جريدة الخليج
17 فبراير 2023
محمد السعيد إدريس
عندما تحدث المفكر الجزائري مالك بن نبي قبل ما يقرب من مائة عام عن تفسير أسباب استلاب الذات الوطنية لوعيها في علاقتها مع الغرب الاستعماري، وكيف أنها، أي هذه الذات، تبدو مدفوعة دفعاً نحو الانجرار وراء الغرب والتمسك به رغم فداحة الهوة بين الطرفين، أرجع ذلك إلى ما أسماه ب «القابلية للاستعمار»، وكان يعني أن الشعوب المستعمَرَة لديها استعداد غريزي لتبقى مستعمَرَة، متجاهلة كل دوافع ومبررات التحرر من الاستعمار.
حاول مالك بن نبي أن يفسر أسباب هذه الحالة المرضية، أي القابلية للاستعمار التي أدت إلى استلاب الهوية واللغة معاً لصالح هوية مشوهة مناطقية أو مذهبية، والنفور من اللغة العربية إما لصالح التحدث بلغة المستعمِر أو التحدث بلهجات عامية متنوعة غير موحدة كي تكرس انقسام الوطن لغة وهوية ويبقى أسيراً لهيمنة المستعمر، لكنه لم ينشغل كما يجب بالإجابة عن السؤال المهم والمحوري وهو: هل هذه الحالة المتأصلة لدى الشعوب العربية القابلة للاستعمار موروثة أم مكتسبة؟ بمعنى هل هذه الحالة ترجع لأسباب ذاتية خاصة بالشعوب أم هي محصلة برامج وسياسات اتبعتها الدول الاستعمارية كي تُبقي على سيطرتها وهيمنتها الكاملة.
المفكر الإيراني الشهير الدكتور علي شريعتي، الذي اغتيل في باريس قبل تفجر الثورة في إيران بسنوات قليلة على أيدي مخابرات شاه إيران (السافاك)، كان متوافقاً مع أطروحة مالك بن نبي تلك، لكن كان أشد قسوة في توصيفه ليس من منطلق «جلد الذات» وتأنيب الشعوب، بل من دافع تفجير حركة وعي مناهضة لاستلاب الذات بفعل أدوات التأثير الاستعمارية، لذلك أعطى مسمى أو مصطلح «القابلية للاستعمار». دور شريعتي لم يقتصر على تشخيص الحالة المتدنية لعلاقة المستعمرات بالدول المستعمِرة، لكنه قاد حركة وعي وطنية وكان من أبرز قيادات حركة توليد الوعي التحرري في إيران الذي انتهى بإسقاط حكم الشاه، كمدخل للتحرر الوطني.
هذه الظاهرة حظيت باهتمامات علمية وأكاديمية كثيرة خاصة في سنوات ثورات التحرر الوطني في الوطن العربي ودول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وظهرت تفسيرات كثيرة لظاهرة «استلاب الذات»، التي اقترنت ب «اغتراب الوعي» و«اغتراب اللغة» و«اغتراب الهوية»، ولدينا ثلاثة تفسيرات بارزة وصفت بأنها ظاهرة مكتسبة بفعل الآلة الاستعمارية، وليست ظاهرة موروثة، أي ليست متأصلة في الذات الوطنية للدول، أولها تفكيك الهوية الوطنية لصالح هويات فرعية جهوية ودينية وطائفية للحيلولة دون ظهور هوية وطنية جامعة، تكون مدخلاً لنشوء وعي وطني يقود إلى التحرر من الاستعمار. وثانيها استلاب اللغة بمحاربة اللغة الوطنية، وفي وطننا العربي كانت المعركة ضارية ومتركزة ضد اللغة العربية الفصحى، لأنها من ناحية إذا حظيت بالوعى والانتماء ستؤدي إلى بلورة هوية وطنية جامعة، تقود بالتبعية إلى بلورة هوية عربية جامعة يمكن أن تسفر في النهاية عن بلورة حركة سياسية تربط بين العروبة والإسلام بما يعنيه ذلك من توليد حركة وعي رافضة للظاهرة الاستعمارية من ناحية، ومقترنة من الناحية الأخرى بالطموح إلى تأسيس حركة نهوض حضاري يكون في مقدورها مقارعة ومنافسة الحضارة الغربية.
هذه التفسيرات مجتمعة يمكن الثقة بها لنفي أن القابلية للاستعمار ظاهرة أو عملية موروثة من ناحية، ومن ناحية أخرى لتأكيد أنها ظاهرة مكتسبة ومبرمجة بسياسات استعمارية مدروسة، فلماذا إذن استمرت حالة القابلية للاستعمار بدرجات لافتة ومزعجة فى كثير من الدول العربية، بعد موجة التحرر من الاستعمار وظهور الدول الوطنية العربية التى بلغ عددها الآن 22 دولة (متضمنة الدولة الفلسطينية)؟
السؤال مهم أمام استمرار ظاهرة استلاب الوعى، والاندفاع الجنوني نحو التغريب، أي الارتباط الاختياري بالغرب والتشبه به والتبعية له ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، وبالطبع تكنولوجياً، ولماذا انساقت دول عربية إلى تدمير ذاتها بحروب داخلية عرقية وطائفية ومناطقية؟ ولماذا تواجه الهوية الوطنية الجامعة داخل الدول تحديات أمام نزوع هويات فرعية تهدد بقاءها، ولماذا تحولت الهوية العربية الجامعة إلى حالة من التندر والسخرية باعتبارها مجرد نوع من أحلام اليقظة. ومع خفوت وتداعي الطموح نحو تأسيس هوية عربية جامعة تداعى بالتبعية الطموح إلى تأسيس مشروع عربي نهضوي. ولماذا يستمر الاندفاع نحو المزيد من الارتباط بالغرب والمزيد من الافتراق في العلاقات العربية – العربية رغم كل توصيات القمم العربية والمؤتمرات العلمية والأكاديمية بضرورة النهوض بالعمل العربي المشترك وآخرها القمة العربية الأخيرة في الجزائر؟
أسئلة تكشف حقيقة الأزمة العربية الراهنة والعلاقة بينها وبين الأزمة التي تواجه اللغة العربية والهوية العربية.