والنقديّة والتفكيكية وغيرها، فإنه يقدم لنا ليس فقط تأريخًا لهذا الفكر
الفلسفيّ الذي يعتبره حصيلة تراكمٍ معرفيّ ونقديّ مخصب، وهو كذلك، بل تحليلاً
دقيقًا لمساره عبر قرن ونيّف.
أما الدراسات التي يؤلف مجموعها متن الكتاب والتي حاولت، إلى جانب
التعريف «بالفلاسفة» اللبنانيين ونتاجهم، الإحاطة بإطروحاتهم الأساسية، أو
بجانب مهّم منها، والتي أشير إليها وفق تسلسلها في الكتاب، كهذه التي وقّعها
سايد مطر والتي تناولت «مسألة الحرّيّة في أصلها الأنطولوجيّ ومعناها النهيويّ»
عند شارل مالك، أو تلك التي تناول فيها لطيف الياس لطيف «الماركسيّة والتراث
الفلسفيّ العربيّ - الإسلاميّ» في كتابات حسين مروُه، ودراسة فريد غيث المعنونة
«جيروم غيث، الحقيقة بين الواقعيّة والمثاليّة»، ودراسة جوزف معلوف لفكر رينه
حبشي بوصفه «فيلسوف الشخصانيّة المشرقيّة ورائد التقارب بين ضفّتي البحر
المتوسّط»، فإنها تتوغل في أعماق هذه النصوص وهيكلياتها وفق منهجية واضحة،
فتُلاصقها وتسائلها في سعيّ علميّ رصين.
وتحاول دراسة ناصيف قزّي نصوص «فيلسوف العروبة ولبنان» كمال يوسف
الحاج، والتي أَرفقها بمختارات من كتابات الحاج، ودراستّا مشير عون موضوع
«تأصيل المحدودية الإنسانية» عند بولس الخوري و«فلسفة الوصال الإنسانيّ» عند
بشارة صارجي، ودراسة جيرار جهامي لفكر فريد جبر و «أصول التحقيق الفلسفي»،
ودراسة نادر البزري «موضوع تفعيل الفكر العربيّ المعاصر عبر تحليل مصادره
الفلسفيّة الكلاسيكيّة» من خلال مؤلفات ماجد فخري، ليس فقط الإضاءة على الأفكار
الأصيلة والمناهج الصارمة التي اتبعها وقال بها هؤلاء الفلاسفة، بل تتعداها
لتغوص في بواطن هذه النصوص، فتحللها تحليلاً متصاعدًا دقيق الاستدلال.
قراءات
ومما يستوقفنا قراءة هدى نعمه لفلسفة إتيان صقر الإنسانية، وقراءتا
باسكال لحود لمؤلفات ناصيف نصّار، بوصفه «فيلسوف النهضة العربيّة الثانية»
ولكتابات مشير عون المنتقل «من حوار الأديان إلى فلسفة الدين» - وهما المرأتان
الوحيدتان في كتاب غابت عنه فيلسوفات من لبنان المعاصر - ودراسة جان - بيار
نخله «للعلاقة المأزومة بين الوجود والوعي» في كتابات جوزف أبو رزق، ومعالجة
باسم الراعي مسألة «الحقيقة والصيرورة التاريخيّة والتأويل» في فكر أنطون -
حميد موراني، ودراسة باسل صالح موضوع «الشروط الأوّليّة لإمكان القول الفلسفيّ
الماركسيّ بالعربيّة» كما قال بها مهدي عامل، وبحث أنطوان سيف في فكر عادل ضاهر
بوصفه « فيلسوف العلمانيّة في الثقافة العربيّة»، إنها تستوقفنا أيضًّا لعمقها
ولإحاطتها ليس فقط بفكر الفيلسوف، موضوع البحث، بل بكل الأفكار والتيارات
والمفاهيم التي كان لها أثرُ في فكره.
على هذا المنوال ينسج وجيه قانصو مقاربته مسألة «تفكيك الأصول وتحويل
الثابت» في مؤلفات علي حرب، وينسج جمال نعيم دراسته عن موسى وهبه المعنونة
«ميتافيزيقيّ في القرن الحادي والعشرين» وباللغة العربية، وجورج يرق مقالته
التي تناولت فكر جاد حاتم والتي وقعها تحت عنوان «المعنى في بناءاته الفلسفيّة
الأدبيّة واللاهوتيّة»، ويكتب شارل شرتونيّ بالتعاون مع مشير عون دراستهما
المقتضبة حول جان قلام ومسألة «إشكاليّات الحداثة المحوريّة».
قد تتفاوت هذه الدراسات في ما بينها، إذ يكتفي بعضها بعرض سيرة
«الفيلسوف» وفكره. وقد تتساوى بعض الدراسات الأخرى في أهميتها بالنصوص التي
تعالجها. ولعلها تفصح عن قراءات نقدية قيّمة، في قراءات نقدية أخرى سبقتها،
تحللّها، توافقها أحيانًا، أو تتجابه معها أحيانًا أخرى بعيدًا من النزعة
النصيّة. غير أن عددًا لا يستهان به من هذه الدراسات يطرح على القارئ سؤالاً
أساسيًا، وهو سؤال توقيت مقاربة نتاج فلسفيّ لم يكتمل بعد، من زاوية دراسة فكرٍ
لم يزل في عزّ عطائه.
يبقى في النهاية أن هذا الكتاب «الفكر الفلسفيّ المعاصر في لبنان»،
يسدّ بلا شك فراغًا فــي المكتبة العربيّة، ويعيد تذكيرنا بمكـــانة الفكـــر
والفلسفة في المدينة، لا سيّما فـــي حقبات التأزم. ولعله يؤكد أن الاهتمام
بالفكـــر الفلسفيّ عندنا، لم يـزل، علـــى رغم بكــل شيء، بألف خير، وأن العقل
لم يغرب عـــن مجتمعنا، نكاية بالمسحاء الكذبة الذين قاـــلوا بزوال الفلسفة.
وهو أخيرًا ليس موجهًا فقط إلى العاملين بالحقل الفلسفيّ، بل إلى كل مثقف وقارئ
تعنيه الحياة الفكرية في لبنان.