إسلام أونلاين
محمد القاسم
"لتحيا اللغة العربية.. ويسقط سيبويه" عنوان مثير لكتابٍ وضجةٍ كانا حديث الشارع الثقافي المصري في الأيام الأخيرة الماضية.
الكتاب للكاتب شريف الشوباشي وكيل وزارة الثقافة المصرية، وصدر مؤخرًا عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، وبمجرد صدوره أثار ضجة كبرى، قليلا ما يتسبب فيها كتاب يبحث في اللغة، إلى الحد الذي جعله موضوعًا لاستجواب في البرلمان اتهم المؤلف بمهاجمة اللغة العربية بخطاب المستعمر، وطالب بسحب الكتاب من الأسواق! ولأن كثيرًا من معاركنا يندلع وينتهي دون أن نعرف السبب الحقيقي، أو نطلع على أدلة الاتهام؛ فقد رأينا عرض ملخص لفصول الكتاب، وأهم ما فيه من أفكار.
لماذا يسقط سيبويه؟
يقع الكتاب في 195 صفحة من القطع المتوسط، تتوزع على مقدمة وعشرة فصول، وفي المقدمة يتناول أسباب تأليفه التي يجملها المؤلف في ثلاثة أسباب هي:
1- موقف مطبوعة "الألمناك"، وهى مطبوعة سنوية تحمل المعلومات الأساسية في كافة المجالات وآخر الإحصائيات العالمية، لم تعد تعتبر اللغة العربية قائمة بذاتها، فلغة التفاهم هي اللهجات المصرية والسورية والمغربية... أما اللغة العربية فصارت- عندها- لغة لقراءة الكتب والمراجع فقط. ويعلق الكتاب على موقف مطبوعة "الألمناك" قائلاً: ومن الممكن أن يكون أول رد فعل لنا أن ننتفض صائحين "هيهات... وموتوا بغيظكم أيها الحاقدون... والله هذا لن يكون أبداً"، "وأنا أقول إن شاء الله هذا لن يكون. لكن هذا لا يكفي؛ فهذه المطبوعة تعتبر من المطبوعات الجادة التي يعتد بها في العالم، وإن كانت لا تخلو من الأعراض الخبيثة، وخاصة حيال الإسلام والعرب".
2- تدريس بعض من الجامعات ومعاهد اللغات في أوروبا وغيرها اللهجات عوضاً عن العربية، فضلا عن اعتماد مراكز تعليم اللغة في البلدان العربية نفس الشيء مع الأجانب المبتدئين في تعلم لغتنا.
3- بعض المحاولات الجادة لتقعيد اللهجات العربية حتى تصير بمثابة لغات كاملة الأركان لها قواعد النحو والصرف الخاصة بها.
ويقرر الكاتب بعد ذلك أن الحالة التي تعيشها اللغة العربية الآن ليست وليدة الحاضر، وإنما هي قديمة "فاللهجات كانت موجودة دائماً.. واللغة الفصحى التي نرمز إليها أحياناً بلغة سيبويه لم تكن في يوم من الأيام لغة تفاهم وتعامل يومي، اللهم إلا في فترة قصيرة، وفي رقعة جغرافية محدودة بالجزيرة العربية". ثم يتساءل: ما الذي استجد حتى ننزعج اليوم من اقتحام اللهجات لحيز التعامل اللغوي بين العرب؟.
ويجيب بأننا نعيش في عصر العولمة التي تعني ذوبان الحدود بين الدول والتجمعات، وهيمنة ثقافة واحدة على العالم، وانكماش مقومات الثقافات الأخرى، وهو ما ستتأثر به اللغة باعتبارها من أبرز مقومات الشخصية الإنسانية. خاصة بعد أن جعلت وسائل الإعلام الحديثة أدوات التفاهم الشفهية تنافس المكتوبة، بل تتفوق عليها أحياناً، وكذلك المشروعات الغربية المطروحة على الساحة في بداية القرن الجديد التي تهدف إلى تمزيق أواصر العالم العربي واللغة أهم ما يربط بين العرب الآن؛ لذلك فليس أمام اللغة العربية إلا "أن تجدد نفسها فتبقى دائماً لغة العرب المشتركة.. أو أن تتقوقع على نفسها فتواجه بالفعل خطر الزوال لحساب اللهجات كما حدث للغة اللاتينية في القرون الوسطى".
الخطأ في نظرتنا للغة
ويرى الشوباشي أن اقترابنا من قضية اللغة مغلوط من أساسه، فهو يقوم على فرضية نعدها من المسلمات، وهي أن مشكلة اللغة تكمن في الناطقين بها من العرب.. والحقيقة أن الخطأ لا يقع بالكامل على مستخدمي العربية، لكنه يقع أساساً على اللغة نفسها. فيقول "لكل من يتعذب من جراء تعلم اللغة أو يشعر بعقدة نقص لعدم إجادته العربية لا تقلقوا.. فالعيب ليس فيكم، ولكنه في اللغة التي لم تشملها سنة التطوير".
ثم يضيف: "أنا أعتبر أن اللغة هي أحد عناصر تخلف العالم العربي، وأن تحجر البعض في تناول قضية اللغة من أسباب عملية إجهاض النهضة".
ويحاول الكاتب أن يخفف من وقع كلماته السابقة؛ فيختم مقدمته بقوله: "وبعيد عن ذهني تماماً هجر اللغة العربية لحساب اللهجات العامية، فاللغة العربية لغة التراث، وتجميع الشعوب العربية؛ ولهذه الحيثيات لا يمكنني أن أقف مع الداعين إلى هدم العربية، لكنني أطالب بإعادة النظر في القواعد الأساسية للغتنا".
وبعد هذه المقدمة الثرية التي تعد خلاصة وفية لما طرحه في الكتاب، يتعرض الكاتب في الفصل الأول - "برج بابل" - لأهمية اللغة في حياة الإنسان منذ بدء الخليقة، وكيف أنها مؤثرة في تطور المجتمعات، وتشكيل الوجدان الجماعي لها.
هل هناك لغة عالمية؟
ويحاول في الفصل الثاني الإجابة عن سؤال: هل هناك لغة عالمية؟ فيقرر أن طوال حقب التاريخ المتعاقبة كانت الأهمية التي تحظى بها اللغة انعكاسًا لقوة الدولة أو الحضارة التي تستخدمها. وفي العصر الحديث رغم الأهمية الكبرى التي تحظى بها اللغة الإنجليزية أو بمعنى أدق "اللغة الأمريكية" فإننا لا نستطيع أن نقول إنها لغة عالمية يفهمها الناس في العالم، فعدد المتحدثين بالإنجليزية اليوم كلغة أولى لا يتعدى 341 مليوناً كما يتضح من الجدول التالي:
اللغة |
العدد بالمليون |
الصينية |
874 |
الهندية |
361 |
الإنجليزية |
341 |
الأسبانية |
322 |
العربية |
240 |
البنغالية |
207 |
البرتغالية |
176 |
الروسية |
167 |
أما عدد من يجيدون الإنجليزية في العالم فلا يمكن معرفته بدقة، لكن التقدير الجزافي المتداول هو مليار إنسان يعيشون في قارات العالم الخمس، والفضل في هذه الهيمنة لا يرجع إلى إنجلترا إنما إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت الإنجليزية لغة رسمية منذ إنشائها في عام 1776م.
والآن أصبحت الإنجليزية هي الوحيدة المستخدمة في الندوات واللقاءات الدولية، والسبب في نجاح الإنجليزية لا يعزو للهيمنة الأمريكية فحسب؛ وإنما يعود إلى السهولة الشديدة لهذه اللغة، فقد نجح الإنجليز في غربلة وإزالة شوائبها، وقاموا بعملية تشبه ما يفعله الجزار الماهر عندما لا يُبقي إلا النافع والضروري.
رسالة إلى حراس الضاد
وجاء الفصل الثالث من الكتاب بمثابة "رسالة إلى حراس الضاد" اعتبر فيها أن أكبر خطر ستواجهه اللغة العربية يتمثل في أنصار التجمد ورفض التجديد.. "فلغتنا في حاجة إلى انتفاضة تحديثية عاجلة... وإلا فإنها قد تتعرض لخطر التقوقع وربما الاختفاء لا قدر الله؛ فالعربية هي اللغة الحية الوحيدة التي لم يطرأ على قواعدها الأساسية أي تعديل منذ أكثر من خمسة عشر قرناً".
"ولأن اللغة هي انعكاس لاحتياجات المجتمع في التفاهم والتعامل فلا يعقل أن تكون احتياجات المجتمع العربي الآن مماثلة لاحتياجات سكان البادية قبل ظهور الإسلام. فهل يعقل أننا نفكر الآن مثل البدو قبل الإسلام؟!".
هل العربية لغة مقدسة؟
ويحاول الكاتب في الفصل الرابع – "هل العربية لغة مقدسة؟"- أن يدلل على أن العربية ليست مقدسة رغم أنها تدين باستمرارها ووجودها إلى القرآن؛ ومن ثَمَّ لنا أن نتعامل معها كما يتعامل باقي البشر مع لغاتهم؛ لأن النظر إلى العربية على أنها لغة مقدسة كان سبباً في جمودها وتحنيطها، وإن مسألة قدسية اللغة قديمة وليست عند العرب فقط بل إن المصريين القدماء كانوا ينظرون إلى اللغة على أنها هابطة من السماء، وكذلك كثير من الشعوب. ويدلل على ذلك بأن فكرة قدسية اللغة وارتقاء الناطقين بها فوق مستوى باقي بني البشر هي فكرة تتناقض مع جوهر الإسلام الذي يقوم على المساواة بين أبناء الإنسانية.
ويأتي الفصل الخامس "المسيحيون والإسلام" امتداداً للفصل السابق، يحاول الكاتب فيه أن يقضي على فكرة قدسية العربية، من خلال إبراز دور المسيحيين في خدمة العربية وتطويرها بداية من الحقبة السابقة للبعثة وحتى العصر الحديث في كل المجالات من نشأة الكتابة إلى الأدب إلى الترجمة إلى الطابعة إلى الصحافة.
المتنبي يخاف من الإعراب
وبعد أن ينتهي الكاتب من فكرة "قدسية اللغة" يتناول في الفصل السادس الذي جاء تحت عنوان "المتنبي يخطئ في الإعراب" فكرة ألح عليها كثيرا في هذا الكتاب، وهي أن اللغة العربية "لم تكن في يوم من الأيام لغة تفاهم وتعامل يومي، اللهم إلا في فترة قصيرة، وفي رقعة جغرافية محدودة بالجزيرة العربية".
يبدأ الكاتب هذا الفصل بالأسباب التي تجعل العرب يعشقون لغتهم، ويجملها في أنها:
1- هي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.
2- هي اللغة التي خلف بها السلف تراثاً عظيماً.
3- لغة جميلة تتميز بموسيقية تلقائية تطرب الآذان.
4- لغة اشتقاقية لها مرونة وسهولة في استخراج الكلمات والتراكيب الجديدة.
ثم يتساءل: "من المفروض أن هذه المقدمات تؤدي إلى نتيجة إيجابية، وهي تمسك العرب بالتعامل بهذه اللغة ورفضهم لأي وسيلة أخرى للتعبير عن أنفسهم، لكن الواقع أننا هجرناها في تعاملاتنا اليومية.. والسبب في ذلك يعود إلى صعوبة العربية وتعقيدها؛ فالفصحى لا تلائم مقتضيات التفاهم ونقل المعلومات وتفسير حقائق العالم... وعندما شعر العرب بذلك استبدلوا العاميات بها".
ثم يعقب بقوله إن هذا الاستبدال ليس وليد الحاضر؛ بل هو قديم، والمتنبي وهو فارس العربية يقول:
فيهتدي لي فلم أقدر على اللحن |
وكلمة في طريق خفت أعربها |
"فالمتنبي يقول إنه خاف أن ينطق بلغة عربية سليمة – أثناء مطاردته- خوفاً من أن يكتشف الناس هويته؛ وهذا يدل على أن النطق بلغة سليمة يدل على أن المتكلم شخص غير عادي وخارق للعادة. فالنطق الخطأ إذن هو القاعدة. ومن لا يخطئ هو الاستثناء".
شيزوفرينيا لغوية
ويأتي الفصل السابع من الكتاب ليبرز حالة الازدواجية اللغوية التي يعيشها العالم العربي وخطورتها؛ فيبدؤه الكاتب بقوله: لعل أدق توصيف للحالة اللغوية التي يعيشها الإنسان العربي منذ قرون طويلة هو ما يطلق عليه في علم النفس "شيزوفرينيا"؛ فهو عندما يتحدث على سجيته في منزله وفي عمله وفي الشارع والسوق يستخدم اللهجة الدارجة السائدة في بلاده، لكنه عندما يقرأ الصحف أو يستمع إلى النشرات أو يقرأ الكتب فإنه ينتقل إلى لغة أخرى مختلفة هي العربية الفصحى.
ويقرر أن حالة الشيزوفرينيا اللغوية في الماضي كانت مقصورة على شريحة القادرين على القراءة والكتابة، وهي شريحة محدودة في المجتمعات العربية القديمة.. بينما هذه الحالة اتسعت مع انتشار التعليم، وهي تكلف العقل العربي إرهاقاً ذهنياً يحط من قدراته، كما تشتت من ملكاته الفكرية؛ فالعربي مهدد بانفصام في التفكير: هل يفكر بالفصحى أم بالعامية؟.
وهذه الحالة من وجهة نظره تطرح سؤالاً مفاده: هل تصبح اللغة العربية الفصحى مثل اللاتينية؟ أي تخرج لغات أخرى لكنها لا تستخدم في حد ذاتها وتتحول إلى لغة ميتة؟ وكالعادة يرجع الكاتب السبب في هذه الحالة إلى صعوبة اللغة العربية.
اللغة بين الغاية والتحنيط
وفي الفصل الثامن "غاية اللغة" يؤكد الكاتب على أن اللغة وسيلة وليست غاية، لكن من الواضح أن المجتمعات العربية تشذ عن هذه القاعدة؛ فاللغة عندنا هي غاية تنشد في حد ذاتها، فالعربي عاشق للغة ومتيم بها لذاتها؛ وليس لمجرد نقل المعلومات والتفاهم مع الآخرين، ومن ثَمَّ أصابته هذه اللغة -حسب زعمه- ببعض آفاتها: فاللغة العربية هي السبب في جعل العقلية العربية تركز على الشكل وتترك الجوهر، وتميل إلى المبالغات والكلام البعيد عن الواقع والعمل، وأنها السبب في نشر ثقافة الأذن والتأثر بالشائعات، وأنها نشرت فلسفة اللف والدوران والالتواء في المجتمع بواسطة بلاغتها، وتسببت في عدم اهتمامنا بالوقت لسذاجة الزمن فيها!.
ويأتي الفصل التاسع "ضد تحنيط العربية" ليؤكد على ضرورة تطوير اللغة العربية وخطورة تحنيطها، ويذكر أن تاريخ الفكر العربي زاخر بمحاولات التجديد والتطوير، ولكنها كانت دائماً تجد من يتصدى لها وينجح في إجهاضها –حسب زعمه-، والدليل على ذلك انتصار منطق مدرسة الكوفة على منطق مدرسة البصرة التي تعمل العقل.. ومن ثَمَّ يدعو إلى التطوير بشرط الحفاظ على اللغة الفصحى، وعدم استبدال اللهجات بها، أو عدم القضاء على أسس اللغة العربية؛ لأن هذا يقطعنا عن تراثنا وثقافتنا.
ثم يتعرض لبعض الصعوبات التي تواجه دارس اللغة العربية، ويدعو إلى التخفف منها، ومن أهمها من وجهة نظره:
1- أن الكلمة تأخذ معناها من التشكيل، وليس من موقعها في الجملة.
2- النقص الغريب في حروف العلة.
3- الوجوه الكثيرة لنطق الكلمة.
4- الأرقام واختلاف صورها باختلاف المعدود من حيث التذكير والتأنيث.
5- المفعول به.
6- المثنى.
7- جمع المؤنث وتصريف الفعل الناتج عنه.
8- كثرة المترادفات في اللغة العربية.
9- التعدد المفرط لمعاني اللفظ الواحد.
ثم يختم هذا الفصل بقوله: "إن مثل هذا الانفصام لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، وأخشى ما أخشاه أن تأتي حلول جذرية تفصل بيننا وبين تراثنا، ويكون حراس الضاد قد وصلوا إلى عكس مقصدهم".
ومع الفصل العاشر "الاستثناء العربي" يصل الكاتب بنا إلى نهاية المطاف، فيركز على أن قضية الإصلاح لا يمكن أن يكون لها استثناء، ويضرب مثلا بالعربي الذي يذهب إلى طبيب غربي فيعطيه الطبيب دواء مناسبا لحالته، فيعترض المريض قائلا هذا الدواء ينفع بلدك، لكنه لا ينفعني لأني عربي.. ويعلق على ذلك بقوله "للأسف نجد مواقف مشابهة لذلك الموقف العبثي عندما نرفض أفكارا واردة من الخارج بادعاء أنها تتناقض مع ثقافتنا وديننا.. وإذا اقتصرنا على مجال اللغة فإن التيار الغالب عندنا يقول كل لغات العالم قابلة للتطوير والإصلاح إلا لغتنا العربية".
وقبل أن يصل الكاتب إلى الدفة الثانية للكتاب يختتم بقوله: "أعلم أن الأفكار الواردة بهذا الكتاب ستكون بمثابة صدمة لبعض الذين اعتادوا السير في الطرق المعبدة التي مهدها السلف منذ قرون طويلة، ويسير عليها كل من جاء من بعدهم في حالة استكانة عقلية غريبة".