الفلسفة..
المنفيّة عن حياتنا
تاريخ النشر: الخميس 26 يونيو 2014
حسن ياغي
في نظرة عامة على الدّرس الجامعي في جامعات العالم العربي، نلاحظ قلّة عدد
الطلاب الذين يتوجّهون للتخصّص في فرع الفلسفة. بل إن العديد من هذه الجامعات
ليس فيها هذا التخصّص، وبعض الدول العربية لا تدرج هذا الدرس في كلّياتها
الجامعية، بل لا تعترف به من ضمن المنهاج الجامعي أصلاً. وحتى إن الجامعات
الأكثر شهرة في العالم العربي ومنها فروع لجامعات غربيّة (أميركية أو أوروبية)
ليس فيها قسم لتدريس الفلسفة، إنما -في بعض الجامعات- يدخل كدرس فرعي من ضمن
تخصّصات أخرى.
على الرغم من استخدام المصطلح «فلسفة» عبر قرون طويلة في الثقافة العربيّة، إلا
أن هذا المصطلح ظلّ ملتبساً ويتم الخلط بينه وبين علم الكلام. بل إن الثقافة
العربية، خاصة وأنه أضيفت لها «الإسلامية» لتصبح وفق المتداول «الثقافة العربية
والإسلامية» - مع أو من دون واو العطف –، نبذت الفلسفة وقصرتها على «علم
المنطق»، فأبعدت بذلك بحث أسئلة الوجود، وما وراء الوجود، الكبرى لصالح آلة
الاستقراء واستنباط الأحكام متمثّلة بالمنطق.
وعلى الرغم من التراث الفلسفي الذي مثّله فلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد
والتوحيدي وابن عربي... وغيرهم، فإن هذا التراث حُكم عليه بالنفي لعدّة قرون،
إلى أن استُعيد مؤخّراً مع الاتصال بالغرب الذي بدأ مع فترة ما سّمي بعصر
النهضة عندنا. إلى حد أن هذا التراث عاد إلينا عن طريق الغرب الذي أعلى من شأن
الفلسفة العربية -واهتمّ بالتصوّف- مستفيداً من إنجازاتها في مرحلة التحوّل
الكبرى التي شهدتها الفلسفة الغربية مع بداية عصر التنوير.
رطانة حزبيّة
لكن عودة هذا التراث الفلسفي التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر كانت بطيئة
جداً، ولم نعرف كتب عدد من الفلاسفة العرب إلا في نهاية النصف الأوّل من القرن
العشرين تقريباً. حتى إن هؤلاء الفلاسفة لم يحضروا في الدرس الجامعي إلا بعد
التأثير الذي أحدثته الفلسفة الغربية على فكر أعلام من الكتّاب والمفكّرين
العرب في تلك الفترة وصولاً إلى طه حسين الذي بما كتبه، وما قام به في سلسلة
الألف كتاب والترجمات التي أشرف عليها أو نشرها، مثّل نقطة تحوّل هامّة جداً
وصولاً إلى مرحلة تأسيس الجامعة في العالم العربي حيث ظهرت أسماء مثل زكي نجيب
محمود وفؤاد ذكريا وعبد الرحمن بدوي وإمام عبد الفتاح إمام وتوفيق الطويل
وأميرة حلمي مطر وحسن حنفي... وهؤلاء ــ عدا عن دورهم في تدريس الفلسفة ــ
لعبوا دوراً هامّاً عن طريق ترجمة أعمال الفلاسفة الأكثر تأثيراً في صنع أفكار
العالم الحديث. ولعلّ تلك المرحلة كانت الأكثر غنى والأكثر تأثيراً والتي نعود
إليها اليوم بعد أن قضت عليها رطانة أفكار الأحزاب التي ادّعت القومية العربيّة
ولم تنتج سوى ديكتاتوريات بائسة، وأفكار الأحزاب الماركسيّة التي ادّعت حمل
أفكار التقدّم ولم تنتج سوى دوغمات وإيديولوجيات انتهت حتى قبل نهاية الاتحاد
السوفياتي، تاركة وراءها أعداداً كبيرة من القرّاء «المناضلين» الذين تملأ
أنفسهم الخيبات حتى استقالت غالبيتهم من دائرة القرّاء... لتظهر على الساحة
القوّة الجديدة/ القديمة: الأحزاب والتيارات الدينيّة.
فقد أشاعت هذه الأحزاب والتيارات الدينيّة نوعاً من القراءة التي لا تتيح أي
فرصة لاشتغال العقل، بدءاً من الثورة الإيرانية التي نصّبت ولياً فقيهاً حاكماً
باسم الله (عزّ وجلّ) على عبيده الذين ليس لهم إلا الطاعة، وانتهاء بالأحزاب
التي يحكمها المرشد وأمير الجماعة ولا تعرف سوى الطاعة الصارمة والوعود بالجنّة
التي تتفجّر قنابل بدل أن تتفجّر أفكاراً، وصولاً إلى الفتاوى الفضائية المضحكة
ــ بالأحرى المبكية ــ التي تتوجّه إلى بسطاء الناس من المذاهب كافة (لا
استثناء) قائلة لا تنشغلوا بالتفكير، فنحن نحلّ لكم «كل مشكلة»، دائماُ لدينا
فتوى: سيروا وراءنا وثوابكم الجنّة قاتلين أو مقتولين.
سيطرة اليقينيات
على مدى ما يقرب من نصف قرن غابت الفلسفة عن التأثير الحقيقي، لأن الأسئلة
والإشكالات غابت، وحلّ اليقين والحقيقة المطلقة، واطمأنّت العقول إلى الحتمية
التاريخية والرسالة الخالدة. فميشيل عفلق أو ساطع الحصري أو ثورة الضباط
الأحرار في مصر أو قائد الحركة التصحيحية في سوريا أو الكتاب الأخضر أو...
أجابت على كل الأسئلة، ومن لا يقتنع بالكلام نقنعه بغيره، ومدارس إعادة التأهيل
موجودة في طرّة والقلعة والمزّة وتازمامارت وقصر النهاية... وفي مراكز
المخابرات.
وماركس أكمل لكم دينكم (مسكين ماركس) وما سَها عنه قطعت بشأنه فتاوى لينين أو
تروتسكي أو ماوتسي تونغ. الحتمية التاريخية قادمة لا مَحالة وستنقلنا
ديكتاتورية البروليتاريا إلى النّعيم. وعلى الرغم من الحيوية التي أبداها
الماركسيون العرب في ميدان القاع الأيديولوجي فإنهم لم يقرأوا حتى أولئك
الفلاسفة الذين خرّجتهم مدارس الماركسية المختلفة، والذين أثّروا في صناعة
العالم الجديد من أمثال: ميشال فوكو وآلان باديو وألتوسير وبعض أعلام مدرسة
فرنكفورت وغيرهم.. ومن قرأهم إما أنه أنكر «انحرافاتهم»، أو تحوّل إلى متمرّد
على الدوغما الحزبية، أو خرج منها. كما غابت عن الأيديولوجيا التي تبنّتها
الأحزاب الشيوعية العربية كل الفلسفة التي جاءت من بعدها.
أما الإسلاموية الجديدة، فقد ضحكت مزهوّة باندحار عدوّيها: القومي والماركسي،
وسحبت جراب الحاوي، ففيه كل حلّ. إنها حلول موجودة منذ الأزل وستستمر إلى
الأبد. ما علينا أن نقرأه، وهو درسنا وأجوبتنا إن كنا مشغوفين بالدرس، كُتب قبل
أكثر من ألف وأربعمائة سنة وما يزال يكتب وفق سنّة لا تبديل فيها، أو بالأحرى
لا تفكير فيها. إنها إرادة الله عزّ وجلّ. وإذا خطر لعبد أن يقول أنا لا أحتاج
إلى عبد مثلي ليدلّني على إرادة الله الذي سمح لي أن أرتبط به مباشرة.. وقع في
التهلكة، فزُندق وكُفِّر وحرّمت عليه زوجته!!.
المتمردون
وبعد، هل هذه هي الصورة؟ هل هكذا هم القرّاء العرب؟
كلا، الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحدّ، فالتمرّدات كانت موجودة دائماً حتى داخل
هذه الدوغمات، وعدد لا بأس به من «المناضلين» داخل هذه الدوغمات خرجوا عليها،
وهذه الأحزاب أو التيارات الفكريّة خرّجت مفكّرين وفلاسفة مثل: عبد الله العروي
ومحمد عابد الجابري وحسين مروّة.. وبعضهم وجّه لها نقداً قوياً كاشفاً عن
هشاشة، بل بؤس هذه الدوغما، مثل علي حرب وعبد الجواد ياسين ومحمد أركون.. وهذه
التمرّدات راحت تتسع مع عقد الثمانينيات من القرن الماضي متأثرّة بأفكار
التفكيك والاختلاف والبنيوية وما بعد الحداثة التي سادت بعد ما حصل عام 1968 في
أوروبا.
وأيضاً توسع تأثير التيارات الجديدة، للأسباب التالية:
1 - برامج وأساتذة نقلوا إلى الجامعة أدوات النقد الحديثة.
2 - البعثات الكثيرة لمتابعة الدراسة في الجامعات الغربية، والتواصل بين
الجامعات العربية وبعض الجامعات الغربية (نظام الإعارة)، ما أتاح الفرص
للأساتذة لأن يطّلعوا ويعايشوا نماذج مختلفة تماماً.
3 - تزايد أعداد القرّاء الذين يستطيعون القراءة بلغة أجنبيّة.
4 - تزايد حركة الترجمة التي تحوّلت مع بداية القرن الجديد إلى حركة واسعة
شاركت فيها مؤسسات حكومية قدّمت لها دعماً كبيراً مثل المجلس الأعلى ثم المركز
القومي للترجمة في مصر، ومؤسسة كلمة في أبوظبي والمجلس الوطني في الكويت ووزارة
الثقافة السورية.. وأيضاً تزايد اهتمام الناشرين بالترجمة بسبب قلة النتاج
الفلسفي بالعربيّة.
...
ولكن هل أدّى ذلك إلى توسّع قراءة الفلسفة؟
كلا، فمع بداية القرن الواحد والعشرين تراجعت نسبة القراءة، أو لأقل شراء الكتب
في العالم العربي عموماً، وهذه ظلّت تتراجع إلى أن بلغت اليوم أدنى مستوياتها
(المعّدل العام 1000 نسخة من الكتاب لأمّة تعد بمئات الملايين؟!).
لكن هذا ليس مبعث تشاؤم عندي، إذ مع هذا الانخفاض المتزايد في المعدّل العام
للقراء، راح يظهر منذ سنوات قليلة ارتفاع في معدّل القرّاء الذين يهتمّون
بالفلسفة، والملفت أكثر حرص أعداد متزايدة منهم على قراءة المتون (نصوص
الفلسفة) وليس الشروحات أو الدراسات عنها.