أن ينطلق الحديث عن التواصل الديني من
أرضية فلسفية؛ ذلك ما أعطى للندوة التي أقيمت في المجلس الأعلى
للثقافة بعدًا جديدًا، إذْ تصدت لجنة الفلسفة بالمجلس لمناقشة
العلاقة بين المسلمين والمسحيين في مصر، تحت عنوان "التواصل
الديني في مصر"، وبرغم أنه بدا عنوانًا فضفاضًا إلا أنه عبر عن
الحالة التي تجمع المسلمين والمسيحيين،
وهي التواصل عبر التاريخ، والتواصل الواقع الآن على أي درجة
كان.
تحدث في الندوة عدد من
أساتذة الفلسفة من الجانبين محاولين التركيز عن عمد لإظهار
الأفضل في مصر على ساحة التواصل، دون التعرض لحالة الانقطاع التي
تمر بها الأمة المصرية في الوقت الحالي.
إصلاح ديني معكوس
أبدى د.أنور مغيث،
أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان، استغرابه من مفهوم الإصلاح الديني
المروَج له حاليًا عبر وسائل الإعلام، والذي يتناقض مع مفهوم
الإصلاح الديني الذي روج له الشيخ محمد عبده والشيخ الأفغاني، في
بدايات القرن الماضي. فقد جاءت دعاوى الإصلاح الديني بمعنى عدم
استغلال مجالات الحياة المختلفة -من تعليم وعلوم وفنون- بمعزل عن الدين، وأن تتحرر من
سلطة رجاله، وأن تحكمها قوانينها الداخلية وليس فتاوى
الدين.
في حين يقوم الإصلاح
الديني الآن على آليتين هما: الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد،
والاعتماد على المرجعية الإسلامية.
والمرجعية الدينية
تكرس سطوة رجال الدين، وهو ما يقف في وجه الإصلاح، نظرًا لأن
إخلاء الساحة لرجال الدين وحدهم لمسايرة الأحداث وما تفرزه
سيجعلنا ننتظر طويلاً، لكن في ظل وجود فلسفات أخرى مغايرة مادية
وعلمانية، وفكر وثقافة علمييْن؛ سنضطر إلى دفع رجال الدين للقيام
بإصلاح حقيقي.
خصوصية الدين المصري
وتكاملاً مع النظرة
المستقبلية للإصلاح الديني؛ أشار الأب "يوحنا قلته"، رئيس كنائس
الشرق الأوسط عن الكاثوليك، إلى الحس الديني المتواصل في مصر،
منذ الفراعنة وحتى الآن مشيدًا بفضل الثقافة العربية الإسلامية،
التي اكتسبها من نشأته في مصر، في إعطائه رؤية إنسانية وجرأة في
نقد الفكر المسيحي، مؤكدًا أن جميع الأديان حلقات متواصلة، سواء على مستوى
التتابع الزمني، أو على مستوى التواجد، فلم يحدث أن سادت ديانة
واحدة في أي زمن من الأزمنة. وهو الأمر الذي يجعل أيًا
من دعاوى الأسلمة أو التبشير تنتهي
بالفشل.
وقال إن مصر مثلت
واحدةً من أنجح التجارب في التواصل الديني، من خلال تسرب الطقوس
الدينية من ديانة لأخرى، ومن خلال الاندماج الحقيقي بين الديانات
المختلفة، بدليل أنه لم تحدث في مصر حروب أهلية على مدى تاريخها
الممتد منذ الفراعنة، وأكد أن مستقبل التواصل الديني مرتبط
بالنقد واستخدام العقل والنظرة إلى الإنسان.
رمز الواحد
استولت الجلسة الثانية
من الندوة على اهتمام الحاضرين، وأثارت عاصفة من النقاشات بسبب
ما جاء على ألسنة المحاضرين فيها، ومما استرعى الانتباه أن
المناقشات جاءت في إطار أدب الحوار وقبول الرأي الآخر، الأمر
الذي بدا مُستغربًا على الوعي الثقافي المصري.
بدأ د.حازم حسني
الجلسة، التي كانت حول الرمز الديني، بالحديث عن الرمزية في
الفكر الإسلامي، وكيف أن الإنسان البدائي عمومًا في حال قصور
قدرته عن استيعاب شيء معين؛ فإنه يستبدله برمز، أي حالة حسية،
يستطيع من خلالها الإشارة إلى الله مرئيًا ومقروءًا أو ملفوظًا.
فإذا قلت إن الله واحد؛ فالواحد هنا ليس عددًا، بل رمز. لأن
الواحد هنا -كما أشار فلاسفة الفيثاغورثيين قديمًا- أصلُ العدد،
وليس منه، لأننا لو اعتبرناه عددًا سيكون الله معدودًا وبالتالي
محدودًا.
وهو ما يمكن تطبيقه
أيضا بطريقةٍ ما على الآية (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ
إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ)-المائدة:73، التي يستخدمها
البعض سلاحًا في وجه التواصل الديني، وتثير الكثير من الفتن.
فالمبنى الرمزي للآية يؤكد أنه يتحدث عن عدد، ولم يذكر العدد
ثلاثة ليحدد أن يكون الله معدودًا ضمن ثلاثة، تأكيدًا على
المغالاة في الفكر المسيحي، ومعتبرًا أن ذلك ليس ما يعتنقه
المسيحيون من وجهة نظره الشخصية- إذ الثلاثة هنا هم أوجه لحقيقة
واحدة هي الله، وليسوا ثلاثة.
وحول ذات النقطة، ذكر
الدكتور عبد المعطي بيومي -في جلسة تالية- أن القرآن يكفر
مقولاتٍ وليس أشخاصًا، وهو ما يبعد هاجس تكفير القرآن
للمسيحيين.
في حين انصب حديث
المفكر القبطي سمير مرقص حول الفلسفة البحتة -في حديثه عن الروح
المصرية في التواصل الديني بين المطلق والنسبي- مشيرًا إلى حالة
التعايش في مصر، حيث تمكّنَ كلٌ من المسيحيين والمسلمين -برغم
أنهما أصحاب مطلقيْن- من إيجاد مساحة نسبية مشتركة، أحدثت نوعًا
من التعايش في سياق تاريخي واحد.
على نفس الوتيرة جاء
حديث الدكتور حسن طلب، الذي استغرق وقتًا في التفرقة بين الرمز
والعلامة، موضحًا -فيما يتعلق بالموضوع نفسه– أن الرمز يقع في
منطقة تجعل المحسوس والمجرد يرتبطان، ولا يستغني أحدهما عن
الآخر، وهو أمر عام ليس في الدين وحده.
السنة و(المشنة)
وبرغم أن دكتور صلاح
قنصوة كان رئيسًا للجلسة، ولم يكن مدرجًا على قائمة المتحدثين
فيها؛ إلا أنه استقطع وقتًا ليدلي بدلوه، فخرج بالقضية إلى مجالٍ
أرحب، أثار الكثير من العواصف وسيستمر في إثارتها إن ظل مصرًا
عليه.
فقد تحدث عن كون الرمز
هو الأداة الوحيدة لوصف ما لا يُعرف، فالتفكير الإسلامي يفرّق
بين عالمين: عالم الشهادة لما ندركه ونعرفه، وعالم الغيب الذي
يند عن المعرفة والنص الديني، ويرتبط بالغيب وهو الجسر الذي يربط
المحسوس بالغيبي.
وتحدث عن تلقي الإنسان
للنص الديني، والذي يشبه التلقي الفني في محاولة الفهم عن طريق
معرفة الرموز وتأويلها. وتطرق -في حالة من تداعي الأفكار حول
الرموز- إلى حديث آخر بعيد عن التواصل الديني، بادئًا بالتساؤل
حول سبب اختراعنا للسُّنة النبوية التي لم ترد على لسان الرسول
في خطبة الوداع -كما رُوج- بل أضيفت من بعده، مؤكدًا أن النص المقدس الوحيد هو القرآن
الكريم، وحسبُنا القرآن كما قال عمر بن الخطاب لحظة احتضار
الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبالتالي طالب برفع
القدسية عن الرسول باعتباره بشرًا، وهو ما ثبت من خلال عتاب الله
لنبيه في أكثر من موضع في القران الكريم. مُعتقدًا أن الرسول
إنما اكتسب هذه القدسية بسبب لجوء الإنسان بطبيعته إلى تجسيد كل
ما هو غيبي، ونظرًا لأن الرسول هو الموحَى إليه من عند الله؛ فهو
الأقرب إليه. ومن هنا كان رفع الرسول إلى مكانة مقدسة قريبة من تقديس الله
ذاته.
كما أشار إلى أن السنة
هي مجرد موروث يهودي، ففي اليهودية ما يطلق عليه (مشنة)، وهي ما
أضافه الأحبار على الأسفار الأساسية للتوراة من فتاوى وشرائع
شفوية مكملة ومفسرة لها، والتي من الملاحظ تشابهها في اللفظ مع
كلمة (سنة).
واختتم قنصوة كلمته
برغبته في انتزاع الإيمان اللاواعي بالثنائية لدينا بين الله
ورسوله، مؤكدًا على أن ما قاله هو نوع من الاجتهاد الشخصي لأستاذ
متفرغ.. رافضا بعد انتهاء الجلسة
التعليق عليه أو الإجابة عن أسئلتنا المستفسرة حول ما قاله خوفًا
من حكم الردة!!
إلا أن تعقيب الدكتور
عبد الحميد الغزالي جاء كافيًا ومتعقلاً إلى حد كبير، فقد اعتبر
الأصليْن في التشريع هما القرآن والسنة على حد سواء، بإجماع
الأمة عليهما، بدليل (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)-الحشر:7، راجيًا ألا تكون هناك
قدسية إلا لله سبحانه وتعالى.
نغمة واحدة
|
د. آمنة
نصير | جاء تقسيم الندوة الأخيرة إلى جزأين مناقضًا
لعنوانها "التواصل الديني بين الاستقطاب والتناغم"، حيث تحدث في
الجزء الأول كلٌ من: د. عبد المعطي بيومي، ود. آمنة نصير. وتحدث
في الجزء الثاني: الأب كريستيان فان نبسن، أستاذ الفلسفة بكلية
العلوم الإنسانية واللاهوتية بالمعادي، ود. مجدي عبد الحافظ
أستاذ الفلسفة.
اقتصرت كلمة عبد
المعطي بيومي على سرد تاريخ المسلمين مع المسيحيين منذ عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم، موردًا الأدلة على حسن المعاملة
وطيبها. فيما وصلت الدكتورة آمنة نصير التاريخ بالحاضر، حول
تجربتها الشخصية مع المسيحيين، وهي ابنة الأسرة الصعيدية
الملتزمة دينيًا، والناشئة في مدارس وكلية مسيحية.
وقد اتفق كلاهما في
نقطة تبدو خارجة عن سياق الندوة، لكنها تصب في الإصلاح الديني
اللازم للتواصل، وهي تتحدث عن إسلام أو فقه خليجي، في مقابل
الإسلام أو الفقه المصري، وعن بداية تسربه إلى مصر، وهو الأمر
الذي يجعلنا نهتم بصغائر الأمور، مثل كشف الوجه أو السلام، بينما
يغلق الباب أمام فتاوى تواكب العصر.
وجاءت كلمة الأب
كريستيان من واقع تجربته، التي شملت أعوامًا طويلة قضاها في
دراسة مناطق التشابه والتقارب بين الإسلام والمسيحية، مضيفًا
معلومة كادت تختفي وسط كل التركيز على الجوانب المشرقة في
العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وهي أن الإنترنت هو الساحة
التي فتحت لإشعال نار الفتنة، وبرر ذلك بأن ما يمنحه الفضاء
التخيلي من قدرة على التخفي وبعد عن المواجهة، يسهل التطاول على
الآخر بالألفاظ، مما يزيد من الكراهية ويعمقها. وأكد على ضرورة
الانتباه لخطر الإنترنت على التعايش بين المسلمين والمسيحيين في
مصر.
على الجانب الآخر تقدم
بنصيحة من واقع خبرته إلى المصريين بوجوب الحفاظ على الثقافة
المصرية بما تحفل به من غنًى وتكاملها، ومحاولة الحفاظ على
خصوصية الإسلام المصري، وخصوصية المسيحية المصرية، لعزف نغمة
مشتركة.
صحفية مصرية
|