العرب أونلاين
12 يونيو 2008
منتصر حمادة
ما المخرج العملى إزاء التحديات الحضارية التى يواجهها الوطن العربى والعالم الإسلامى اليوم؟ وما هو تأثير الصراعات الإيديولوجية بين التيارات العلمانية والإسلامية على مسار النهضة والتنمية فى المنطقة العربية؟ وما هى تبعات التقزيم من دور المفكر العربى فى مشاريع النهضة؟ وهل حقا تعج المنطقة بمشاريع معرفية وفكرية رصينة يمكن أن تخدم استراتيجيات صناع القرار فى مواجهة التحديات المحلية والإقليمية والعالمية التى نعيش على إيقاعها؟
التقت "العرب
العالمية" بالأكاديمى المغربي، الدكتور عبد الصمد تمورو بهدف تسليط الضوء
على هذه الإشكالات، واعتبر أستاذ الفلسفة وتاريخ الأفكار والحضارات بجامعة
محمد الخامس بالرباط، أن الساحة العربية والإسلامية فى أمسّ الحاجة اليوم
إلى تبنى مشروع أخلاقى وواقعى يقوم على منظومة توفيقية من القيم المحلية
والخارجية بهدف مجابهة لائحة عريضة من التحديات التى تُطْرَح على مفهوم
الهوية، ليس فى المنطقة العربية وحسب، ولكن على الصعيد العالمى إلى درجة
الترويج المكثف لخيار "الهوية المُرَكّبة".
وأسس الباحث هذا الخيار
على ما يُشْبِه مُسَلّمة تاريخية فى الساحة العربية والإسلامية، مفادها أنه
عبر مجريات الأحداث فى العالم العربى الإسلامي، كنا دائما أمام ثلاثة
تيارات أساسية، فهناك التيار المحافظ، ثم التيار التحديثى أو "الحداثي"،
وأخيرا التيار التوفيقى بين التيارين، وهو الخيار/الحل، مادام يساعدنا فى
القفز على منطق الخيار الإقصائى أو الاستئصالى المُتّبَع من طرف التيارين
التأصيلى والحداثى على حد سواء.
* كيف تقرأون الضجة التى أثيرت فى
فرنسا مؤخرا، بخصوص اتهام بعض النخب الفكرية للرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى
بـ"سرقة" أطروحة "السياسة الحضارية" التى سبق للمفكر إدغار موران أن سطرها
فى مؤلف قديم له، خاصة وأن مثل هذا التلاقح السياسي/الفكرى يكاد يكون غائبا
فى الساحة العربية؟
** إذا فُرِضَ علينا أن نقارن بين ساركوزى
وموران، فلا بد من وضع بعض النقط: نحن نحترم منصب رئيس الجمهورية الفرنسية،
ولكن لا يمكن أن نقارن بين المستوى الفكرى والسياسى للطرفين. فالسياسة
ترتبط أساسا بالفعل والسلوك المضبوط والمخطط له والمراد منه أن يحدث
تأثيرا، بينما يتطلب الفكر الثبات والاستمرارية والتحليل والتأمل وأخذ
المسافة، وهذا معطى شبه ثابت بشكل عام، ومتجذر أكثر فى المشهد العربي، حيث
تكريس ذلك الشرخ الكبير بين المعرفة والسياسة.
* لماذا من وجهة
نظرك؟
** لأن واقع المعرفة متواضع فى العالم العربي، بينما الأمر
مختلف فى الدول الغربية، حيث تبقى المعرفة قوة ومنتجة وفاعلة، وتنتج أدوات
التحليل، عبر الإحصاء مثلا، كما أنها تؤثر على الرأى العام وتؤثر على
القرارات التى تُتّخَذ فى المجالات السياسية والقطاعات الاقتصادية.. إلخ.
وعلى صعيد آخر، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن العالم الغربى يتجه خلال
العقود الأخيرة، إلى اعتبار المفكر مجرد خبير أو له دور استشاري، ولم نعد
أمام نموذج السياسى المفكر، من طينة الرئيس الفرنسى الأسبق، فرانسوا
ميتران، الذى كان مفكرا ومؤسسا لتيار يسارى عريض، على عكس سمات ساسة اليوم،
حيث يغلب عليها منطق التدبير، مقابل تقلص أداء حقل الفكر إلى مجالات
الإبداع والأدب، ولم يعد يُعتَرف به إلا إذا كان منتجا لقيمة اقتصادية.
* من قبيل؟
** من قبيل ما نطلع عليه فى مجالات الموسيقى والفن
وعروض الأزياء والسينما..
* ولكن، أمامنا العديد من الأمثلة فى المجال
التداولى الغربى التى تؤكد أن المفكر الغربى لا زال بشكل أو بآخر يؤثر فى
صناعة القرار، ونذكر منها أطروحات فرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون، على
سبيل المثال لا الحصر؟
** نعم، ولكنه تم اللجوء إلى أطروحات هذين
العلمين من باب الخبرة أساسا، ثم إنهما يأتيان بعد الممارسة السياسية
المتغطرسة، ونحن بالدرجة الأولى إزاء البحث عن مخارج إيديولوجية سياسية
لوقائع مادية وسياسات متبعة أكثر منه تطبيق لأطروحات فكرية.
بالنسبة
للواقع فى العالم العربى والإسلامي، فإن الوقائع التاريخية تؤكد أن الكلمة
الأولى كانت دوما للسلطة السياسية على حساب مواقف السلطة المعرفية أو
العلمية.
صحيح أنه كانت هناك بعض الفترات الاستثنائية، أو ما قد
نصفه بـ"اللقاءات السعيدة"، كما تَجَسّد مثلا مع حالة المأمون وابن الخطيب
وابن سينا.. ولكنها كانت حالات خاصة، وما زاد الأوضاع اشتباكا أن الغلبة
كانت لسياسات مبنية على أساس ديني.
أما اليوم، فهناك إجماع على أن
مكانة المعرفة أصبحت ضئيلة بالنسبة لإنتاج القيم، وهى أضعف فى البلدان
العربية، ونحن متخلفون حتى فى ميدان الإبداع والنقد والأدب ونشر الكتب، فى
حين أن أغلب الشركات الكبرى فى العالم، تبقى منتجة للتقنية وللمعرفة ولقيم
معينة، حتى لو كانت مبنية على الإشهار وتسويق السلع والتلاعب بالمشاعر
وتكريس منطق التسويق والاحتكار، ولكنها قيم. ثم إنه لا يمكن لأغلب المفكرين
والباحثين العرب أن يعيشوا على ما ينتجون، فبالأحرى، أن يكونوا قيمة عليا
تؤثر فى مجال اتخاذ القرارات.
صراع الإيديولوجيات العلمانية
والإسلامية
* هل يمكن الحديث عن عالم عربى مأزوم ومُشتت بين صراع
الإيديولوجيات العلمانية والإسلامية اليوم؟
** علينا العودة إلى
تاريخ الأفكار، حتى نوسع دائرة التحليل، وسوف نجد أنه عبر مجريات الأحداث
فى العالم العربى الإسلامي، كنا دائما أمام ثلاثة تيارات أساسية: هناك تيار
قد نصطلح عليه بالتيار المحافظ، ثم التيار الذى يبحث دوما عن الجديد، وقد
يجد هذا الجديد فى العقل أو التصوف..إلخ، وقد يسمى بالتيار التحديثى أو
الحداثى أو العلماني، وأخيرا، هناك تيار توفيقى بين التيارين.
وعلى
مر العصور، كان كل تيار يبحث عن أسس تنظيرية تخدم أطروحاته وأهدافه.
فالمفكر العربى الإسلامي، يبحث دائما عن الأصول، كما نجدها فى العناوين
المعروفة، من قبيل "أصول الفقه" و"أصول الدين" و"أصول السياسة"، بمعنى، أن
هناك تيمة تأصيلية "أو أصولية" حاضرة دائما فى الذهنية العربية الإسلامية.
بالنسبة للتيار الثالث مثلا، فإنه يتأسس على التوفيقية فى شتى
المجالات، سواء فى العلم والفقه والفكر.. ففى الفقه، نجد أن المذهب المالكى
يحاول أن يضع نفسه بين المذهب الحنفى والمذهب الحنبلي، وفى النحو، نجد أن
مدرسة بغداد تضع نفسها بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، وهكذا، ويعتبر ابن
رشد، أبرز رموز التوفيق فى الفكر الإسلامي، وقد تفرعت عنه نزعات توفيقية
بين النقل والعقل أو بين الأصالة والمعاصرة كما نتحدث عنها اليوم فى الخطاب
المعاصر.
لدينا ذهنية مبنية على التوفيق، وهذا هو الحل من وجهة
نظري، لأنه لا يمكن أن نلغى الجانب الإبداعى والاستشكافى الذى يجب أن يراعى
المتغيرات التى يشهدها المحيط، وبين ما ننتمى إليه، أو تلك المعتقدات
الثابتة، نحن فى حاجة إلى الطرح التوفيقي، وأعتقد أنه لا يتأسس ذكاؤنا أو
رهاننا الأساسي، على رفض هذا التيار أو ذلك، وإنما على التوفيق بطريقة
ناجحة ومبدعة.
خيار "الأخلاقية الواقعية"
* هناك من يرى أن
الصراعات القائمة اليوم بين التيار العلمانى والإسلامى فى الساحة العربية
الإسلامية، تكاد تكون تتمة للخلاف الشهير الذى أسس له الغزالى مع "تهافت
الفلاسفة"، ورد عليه ابن رشد فى "تهافت التهافت"، وهناك من يعتبر أننا نعيش
صراعا صريحا بين تيار يعتبر أن "الإسلام هو الحل"، وتيار مضاد يعتبر أن
"الوحى لم يعد منتجا للحقيقة"؟
** هذا يزكى كلامى السابق، وأعتبر
أننا فى حاجة اليوم إلى ما أصطلح عليه بـ"الأخلاقية الواقعية"، وهى منظومة
من القيم التى لا يمكن أن نجدها عند الغير، ولن نجدها إلا فى تاريخنا، شرط
أن تكون واقعية، بمعنى أن تأخذ بعين الاعتبار قوة الفاعلين المعاصرين، أكثر
من الفاعلين القدامى، وبواقعية أيضا، أى أنه لا يمكن أن نلغى التراث، أو
نُقَزّم من اختراع السيارة أو المكوك الفضائى باعتبارهما لا شيء! ولا يوجد
اليوم من يزعم أن امتلاكنا لناصية التكنولوجيا، قد يؤدى بنا إلى تهديد
هويتنا، دون أن يعنى ذلك أيضا أن نختزل الهوية فى الجلباب أو فى طريق
الأكل.
وواضح أن مشروع "الأخلاقية الواقعية" يتطلب تفادى السقوط فى
مأزق إقصاء أحد الطرفين "الماضى أو الحاضر"، لسبب جوهري، وهو أن خطاب
الإقصاء أو الاستئصال غير واقعي، وغير أخلاقى أيضا.
لنلاحظ أنه كلما
مررنا بمحن تاريخية، كلما ازداد تعلقنا بمنظومة من القيم التى نرتبط بها،
والعودة إلى الهوية للدفاع عن أنفسنا، وهذا يطرح التساؤل التالي: هل نحن
مستعدون لنفى هويتنا وثراتنا، مقابل تبنى مرجعيات غربية؟
وإذا كنا
مستعدين فعلا لتبنى هذا الخيار المستحيل عمليا، فما مقابل ذلك؟ ثم، إذا
أخذنا بعين الاعتبار التطورات الكبرى التى تمر منها الإنسانية، أعتقد أنه
لا يمكن لأحد اليوم أن يزعم أنه ينتمى لهوية واحدة وموحدة، ولذلك، فإنه
مخطئ من يقول إنه هويته إسبانية أو عربية أو أمازيغية، لأنه ينفى ويمنع عن
نفسه الماضي. نحن نعيش زمن الهوية المركبة، ولنا الفرصة الذهبية لأن تكون
لنا هذه الهوية المتجددة.
فى الحاجة إلى النقد المزدوج
*
كانت مقالة الفيلسوف الفرنسى الراحل جون بودريار حول اعتداءات نيويورك
وواشنطن، من أهم ما صدر فى تقييم هذا الحدث، خاصة وأنه تبنى خيار النقد
المزدوج، أى نقد العقل الغربى المعاصر، ونقد العقل الإسلامى فى آن. لماذا
تغيب مثل هذه المقارنات النقدية الرصينة فى أغلب ما ينشر فى المجال
التداولى العربي؟
** لنلاحظ أولا أن العقل العربى المعاصر لازال
يعيش على إيقاع الصدمة، فمن جهة، مررنا بصدمة اللقاء مع الغرب والحداثة،
واستفدنا منه، وتعرفنا على الذات، وكان أبرز نتائج هذه الاستفادة، حصولنا
على الاستقلال، وفى مرحلة ثانية مع إكراهات العولمة على الخصوص، بزغت أزمات
متتالية، لعل أبرزها أزمة الدولة القطرية ومعها الدولة القومية، سواء كانت
عربية أو فارسية.
لقد تحطمت إيديولوجيات كبرى، وعوضتها إيديولوجيات
مشتتة وظرفية، وأحيانا شخصية، وقد أفرز هذا التفتت الإيديولوجي، طرق مرحلة
الاحتجاج والتمرد دون أن يصل إلى مرتبة التغيير أو الثورة، لأن تحقيق
الثورة يتطلب ثقافة وزمنا وتنظيرا.
* لماذا تأخر هذا التغيير، بالرغم من
أن الواقع العربى يعج بالعديد من المشاريع الفكرية، فى المشرق والمغرب على
حد سواء؟
** مع احترامى للكثير من أصحاب هذه المشاريع، أرى أن البعض
منها لا يعدو أن يكون فقاعات ثقافية، أكثر منه مشروعا فكريا رصينا، سواء فى
الشرق أو الغرب، ولو أخذنا فى الحالة الغربية، مشروع صامويل هنتنغتون، فهل
يمكن أن يصل هنتنغتون من حيث الإنتاج والإبداع إلى مرتبة ابن رشد وابن سينا
أو إدغار موران. وينطبق نفس التقييم على أغلب أصحاب المشاريع الفكرية فى
العالم العربى والإسلامي.
لا يتجاوز سقف أعمال هنتنغتون، مرتبة
ثقافة "التفكير السريع"، وعلى المفكر، حتى يكون أهلا لصفة التفكير
والإبداع، أن يتجاوز هذا السقف. على أن هناك عائقا آخر، يقف وراء تواضع
أداء الإنتاج المعرفى فى العالم العربي، وهو غياب المؤسسات وتواضع أدائها،
ومرد ذلك من وجهة نظري، أن المعرفة ليست قيمة اجتماعية وأخلاقية، فالمفكر
العربى لا زال مُهَمّشا، ونادرا ما يُسمع عنه، كما أن عالم الاجتماع مثلا،
لا يؤثر فى العمل السياسى وبالتالى صنع القرار السياسي، ولا يتم استحضار
المثقف العربى إلا عندما يتم الإعلان عن تنظيم الندوات والمحاضرات، وتكفينا
دلالة هنا، أنه حضور المثقف فى المظاهرات الاحتجاجية لا يُعْتَبر حدثا فى
حد ذاته، بل إنه يتعرض للقمع، إضافة إلى أن ميزانية البحث العلمى ضعيفة
جدا. وأعتقد أننا بشكل أو بآخر، نستحق عن جدارة تخلفنا.
* أين يكمن
المخرج إذن من هذه الأزمات المركبة؟ وما قولك فى اختزال البعض لهذا المخرج
عبر ضرورة المرور على محطة الإصلاحات السياسية، أو الإصلاح الدينى عند
البعض الآخر، وهو من يذهب على النقيض معتبرا أن "الإسلام هو الحل"، وغيرها
من الشعارات المؤدلجة؟
** يكمن الحل من وجهة نظرى فى حتمية إطلاق
سراح الفكر، كيفما كان الفكر، ونحن مع الثوابت والهوية، وأن نبتعد عن عقلية
الدارسين والخبراء والانتهازية السياسية الظرفية، خاصة تلك التى تهم تأسيس
مشاريع اقتصادية ومجتمعية وعلمية.
كيف نفسر مثلا، أننا لا نعلن عن
فشل مشاريع كبرى ننخرط فيها إلا بعد مرور عقود، فى حين أن التأسيس لمشروع
ما، يتطلب أولا استحضار أرضية رصينة يحررها متخصصون، وليس رأى الأهواء
والأماني، وأن نربطه بثلاثين سنة قادمة، وأن نضع له آليات المراقبة، وهذه
مسائل ثلاث لا نطبقها فى المشاريع الكبرى التى نعلن عنها.
ثم كيف
لنا أن نتحدث عن نهضة وتنمية إذا كان الفارق بين الراتب الأدنى والراتب
الأعلى يصل إلى مئات المرات، وهذا نموذج لا يمكنه أن يخدم رهانات التنمية
فى المنطقة العربية، كما أنه لا يستقيم الحديث عن النهضة والتنمية إذا كنا
نهمش من خطر الفقر الفكرى والمادى معا، ولا نسعى إلى تأهيل الإنسان، ووضعه
فى حالة تمكنه من الوصول إلى المعارف والصحة وتحصيل حدود أدنى من العيش
الكريم، دون أن يعنى أنه سنقضى نهائيا على الفقر والظلم، ولكن، لا بد من
حدود أدنى من المبادرات حتى يصح الحديث عن تنمية وتقدم ونهضة. على صعيد
آخر، ولأننا لا نعيش وحدنا فى هذا العالم، علينا أن نحدد مواقفنا من قيم
كونية بخصوص العنف وحروب الإبادة والتسلط والتمييز العنصرى والتعذيب، فلا
مفر من تحديد مواقفنا بشكل صريح من هذه التحديات.