مجلة العربي الكويتية
1 مارس 2003
محمد الحديدي
اللغة تمنح الفرد الأمان, لأنها وسيلة التواصل والانتماء إلى الجماعة, وهي كائن حي, ينمو ويتطور ولكنه يتعرض للموت أيضاً.
اللغات كالناس, فهي لازمة من لوازمهم و(عضو) أساسي في تكوينهم, تولد بدائية جداً, وتظل بعد ذلك تكبر وتنمو, وتنقسم, كما تنقسم القبيلة إلى بطون, وقد تتوالد, كما حدث للاتينية منذ ألف وخمسمائة سنة, ونشأت منها لهجات منها الفرنسية - بجلالة قدرها, كما يقولون, وإلى يوليوس قيصر ينسب الفضل في ظهورها لأنه غزا بلاد الغال (فرنسا) منذ أكثر قليلاً من ألفي سنة, وفي منتصف السبعينيات من القرن العشرين نجد الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان يصدر قانوناً لحماية اللغة من (أنسر ماشين) و(بيبي سيتر) و (فاست فود), ولو كانت القوانين تحل المشكلات! لو أن عيسى بن هشام صحا مرة أخرى وطلب الجريدة ووجد فيها كلاماً من نوع الخصخصة والعولمة لظن أنه اختلط بشخص آخر مع أن الاشتقاق صحيح في هذه الحالة, وليس كما في الإنترنت والتجارة الإلكترونية. قاموس أي لغة ليس ما يصدره مجمعها اللغوي, إنه ما يدور على الألسنة وينصب على الورق ويجري به التواصل والتعامل.
هل هناك لغات ثقيلة على الأذن, وأخرى رقيقة? أغلب الناس يرون صوت (الخاء) يتكرر في الألمانية والروسية مثلاً, ويعدون هذا قبيحاً. في لغتنا نجده في تعبيرات عن الخوف والخيانة والخرف والخراب والشيخوخة (إن كانت هذه قبيحة?!) ولكنه أيضاً يتمثل في الخير والنخوة والرخاء, وإيليا أبو ماضي يسمى واحداً من دواوينه (الخمائل), كما أننا نحس بالجمال في (أوراق الخريف) و (خرير الماء) و (رنة الخلخال), جمال اللغة, وقيمتها وكل شيء فيها, بما في ذلك قدرتها على البقاء, رهن بما يفعله بها متحدّثوها, ليست الإيطالية لغة شائعة خارج حدود ذلك البلد, بل وفي داخله, فلديهم لهجات كثيرة, إلا أنهم شعب غنّاء بطبيعته, ورغم أنها واحدة من اللهجات التي تمخضت عن اللاتينية, فقد أصبحت مصطلحات الموسيقى إيطالية في كل لغة,: (الليجرو - مانون تروبو!) حتى أسماؤهم كأنها أغنيات: من نجوم الأوبرا والدراما: (لوتشيانو بافاروتي) - (سيلفانا بامبانيني) - إلى السياسيين والحكام, لا غفر الله لهم: امنتوري فانفاني - ساندرو بيرتيني...
اللغة والهوية
بعد اكتشافات كولومبس وماجيلان وغيرهما من الرحالة, هبت القوى الأوربية من إنجليز وفرنسيين وإسبان وبرتغال, لتنقض على هذه الكنوز الطائلة, وفي غمرة المعمعة, أبيدت ملايين من البشر, وهلكت آلاف اللغات, لم تكن إيرلندا دنيا جديدة, ولكنها لاتزال على حافة الكون الذي كان معروفاً, وأهلها كاثوليك الديانة ويتكلمون لغة ليست أنجلوسكسونية, وإن كانت جذورهم العرقية ليست مختلفة تماماً, أما المثال الثاني الذي يعنينا هنا فهو نيوزيلندا, التي تقع أيضاً على حافة العالم في الاتجاه المضاد. لنأخذ هذه أولاً: سكان نيوزيلندا - مثل نظائرهم في أستراليا, الـ(آبوريجيني) - ما لبثوا أن وجدوا أن لغتهم - واسمها بالإنجليزية (ماوري), وبالماوري آوو - تيرووا (لابد أن تكون شيئاً كهذا طبعاً), ومعناها بلاد السحابة البيضاء الطويلة, وجدوها لا تصلح لتعليم أبنائهم أي شيء ينفع في مجتمع حديث, وبدأت اللغة القديمة تنحسر إلى أن وصل عدد الذين يعرفونها إلى مالا يزيد على عشرة آلاف من العجائز الذين يستخدمون الإشارة في محادثة أحفادهم. ولكن هؤلاء تمرّدوا على هذا الوضع. لا بشراء السلاح من تشيكوسلوفاكيا, بل بإنشاء ما أسموه (عن اللغة) - وحدات صغيرة تصل الآن إلى ما يقارب الألف, يتعلم فيها الصغار اللغة التي نبتت من التراب الذي يعيشون عليه (الدروس الخصوصية عندهم ليست جريمة شنعاء!).
أحسّ أبناء المهاجرين من إنجليز وغيرهم أنهم شركاؤهم في هذا التراث, وفي سنة 1987 أصبحت الماوري لغة رسمية ثانية إلى جانب الإنجليزية, بل ودخلت إلى حنايا إنجليزية نيوزيلندا وامتزجت بها إلى حد يجعل البعض يخشى أن تنقسم هذه إلى لهجات هنا وهناك, وتكون سطوتها وانتشارها بداية انحلالها كما حدث للاتينية.
الوضع في إيرلندا يختلف قليلاً...
غزا الإنجليز إيرلندا بعساكرهم, فما كان من الإيرلنديين إلا أن غزوا إنجلترا بشعرائهم وأدبائهم.
هذا برغم قيام حركات متعددة تهدف إلى إحياء اللغة والتراث, كان الإيرلنديون - والأسكتلنديون - يتكلمون لغة الـ(جيليك) قبل مجيء الإنجليز في القرن الثاني عشر, وكانت في أول الأمر لغة شفوية محضة, وتراثها محفوظ على ألسنة شعراء ورواة بطريقة تشبه الربابة عندنا, وفي القرن الرابع عشر بدأ بعض الرهبان يكتبونها للحفاظ على أزجالها ومواويلها, وكما هو معروف, فإن شعب هذا البلد كاثوليكي الديانة أيضاً, وهو سبب إضافي لكراهة الإنجليز ومازال حتى يومنا هذا سبباً للصراعات الدموية في الجزء الشمالي من هذه الجزيرة الذي لايزال جزءاً من المملكة المتحدة. بمجيء أوليفر كرومويل إليها في منتصف القرن السابع عشر, بدأت اللغة تتدهور خصوصاً بتأثير مجاعة أثرت في أقاليمها الغربية التي تسودها اللغة القديمة, وانخفضت أعدادهم إلى ثلثها في ثلاث سنوات, إلا أنه في أواخر القرن التاسع عشر بدأت حركة قوية لإحياء اللغة القديمة, مصحوبة ببغضاء متزايدة نحو الإنجليز, لم يمنع هذا كله من إسهام برنارد شو وأوسكار وايلد بأعمالهما العظيمة التي تعد طبعاً فصولاً من الأدب (الإنجليزي) الرفيع بحكم اللغة التي هي مكتوبة بها, ازدهر بعد ذلك أدب أمير شعرائهم وليم بتلرييتس (1865 - 1939) مؤسس المسرح القومي الإيرلندي, (آبي ثياتر) والذي بنى شهرته ونجاحه على مسارح لندن! ثم الروائي الكبير جيمس جويس (1882 - 1941), الذي ينكر انتماءه لإيرلندا ولأي شيء آخر, ولكن أعماله - من نوع قصته الشهيرة (الموتى) - تعبّر عن انتماء عميق وتام ومتأصل. طبعاً, نالت إيرلندا استقلالها في أواسط العشرينيات بعد كفاح مرير وأصبحت جمهورية إيرلندا التي نراها اليوم. فقط, أين اللغة? مازالت توجد على لافتات الطرق السريعة إلى جانب الإنجليزية, ولو تصوّرنا أنه - بقدرة قادر - أمكن لدعاتها أن يجعلوها هي (اللغة), فإلى أين يذهب هذا التراث الهائل من أعمال ييتس وجويس وشون أوكيس وادنا أوابراين, المكتوب كله بالإنجليزية والذي أصبح الإنجليز أنفسهم يعدّونه تراثهم ولا يمكنهم دراسة الأدب الإنجليزي - لا هم ولا غيرهم - دون أن يقرأوا أشعارهم وآدابهم? كل هذا من أجل عدة مواويل أو أساطير? وكيف يعيشون, وقد أصبحت إيرلندا عاصمة صناعة برمجيات الحاسب الإلكتروني? ولو تحوّلت عن الإنجليزية لانهار كل شيء في حياتها. ولكن الزعماء السياسيين الانفصاليين في إيرلندا الشمالية يظلون يمارسون الأحلام, أو على الأقل, يتخذونها حجة, ومنذ متى كان الزعماء السياسيون يفعلون غير هذا?
اللغات, هل هي كائنات حيّة؟
نظنها كذلك, بدليل أنها تموت! الموت عند علماء الأحياء هو الدليل الوحيد على سبق الحياة. إنه الحقيقة الكبرى: (لاشيء غير ذلك حاصل!) الكون كله سوف يفنى لا محالة, هكذا يقول القانون الثاني للديناميكا الحرارية, سوف تخبو جميع الشموس, وفيها شمسنا طبعاً, وتنهال الثلوج (على الأحياء وعلى الموتى), كما يقول جيمس جويس في نهاية قصته تلك! كل هذا التراث! تأمل هذا الشيخ الضرير وهو يرسم هذه اللوحة البديعة, بالكلمات! ويالها من كلمات, كانت تحفته التي لا مثيل لها: (رسالة الغفران) ردّاً على دعوة من رجل لا يعرفه, ابن القارح, لأن يكتب رسالة أدبية لكي (يسيرها بحلب وغيرها إن شاء الله). كانت هذه وسيلتهم لنشر الكلمة, كانت أفضل, من وجهة أو أخرى, ويقول له إنه سمع به (الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه, وباللغة والعروض من الخليل), أثار هذا حماس الشيخ طبعاً, فقد كانت اللغة - كما قال عنه كامل حسين: (هي النافذة التي أطل منها على الدنيا) - أدخل (المرسل إليه) عالم الآخرة, وفي مقابلته مع الجني, نعرف قيمة اللغة عند الأديب الفنان, وقيمة الأديب الفنان عند اللغة! في قصيدتين روعتهما لا تكاد تصدق! يصف الجني شبابه وشقاوته, وكيف كان يأتي ليلة العرس وينقضّ على (غادة محجوبة), زفّت إلى رجل نبيل وسيم (لا هو بالنكس ولا بالضبيس) (أستميح القارئ عذراً, هذه بالضبط هي المسألة, كلام العفاريت) - لا يستسلم أبداً, للرقى أو أي حيلة لصرفه عنها - ملحمة تقرب من سبعين بيتاً, سينية, تسبقها الياء دون الواو, مقيدة, وهو نوع مخفف من (لزوم ما يلزم), الذي يسود الرسالة كلها في نثره المسجوع, دون تخفيف في هذه الحالة, فقط مجرد هذا يستلزم قدرة لغوية مع موهبة فنية, وكنز من أحداث التاريخ والأساطير, تمتلئ بكلمات مثل العربسيس والخندريس, والدردبيس, والعنتريس, والكليس والانقليس, والهسيس والطسيس والكسيس والخفيس والنهيس... إلى آخره! ولا يفوته أن يروي أنه حاول أن يهرب بجلده (هذا إن كان له جلد) من الطوفان, متعلقاً بالسفينة, ولكنه نال علقة من (المرء نوح) صرفته عنها. (بم غفر له?), عندما أيّد الله رسوله بجنود من عنده, كان واحداً منهم, (وسرت قدّام علي غداة النهر حتى فلّ غرب الخميس!) - الخميس هو الجيش, على أساس أنه يتكون من خمس فرق.
إلى هذا الحد تبقى اللغة حيّة بفعل هذا التفنن المدهش, ورعايتها - بدورها - هي التي تشحذ وجدان الفنان! كان المتنبي - قبل ذلك بنحو سبعين سنة أو أكثر - يتفاخر بأن علماء عصره (ابن خالويه) وأضرابه, ينفقون الليل في العراك فوق معضلة أو أخرى, أما هو فـ(أنام ملء جفوني عن شواردها), وهم يختصمون, هذا هو ما جعل منه شاعرا (ملأ الدنيا وشغل الناس).
اختلاف اللغات
إذا كانت اللغات قد نشأت نتيجة لقدرة الإنسان على إصدار أصوات معينة بحكم تكوين فمه وحلقه ولسانه وشفتيه, ثم قدرته على تخليق كلمات ترمز للمعاني والأشياء, بحكم تكوين جهازه العصبي المدهش, فما هي الفوارق بين اللغات, وكم مليونا من اللغات يا ترى, وكم منها قد اختفى ولماذا?
الفوارق بين الأصوات المنطوقة والرموز المكتوبة سهلة وكثيرة, ولكنها ليست ذات أهمية كبرى, في لغتنا مثلاً, توجد الحروف التي أشرنا إليها والتي تشترك فيها اللغات السامية, مضافاً إليها (الضاد) التي تنسب إليها لغتنا. وقد أصبحنا أكثر كسلاً من أن نخرج أطراف ألسنتنا لكي نتوصل إلى النطق الصحيح لكلمات مثل (رذاذ) أو (رثاثة) أو حتى (الظنون) و (الظلم) و(النظائر) - لا أظن هذا الحرف البديع يتكرر في أي كلمة, نحن قد ألغيناه تماماً ولعل الكثيرين منا لم يعودوا يحسّون بوجوده! إلا أننا - من جهة أخرى - نفتقر إلى حرف الجيم - وسأسمّيه الجيم الحادّة - كما في اسم الممثل الأمريكي (جريجوري بيك) - ثم إلى الحرف المتكرر في اسم الممثلة (فيفيان لي) - ولابد أن نكتبه بالفاء, وكذلك إلى الباء الثقيلة, كما في (بينيلوبي), التي هي زوجة (أوديسيوس) وام (تليماخوس) في ملحمة الأوديسا. لابأس بهذا, وفي كل اللغات الكبرى تستخدم الحروف المتوافرة في نطق كلمات لا تتوافر كل حروفها, الروس ليس لديهم (هاء) ويسمّون المستشفى (جوسبيتال) بينما الأوكران - وهي اللغة نفسها تقريباً, أو لهجة منها - يقولون (بروهرام) - ليست هناك مشكلة في هذه المسألة سوى الاصطلاح عليها. كل اللغات مليئة بالمفارقات والتناقضات التي تأتي من أنها قد بدأت تظهر وتستخدم في وقت كان العقل الإنساني فيه بدائياً جداً. الرياضيات والمنطق, كلاهما بدأ يتبلور منذ بضعة ألوف من السنين, والكتابة والطباعة كذلك, الأولى ترجع لستة آلاف سنة, والثانية إلى أقل من ستمائة سنة, ولم يعد المفكرون يعرفون ماذا يفعلون بهذه التناقضات: برنارد شو استوحى مسرحيته (بيجماليون) من طريقة الإنجليز في استخدام لغتهم (سيدتي الجميلة فيلم قام عليها), ووصفهم بأن أسوأ ما فيهم هو أنهم لا يعرفون كيف يتكلمونها, واتخذ من المفارقات الهجائية مادة للمزيد من السخرية, وقال إن كلمة (Fish) يعني سمك, كان يمكن أن تكتب هكذا (ghoti), تماشياً مع بعض تلك الحالات, أما الكاتب الأمريكي (مارك توين) فله مقالة عنوانها (هذه اللغة الفظيعة) يقصد الألمانية, اللغات طبعاً نشأت في عصور لم يكن فيها المنطق قد نضج بما يكفي لأن تبدو منطقية في عصرنا هذا.
اللغة والانتماء
هل ينتمي الإنسان - فرداً أو جماعة - إلى لغته?
سؤال عويص, فمن حيث إن اللغة هي وسيلة التواصل, فإن الفرد الإنساني يكون في وضع أكثر أمناً عندما يعيش ويعمل ويربّي أولاده ويحكي لهم قصة قبل أن يناموا - عندما يفعل كل هذا في بيئة يتكلم لغتها. وقد كان الهنود الحمر يتزاوجون مع قبائل منهم تتحدث لهجات مخالفة لهم, ويروى أن العريس والعروس كانا يكفّان عن الحديث عندما يهبط الظلام. لأن الحديث بالإشارة وتعبيرات الوجه فقط, وفي غيبة الكهرباء, كان هذا يتعذّر ليلاً, ومعروف أن شعوب القارة الهندية تتكلم عشرات اللغات واللهجات المتفرّعة منها, وعندما فكرت المؤسسة مرة في تعميم اللغة الهندية وجعلها هي لغة الهند, بدلاً من الإنجليزية التي تسود هناك وفي مواضع أخرى تعاني من تعدد هائل في اللغات, كالفلبين, على أساس أن الهندية هي أكثر اللغات انتشاراً هناك, ويتحدث بها ما يقرب من مائتي مليون, قامت القيامة - طبعاً - لأن هذا سيجعل أبناء اللغات الأخرى ممن لا يزالون مواطنين, يعانون في أزراقهم, وسيصبح على من يعمل محامياً مثلاً أو معلماً, أن يتعلم الهندية أو يبحث عن مهنة أخرى, ومازالت الإنجليزية تسود هناك حتى الآن, ومعروف أن شاعر الهند الكبير طاغور كان يكتب بالبنغالية, وهي لغة يتحدث بها أكثر من مائة وستين مليوناً من أبناء القارة الهندية, لن يفوتنا قبل أن نمضي في هذا أن نلاحظ أن سويسرا - مثلاً - يتكلم شعبها أربع لغات مختلفة, وبلجيكا فيها لغتان أيضاً, وكندا الشيء نفسه, مما يدل على أن الكثير من مشكلات اللغة والحضارة يمكن التغلب عليها بارتفاع مستوى المعيشة, وأن اللغة وسيلة للمعيشة أكثر منها قومية أو هوية اجتماعية وإن كانت - بكل تأكيد - تظل كذلك أيضاً.
والحق أن للإنسان انتماءات متعددة, فهو ينتمي لأسرته (أو قبيلته إن كان في بيئة قبلية), وانتماؤه لمهنته يأتي من هنا, ومهما كان يحبّها أو يحسّ بالفخر لكونه ممن يشتغلون بها, فهي لاتزال مصدراً لإطعام أولاده قبل أن تكون أي شيء آخر, وإن كان لايزال يستخدمها في الغناء والتنكيت والتبكيت (هذا عنوان كتاب لفكري أباظة) - بل وفي تبادل الحديث مع عروسه في ساعات الليل!, ثم ينتمي الإنسان أيضاً لديانته, ثم لوطنه, ومن أسباب شقائه كفرد أو جماعة, أن تتعارض هذه الانتماءات, كما رأيناه يحدث في يوغوسلافيا والهند والفلبين وشمال إفريقيا, في كل مكان في العالم, فقط بأشكال ودرجات متعددة, من أكثر أمثلة التاريخ دلالة: إيرلندا.
لنجوا فرانكا
تعبير يرجع إلى أوائل القرن السابع عشر, وكان مقصوداً به لغة تكون مزيجاً من الإيطالية والفرنسية والإسبانية مضافاً إليها شيء من العربية, تشيع في موانئ البحر الأبيض المتوسط, ثم أصبح يستخدم للإشارة إلى أي لغة سائدة, فيقال الإنجليزية هي لنجوا فرانكا هذا الزمن, وكما ذكرنا فيما سبق, فإنه كما تموت الكائنات من الهزال الناشئ عن ضعف الغذاء, فإنها أيضاً تموت من السمنة التي تأتي من الشراهة والتخمة!
تلتهم الإنجليزية ما يقدر بثلاثمائة كلمة جديدة كل سنة, وفي قاموسها تعبيرات مستمدة مما يقدر بمائة وخمسين لغة! من العربية مثلاً الجبر Algebra, الكيمياء Alchemy, زينة Zenith, الخوارزم Algorithm, الواقي Lasvegas, ومن الروسية كلمات دخلت التاريخ Sputnick, Glasnost, Perestroika, ومن اللاتينية - على أوسع نطاق طبعاً, فهذه كانت لنجوا فرانكا قروناً طويلة, من قبل أوفيد, أمير شعراء الرومان (43 ق.م - 17م) لغاية توماس مور واسحق نيوتن, اللذين برغم كونهما إنجليزيين, فقد كتبا باللاتينية, الأول قصته الشهيرة (يوتوبيا) (1516), والثاني لايزال حتى الآن أخطر وأهم كتاب في الفيزياء, والجاذبية: (فيلوسوفيا ناتوراليس برنكبيا ماتيماتيكا) (1693) - ما الذي جعل الإنجليزية تسود زماننا هذا? أكثر من أربعمائة مليون يتكلمونها كلغتهم الأم, وأكثر من ألف مليون كلغة ثانية? في نهاية القرن التاسع عشر, سئل الزعيم الألماني بسمارك: ما الذي وقع في العصر الحديث وبعده هو أخطرها جميعاً? أجاب: شيوع اللغة الإنجليزية في أمريكا الشمالية.
معروف أن المهاجرين من المتحدثين بالألمانية كانوا حتى ذلك الوقت يفوقون في العدد نظراءهم من المتحدثين بالإنجليزية, ترى لو أن لغتهم هي التي سادت, هل كانت ألمانيا تقدم على إغراق الباخرة الأمريكية (لوزيتانيا) مما دفع أمريكا لأن تدخل الحرب العظمى في جانب الحلفاء? هل تفعل هذا بينما الشباب الأمريكي يدرس جوته بالألمانية في المدارس والجامعات, بدلاً من شكسبير بالإنجليزية? كنت قد سمعت أن تصويتا على اللغة دار في الكونجرس وأن الإنجليزية كسبت المعركة بصوت واحد. ولم أجد بين ما بيدي من مراجع شيئاً يعطيني المزيد من التفاصيل. أحالتني أستاذة في التاريخ الأمريكي إلى أستاذ آخر هناك, وأدهشني هذا أول الأمر, كيف لا أجد لديها إجابة شافية على سؤال كهذا? فقط وجدت هذا الأستاذ الآخر - فيما يبدو - عالماً وواثقاً. قال لي إن التصويت المشار إليه لم يكن في الكونجرس الأمريكي, بل في مجلس يمثل المستوطنين, كان اسمه (كونتيننتال كونجرس), ولم يكن موضوع التصويت اللغة الرسمية للولايات المتحدة, فالولايات المتحدة ليست لها حتى الآن لغة رسمية! كان التصويت على اللغة التي تدور بها جلسات هذه الهيئة, وقد انعقدت لأول مرة في مدينة فيلادلفيا سنة 1774 ثم مرة أخرى في 1781, وفي هذه المرة صدر إعلان استقلال أمريكا كدولة جديدة, وصدر بالإنجليزية لأنها كانت قد كسبت التصويت. وكما أشرت, فإن وينستون تشرشل يقول في كتاب له بعنوان (الجمهورية العظمى) إن التحالف الإنجليزي - الأمريكي يقوم على حقيقة أن (اللغة هي أقوى رباط في الحياة), وإن الكلمة هي الشيء الذي يبقى إلى الأبد, (الأهرام تتآكل, والجسور تصدأ, والقنوات تنسد, والحشائش تسد السكك, ولكن كلمات قيلت منذ ثلاثة آلاف سنة, تبقى معنا حتى الآن لأنها معالم الماضي الذي يظل جديداً ولامعاً وقويا) - ومعروف - طبعاً - إن هذا الاستعماري العجوز كان يريد أن يجر أمريكا إلى الحرب بأي ثمن, وكان يذكّرهم بأنه نصف أمريكي بحكم مولده من أم أمريكية, وتم له ما أراد, ولكن البروفسور الأمريكي أجابني بقوله: يستطيع أن يقول ما يشاء, ولكن الحقيقة تبقى وهي أنه بعد أن أصبحت الولايات المتحدة دولة مستقلة بحوالي نصف قرن, دخلت في حرب طاحنة مع بريطانيا سنة 1812 ودمّر الإنجليز مدينة واشنطون وأحرقوا مكتبة الكونجرس الشهيرة, مما أدى إلى إعادة إنشائها بنواة كانت هي المكتبة الخاصة لثالث رئيس أمريكي, توماس جيفرسون. يبدو أن المحاربين - القدماء والمحدثين على السواء - يهوون إحراق المكتبات.
كائناً ما كان الأمر, فالقوة الغاشمة هي نقيض العقل والحكمة, ويا لها من وصمة على وجه البشرية أن تظل الأمور تحسم بها, تستمر اللغات في الفناء بمعدل يصل إلى اثنتين أو ثلاث... كل شهر! ولايزال منها الآلاف يتحدث بها سكان مناطق بعيدة في حوض الأطلسي والجزر التي يمتلئ بها, يروى أنه في سنة 1492 قام العالم اللغوي الإسباني (أنطونيو نيبريجا), أسقف آفيلا, بوضع كتاب في نحو الإسبانية وصرفها, بمناسبة اكتشاف أمريكا, وقدمه إلى الملكة إيزابيلا, لأول مرة في تاريخ اللغات الأوربية يحدث فيها ذلك, اندهشت الملكة, ثم سألته: وما فائدة هذا الشيء? فأجاب: يا صاحبة الجلالة, إن اللغة هي الأداة الفعّالة في بناء الإمبراطوريات!
إلا أن الأمر لم يعد هذا, الإمبراطوريات أصبحت علوماً وتكنولوجيا قبل أي شيء آخر, والفنون أصبحت تعتمد على هذا وذاك, والـ(لنجوا فرانكا) هي التي تجد ما ظهر أمس متاحاً بها, اليابانيون أدركوا هذا جيداً, وبرغم أن لغتهم تحتل المركز التاسع بين اللغات العشر الأوسع انتشاراً (الأولى هي المانداران الصينية والأخيرة هي الألمانية! بمقياس ملايين المتحدثين) فإنهم يترجمون صباح اليوم ما ظهر مساء أمس, وبدقة وكفاءة, وبلغة متطوّرة, وفوق كل شيء, دون أخطاء طباعية, نحن نعيش عصر (الجاهز) - الـ (تيك أوي) كما هو واضح من هذه العبارة على لافتات شوارعنا!