هل هناك فلسفة عربية معاصرة؟
د. محمد خالد الشياب
جريدة الرأي - 5 أغسطس 2005
تسعى الفلسفة اليوم
في العالم العربي الى المساهمة الفاعلة في مسيرة الفكر العلمي وتقدم
الانسانية. غير انها تعكس الكثير من تناقضات هذا العالم العربي وتمزقاته،
بين الحنين الى الماضي والانكفاء على الذات والانغلاق امام كل جديد، وبين
الانفتاح على حداثة ليبرالية لا تعرف الحدود، وبحث عن حل وسط ديالكتيكي
يكون بمثابة مصالحة مع الذات قبل المصالحة مع الآخر. وكل ذلك لا يأتي إلا
نتيجة ثمرة نقاش فكري حر من دون قيود ولا تسلط على امتداد الوطن العربي
بأكمله، بحيث تفتح الابواب امام العقلانية الكفيلة بكسر جدار الخوف امام
التفكير العربي.
ان السؤال حول وجود فلسفة في الوطن العربي، او عدم وجودها ليس هو الاساس.
ذلك ان مثل هذا السؤال تؤكده الكتب الصادرة كل عام باللغة العربية. انما
السؤال الأهم هو مدى تأثير هذه الفلسفة في الجمهور، ومدى تجاوب هذا الأخير
معها.
لكن، الذي لا شك فيه، ان التفاعل بين الفيلسوف ومحيطه ما زال ضعيفا ودون
مستوى ما هو متوقع، وذلك له أسبابه الكثيرة.
1- ان الفلسفة تتغذى باستمرار بالتقدم العلمي والتقني، ونحن ما زلنا لم
ندخل عصر النهضة الصناعية، وما زلنا في معظم الأحيان مجرد مستهلكين للعلم
المعاصر الذي يتقدم بخطوات لم يعرف التاريخ مثل سرعتها، واصبحنا في هذا
المجال خارج التاريخ.
2- غياب تعدد المنظورية وغياب الاختلاف في معناه الانطولوجي وليس في معناه
العام، وفي ظل هذا الغياب تظل الفلسفة رهينة الرؤية اللاتاريخية والتي
تجعلها مفصولة عن الأحداث التي تقولها المفاهيم، مما جعل التفكير الفلسفي
العربي المعاصر، رهين أفق التوافق لا أفق التجاوز، حيث بقيت استراتيجية
التفكير الفلسفي العربي تحكمها قواعد وثوابت لم يستطع الفكر الفلسفي العربي
خلخلتها او تجاوزها، وانما ظل منشغلا ببناء علاقة انسجام داخلها.
3- غياب قاعدة الحرية، حيث لا تتأسس الفلسفة الا على قاعدة الحرية، وأول
شروط الحرية هو امكان الاستقلال عن وصاية الآخر الذي يعوق التفكير الحر وعن
تدبر مصيره الخاص، وذلك هو شرط التنوير كما اوضح كانط. ولكن ليست الحرية
فقط هي الاستقلال عن ذلك الآخر المتخارج عنا، ولكنها التحرر من وصاية الآخر
فينا وداخلنا.
4- المشكلة الكبرى في التفكير الفلسفي العربي الراهن، هو أنه يتكىء دوماً،
على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي. وهذا ما جعل الفكر الفلسفي العربي يعاني
غربة مزدوجة: غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيراً ما يعاند كل تفكير عقلاني
تنويري، وغربة عن روح الفلسفة من حيث هي قوة نقد وسلب، وميل نحو خلق
المسافة مع المألوف. ان غربة الاهتمام العربي عن الفلسفة وعن الواقع ادت
بالمشتغلين بالفلسفة الى تناول موضوعات وقضايا بأساليب اقرب الى ما سماه
هشام جعيط «فلسفة الثقافة» اكثر مما هي صلب التفكير الفلسفي. ولذلك
فالمشكلة هي في غياب الاسلوب الذي يمتلك القدرة على الجمع بين نمط التساؤل
الفلسفي وشكل صوغ المفاهيم.
5- ان الفكر الفلسفي العربي لم يجد في المناخ الثقافي الا ما يعوق تحركه
وتحقيق تساؤلاته بسبب تقليدية هذا المناخ. فالإنتشار الكاسح لثقافة الدينية
السطحية التي تحالفت في شكل فجائعي مع فضائيات همها المركزي هو تجييش
الناس، وتحريك غرائزهم، واستفزاز وجدانهم، ومخاطبة حواسهم، ادى الى شبه
فساد «الذكر الفلسفي» والقول بعدم جدواه في العالم العربي. يأتي ذلك في
مرحلة اخذ النظام العالمي الجديد - العولمي يتدفق فيها بوحشية نحو العالم
عموما، والعالم العربي بكيفية خاصة، محاولا ان يضع البشر جميعا امام مطلبه
الأعظم الذي هو: ان يبتلع البشر، وان يتمثلهم ومن ثم يتقيأهم سلعا في سوق
كونية سلعية واحدة. وهو يفعل ذلك في مرحلة يعيشها العرب، من أهم سماتها:
أ- هيمنة ظلامية فكرية وسياسية من موقع النظام العربي القائم على
الاستبداد، والتيار الاصولي الديني الموظف - في جله - في خدمة ذلك النظام
العربي وذلك النظام الدولي الجديد في آن.
ب- غياب الحرية السياسية والفكرية.
ج- هيمنة الفساد والإفساد كمنهج في الحياة العامة وبتحفيز من «الدولة
الأمنية».
د- رفض الديمقراطية والتعددية في مجمل الحقول.
هـ- غياب البحث العلمي وتدمير المؤسسات الجامعية.
و- التشهير بـ «العقل او الفكر العربي» من جانب النزعة المركزية الصهيونية
ومجموعة من المثقفين العرب.
في ضوء تلك المعيقات، كيف تغدو الفلسفة ممكنة في الوطن العربي؟
ان اول امكاناتها هو تحررها من الوصاية الثيولوجية التي تكاد تهيمن على
المؤسسات وعلى العقول. فعمل المؤسسة اليوم في البلاد العربية يتخذ اليوم
توجها استراتيجيا نحو اغلاق سبل التفكير واستبدال سيوف التكفير بها، تلك
السيوف التي ليست لها من هم اليوم سوى القضاء على الابداع في كل مجالات
الحياة، ومن ثم اشاعة الرأي الذي لا يحيا الا في حياة التشابه والتطابق،
ولا يستهدف الا صناعة عقول جماعية لا تفكر، كما يستهدف استئصال جذور
الاختلاف وبالتالي القضاء على اي امكان للمستقبل.
ان امكان الفلسفة العربية مرهون بالتخلص من وصاية التفكير الهيمني/الديني
الذي لا يؤمن اصلا بقدرة العقل عى شق سبله بنفسه. ولذلك فمن اجل التأسيس
لانتاج فلسفي في الفكر العربي المعاصر، لا بد من وضعه في سياق عملية اخرى
هي كما يقول، الطيب تيزيني، التأسيس لمشروع عربي في النهضة والتنوير اولا،
ولا بد من الاجابة على الاستحقاقات التالية على نحو فاعل، ثانيا: ضبط
العلاقة بين الفلسفة والايديولوجيا وبين الفلسفة والدين، والاشتغال على
ابداع علاقة متقدمة من التراث الفلسفي والفكر الغربي تاريخيا وراهنا، في
ضوء الاسئلة العربية الراهنة، اي في ضوء الواقع المباشر، وذلك للإجابة عن
سؤال، في اية لحظة من التاريخ نحن
نعيش؟