مفكرون عرب أم فلاسفة؟
سعد البازعي*
دار
الحياة - 18 نوفمبر 2004
لا بد للإجابة عن هذا السؤال أن تنطوي
على فهم للمقصود بالفلسفة. وسيدخلنا ذلك في أولى الصعوبات الماثلة في أفق
السؤال. لكن الحاجة العملية للوصول إلى إجابة ما تقتضي الوقوف ولو على
أطراف تلك الصعوبات وسؤالها الذي أقض مضجع كل من أنتج الفلسفة أو انشغل
بها, من ثاليس اليوناني إلى دولوز الفرنسي, مروراً بمفكري المسلمين حتى
ديكارت وسبينوزا وهيغل وهايدغر وغيرهم كثير. هايدغر, على وجه التحديد, جعل
من ذلك السؤال مدخلاً للتفلسف في محاضرة ألقاها في فرنسا عام 1955 (ونشرت
في كتيب في العام الذي تلاه). ولو أخذنا بأطراف إجابة هايدغر المثيرة
والمرهقة ذهنياً طبعاً لوجدنا مدخلاً للسؤال المطروح هنا على المستوى
العربي. يقول هايدغر: "سنجد الإجابة عن سؤال: - ما هي الفلسفة؟ - ليس من
خلال التصريحات الجازمة المتعلقة بتعريفات الفلسفة, وإنما من خلال التخاطب
مع ذلك الذي ورثناه بصفته كينونة الكينونة".
ما يهمني هنا هو السؤال التالي: هل لدينا أحد
اشتغل على الفلسفة من منظور يوازي منظور هايدغر في الابتكار أو الأهمية؟ لا
أقصد أحداً يمكن وصفه بالفيلسوف الوجودي, وإنما من شغله السؤال على مستوى
مشابه أو موازٍ وطرح رؤية فلسفية أضافت إلى اجتهادات الفلاسفة الآخرين.
شخصياً لا أعرف عربياً معاصراً ينطبق عليه ذلك الوصف مثلما ينطبق على
هايدغر, وإن كان من بين الباحثين العرب من يرى أنه يستحق وصف "فيلسوف"
وربما يكون عبد الرحمن بدوي هو الأشهر بين أولئك, فقد وضع نفسه في قائمة
الفلاسفة في موسوعته المعروفة, بعد أن صنف نفسه في مجموعة الوجوديين. وقد
يكون بدوي وجودياً حقاً, أو متبنياً للفلسفة الوجودية, بل إن موسوعته هي
الوحيدة التي تضع اسمه ضمن الموروث الفلسفي الإنساني. لكن إذا كان ذلك
اعتراف الآخرين, لا سيما في الغرب, غير ملزم نتيجة التحيز الثقافي أو
العزلة, فإن السؤال سيكون: ما الذي يؤهل بدوي لوصف "فيلسوف"؟
محمود أمين العالم, المفكر والناقد الأدبي
المصري المعروف, أجاب عن هذا السؤال في مقالة له حول بدوي يحمل عنوانها
إجابة مبدئية على السؤال: "عبد الرحمن بدوي: هذا الفيلسوف المؤسسة", مبيناً
أن صفة "فيلسوف" تنطبق على بدوي لأنه يحقق التعريف الأساسي الذي يجعل
الفيلسوف من يستطيع "بلورة نظرية كنسق فكري شامل متكامل". والنسق الفكري
المقصود هنا هو النسق الوجودي الذي يؤكد محمود العالِم على انتماء بدوي
إليه. لكن الطريف أن العالم بعد تأكيد ذلك الانطباق يعود فيقول: "في
الحقيقة, إن وجودية عبد الرحمن بدوي ليست في صورتها المذهبية العامة أو
التفصيلية إلا تهميشاً على مذاهب هؤلاء الفلاسفة الوجوديين وبخاصة مذهب
هايدغر".
والطرافة بالطبع هي في مسألة "التهميش" التي ترغمنا على العودة إلى الجزم
بتبوؤ بدوي لمرتبة الفلاسفة على رغم كون "فلسفته" أو نسقه الفكري, مجرد
"تهميش" على الفلاسفة الآخرين! قد يقال إن الفلاسفة الوجوديين الآخرين هم
أيضاً سلسلة تبدع ضمن نسق شامل هو النسق الوجودي, أو الفلسفة الوجودية, مما
يجعل بدوي أهلاً للوصف مثلهم. لكن دارسي كيركيغورد وهايدغر وسارتر وغيرهم
من فلاسفة الوجودية أو مفكريها يدركون أن صفة التهميش لا تنطبق بحال على
أولئك لا سيما الاثنين الأولين (فقد قيل عن الفلسفة الفرنسية إنها أيضاً
"تهميش" على الفلسفة الألمانية)؟ ومن هنا يبقى السؤال مفتوحاً عن قيمة
الإضافة التي قدمها بدوي على مستوى التفلسف: هل يمكن فعلاً وصفه بالفيلسوف
وإنجازه بالفلسفة؟
لا أظننا نبالغ لو قلنا إن المسلمين الأوائل
قدموا أسهاماً في الفلسفة وغيرها يفوق ما قدمناه في العصر الحديث, لكن
شواهد كثيرة تؤكد ما يذهب إليه هايدغر في محاضرته السالفة الذكر بأن
التفلسف جزء من التكوين الثقافي الأوروبي. وإن نحن حاولنا استكناه السبب
وراء ذلك فسنجده ماثلاً في تاريخ العلمنة الثقافية التي تراكمت على مدى
أربعة أو خمسة قرون وجعلت الفلسفة مصدراً أساسياً للثقافة الغربية, وعلى
نحو لا نكاد نجده في أي ثقافة أخرى. فكثافة الميتافيزيقي/الديني, أو
الروحاني عموماً, في ثقافة كالثقافة العربية المعاصرة يجعل من الفلسفة
والتفلسف هامشيين قياساً إلى الوضع في الغرب. الأسئلة الكبرى يجيب عنها
الدين أكثر مما يجيب عنها العقل مستقلاً عن الدين. ومن مؤشرات ذلك أن
كثيراً ممن سعوا إلى تأسيس مكون فلسفي معاصر في الثقافة العربية إما عادوا
في آخر رحلاتهم العقلانية إلى الموروث الإيماني أو سعوا إلى البقاء قريباً
من ذلك الموروث طوال رحلتهم (زكي نجيب محمود, بدوي, محمد الحبابي, مثلاً).
من هنا أمكن التشكيك في إمكان الحديث عن فلسفة
عربية معاصرة, أو إسهام فلسفي عربي يمكن أن يوصف بأنه "عربي", أي متميز
بصدوره عن سياق ثقافي غير السياق الثقافي الغربي. لكن هذا ينبغي أن يتبع
بالقول إن غياب التفلسف الحقيقي لا يعني بحال غياب الفكر المتميز. وهنا
ندخل في مسألة أخرى, لأن الفكر انشغال عقلاني لكنه ليس مربوطاً بالأسئلة
التي تطرحها الفلسفة عادة, أو الأسئلة التي تشكل الموروث الفلسفي: أسئلة
الوجود والماهية والمعرفة وما إليها. الفكر انشغال عقلاني في حقول معرفية
مختلفة, ينتج عن إسهامات من شأنها تطوير تلك الحقول على المستوى النظري
وإغناء الحضارة الإنسانية من زوايا مختلفة. وأجدني هنا أميل إلى الاختلاف
مع التعريف الشائع للفلسفة كالذي نجده لدى محمود أمين العالم, حيث يجعل
الفلسفة قرينة للنسق الفكري الشامل المتكامل. ففي ظني أن النسق الفكري
الشامل المتكامل - إذا فهم ذلك النسق بصفته نسبياً لا مطلقاً - يتحقق
أيضاً, وإن بصور مختلفة, في كثير من الاجتهادات الفكرية التي تتبلور في
حقول غير الفلسفة, لا سيما في العلوم الإنسانية.
سيبدو كلامي هنا نوعاً من المماهاة بين الفلسفة
وغيرها من مجالات الفكر, مما يستلزم التوضيح بأن الممكن فهم الفلسفة على
أنها اجتهاد فكري من نوع مميز, تماماً مثلما أن نظريات علم الاجتماع أو علم
النفس أو النقد الأدبي, اجتهادات فكرية من أنواع مميزة أخرى, أنواع تستجيب
لشروط الحقل المعرفي أو الإبداعي الذي تتعامل معه. الفلسفة اجتهاد متميز
تاريخياً باتصاله بأسئلة أساسية في الوجود والمعرفة والهوية, اجتهاد اقتضته
ظروف ثقافية وتاريخية, وربما اقتصادية وجغرافية, محددة, وهي من ثم ليست
بالضرورة ملزمة لكل الثقافات بحيث لا ترتقي أي ثقافة مراتب الأهمية إلا
بالاستجابة لتلك الضرورة.
في الثقافة الغربية المعاصرة تعيش الفلسفة
حالياً وضعاً هامشياً قياساً إلى أهميتها التقليدية, فأقسام الفلسفة في بعض
الجامعات الغربية إما تلغى أو تدمج في غيرها, وبات من المألوف ألا يوصف
كثير من المفكرين المعاصرين, مثل فوكو ودولوز ودريدا وبورديو, بصفة
"الفيلسوف", بل إن منهم من ينكر ذلك, أو ينكر وصف منجزه بالفلسفة, مثلما
يفعل دريدا. فهؤلاء فلاسفة في وسائل الإعلام أكثر مما هم كذلك في الدراسات
الجادة التي تتعمق أعمالهم.
*أكاديمي وناقد سعودي.