جريدة الاتحاد
17 ديسمبر 2022
عبد الله الغذامي
أبسط تعريف للسلفية، هو التزام الخلف بما قاله أو فعله السلف، وأي مخالفة لقول السلف أو لفعلهم ستكون بدعةً، والبدعة ضلالة، والسلفية اللغوية ابتكرت لنفسها قانونين هما قانون «قل ولا تقل»، وهو قانون سلطوي يمنح اللغوي فيه نفسه حقوق الوصاية على لغة الإبداع والفكر فلا نتكلم إلا بعد إذنه، وهو إذن قياسي يعتمد قانوناً واحداً هو إلزامنا بأن ننطق حصرياً كما نطق أسلافنا الأول، والقانون الثاني هو قانون «الفصيح» بمعنى أن الفصيح هو ما توافق مع لغة أسلافنا تلفظاً ومعنى، ويلزمك أن تنطق كما نطقوا وأن تلتزم بمعاني نطقهم ولا تجترح معاني لم يجترحوها وقد بلغ التوجس الثقافي درجات بأن يسأل الناس عن فتاوى لغوية تبيح لهم النطق وتخوفهم من مخالفة الفتوى اللغوية كي يحافظوا على فصاحتهم المصنعة لهم سلفاً، وشاع على الألسنة سؤال «هل الكلمة الفلانية فصيحةٌ» بمعنى هل نطقها سلفنا القديم ممن مات قبل قرون، فإن لم يجد النحاة عبارةً مأثورة عن جاهلي أو أموي، فإنك لست في حل بأن تقول غير ما ورد عنهم، وهذه تربية ذهنية وسلوكية هدفها صناعة أجيال تقلد أمواتها حذو القذة بالقذة، فتفكر مثلهم وتنطق مثلهم وتعبر عن وجودها مثلهم مهما اختلف هذا الوجود .
ولكي نتصور فداحة الوضع نستذكر أسماء مثل جبران خليل جبران، وطه حسين، والعواد، ونجيب محفوظ، وكلهم تعرضوا لحملات عنيفة ضد أساليبهم غير التقليدية، مما جعل جبران يكتب مقالته المدوية «لكم لغتكم ولي لغتي»، وصرخ العواد في وجوههم بقوله: «ليغضب سيبويه وليرضَ الذوق العربي السليم»، بينما تعرض طه حسين لنقد حاد من أكاديمي زعم أنه كشف مئتي غلطة لغوية ونحوية وبلاغية في كتاب الأيام، وقد نشرت توريقة عن هذا من قبل بعنوان «عيوب طه حسين»، أما نجيب محفوظ، فانتصر على العقبات كلها مذ أصبحت رواياته تشكل الذوق اللغوي الأسلوبي عند أجيال تتوالى وتتعاقب على نصوصه الخارقة لقواعدهم المتجمدة، والعجيب أن حجة النظرية السلفية اللغوية تقوم على حصر المرجعية اللغوية لما نطقه العرب قبل أكثر من اثني عشر قرناً أي للحد الزمني السابق للعصر العباسي، حتى إن المتنبي مثلاً ليس حجةً عندهم، ولكن الثقافة جعلته حجتها الشعرية الأكبر في تحدٍّ لذهنية التحريم اللغوي والقسر التعسفي، والمفارقة الآن هي في نمو ظاهرة السلفية اللغوية في تناقض مع روح العصر وتحولاته وفي تعارض مع التحولات الأسلوبية العميقة في الرواية وفي الخطاب الإعلامي، وكذلك الاقتصادي والمعرفي وقبل ذلك في مجازات الشعر الحداثي وأسلوبياته الخارقة لشروط الأعراف الموهومة، والأهم هو أن الزمن يسير من دون أن يلتفت لعقد السلفية اللغوية ومن دون انتظار أذونات منهم، ولو بيدهم لتم إلغاء طه حسين وجبران والعواد ومحفوظ من ذاكرة الثقافة.
وهذه تصدر عن عقلية الوصاية على العقول وعلى الأفكار عبر الوصاية على الألسن ومنها ما نقل عن الأصمعي أنه قال: كنا نظن الطرماح شيئاً حتى قال:
وأكره أن يعيب عليّ قومي ........... هجائي الأرذلين ذوي الحنات
وسبب تقليله من شأن الطرماح أنه قال حِنات، والواجب أن يقول: إحنةٌ أوإحنٌ، وليس حناتاً حسب الأصمعي. وهكذا وبسبب كلمة واحدة تحول الشاعر ذو الشأن الكبير إلى لا شيء. وهذا هو ما يتكرر عند فريق «قل ولا تقل» وبسببه جرى التشنيع على العواد وعلى جبران، وكانت ردودهما مدويةً على المتعنتين. وفي النهاية «لكم لغتكم ولي لغتي» كما حسمها جبران والعواد كذلك.